«صدمات الإنعاش» لا تنعش الصحافة الورقية الأردنية

نقاشات متواصلة من أجل الحصول على دعم حكومي

صحف إردنية (غيتي)
صحف إردنية (غيتي)
TT

«صدمات الإنعاش» لا تنعش الصحافة الورقية الأردنية

صحف إردنية (غيتي)
صحف إردنية (غيتي)

فقدت الصحافة الورقية الأردنية خلال السنوات العشر الأخيرة، صدارتها في صناعة الرأي العام المحلّي بعدما توسعت رقعة الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، مع تراجع مقابل لعوائد الإعلان التجاري الورقي الذي يؤشر مستثمرون على تراجعه بنسبة لا تقل عن 60 في المائة.

ورغم «صدمات الإنعاش» المالية العديدة، التي حاولت الحكومات المتعاقبة في الأردن توجيهها للصحف الورقية، خاصة التي تمتلك مؤسسات حكومية فيها حصصاً بوصفها شركات مساهمة عامة، فإن التضخّم الإداري لتلك المؤسسات الصحافية واعتمادها على الإيرادات الحكومية من دون أن تشكل منصاتها الرقمية منافساً جادّاً، تسببا في «تراجع التأثير». وهنا، لا ينفصل عن الصورة الكاملة أيضاً «حجم الرقابة» على أداء هذه المؤسسات، ما أفضى إلى تراجع مؤشر الحريات الصحافية، وفقاً لتقارير رصدية محلية عديدة ودولية.

الدكتور عمر الرزاز (رويترز)

جائحة «كوفيد - 19» أثرت سلباً

الواقع أنه منذ جائحة «كوفيد - 19». تراكمات أزمات الصحف الورقية، ولقد أمر رئيس الوزراء الأردني السابق عمر الرزّاز في مارس (آذار) 2020 بوقف طباعة الصحف والاكتفاء بالنشر الرقمي نتيجة تفشي «كوفيد - 19». قبل أن تعاود الصدور في يونيو (حزيران) من العام ذاته. إلا أن أثر هذا الانقطاع امتد لسنتين بسبب اشتراك المؤسسات الصحافية في برامج سميت بـ«استدامة»، وهي برامج طبقتها الحكومة على ما أسمته «القطاعات الأكثر تضرّراً»، تحمّلت فيها الكوادر الصحافية الأردنية في المؤسسات الثلاث اليومية الكبرى اقتطاعات مالية غير مسبوقة.

وبالتوازي، طالما شكّلت مطالبات المؤسسات الصحافية الحكومة بإعادة برمجة الدعم المالي لها في عهد حكومة بشر الخصاونة، وكانت حكومة هاني الملقي (2016 - 2018) قد اتخذت قراراً برفع سعر الإعلان الحكومي الورقي في 2017 بنسبة 120 في المائة للكلمة (من 25 قرشاً للكلمة إلى 55 قرشاً)، وكذلك الحال في عهد حكومة الخصاونة عام 2022 وتحديداً في شهر أكتوبر (تشرين الأول) حيث قرر مجلس الوزراء، رفع سعر الإعلان الحكومي مرة أخرى ليصبح ديناراً أردنياً للكلمة الواحدة في الإعلان.

وخلال النقاشات المتواصلة بين الحكومة وإدارات الصحف الورقية، تعددت مطالبات دعمها بين زيادة الإعلانات الحكومية عدا عن إعلانات التبليغات القضائية التي تستفيد منها غالبية الصحف الورقية الكبرى والصغيرة، وبين من طالب بتخصيص صندوق وطني لدعم الصحافة الورقية، إلا أن هذه المطالبة اصطدمت بتوّجه الحكومة لوضع معايير للاستفادة من مخصصات هذا الصندوق، وهو ما قوبل من المؤسسات بالرفض بحسب مصادر مطلعة أكدت لـ«الشرق الأوسط»، بدعوى الحاجة إلى «جهات مستقلة لوضع المعايير».

الدكتور بشر الخصاونة (د.ب.أ)

رواتب الصحافيين تفاقم الأزمة

في خضم كل ذلك، تشهد بعض هذه المؤسسات الصحافية، تعثراً في صرف الأجور الشهرية للعاملين، في بلد بلغ معدل التضخم فيه لشهر مايو (أيار) الحالي 2024 نحو 1.8 في المائة. وللعلم، لم تخل السنوات الماضية من تنفيذ قرارات تسريح وفصل تعسفي، بينما تتفاعل المعضلة الحقيقية المتعلقة بانتقال الصحف الورقية من خانة صناعة الخبر والرأي العام، إلى خانة نقل الخبر وملاحقته.

وباستثناء الإعلام الرسمي المموّل من الخزينة العامة، دخل الصحافيون على حسابات خط الفقر بعد توقف دخلهم، وتعثرهم في سداد مديونياتهم لصالح البنوك، وغيرها من مؤسسات الإقراض. وهذا حال كثيرين من زملاء المهنة الذين لم يجدوا دعماً من نقابتهم لتستمر معاناتهم وتداعياتها حتى يومنا هذا، بل إن نقابة الصحافيين الأردنيين قرّرت هذا العام تسجيل دعوى قضائية على عدة مؤسسات إعلامية وصحافية مختلّفة عن تسديد التزاماتها للنقابة منذ سنوات، وهي التزامات فرضها قانون نقابة الصحافيين، بتوريد ما نسبته 1 في المائة من أرباح هذه المؤسسات من الإعلان التجاري للنقابة، عدا عن الاشتراكات المالية السنوية.

وفي هذا الصدد، يشير التقرير المالي والإداري لنقابة الصحافيين الصادر في أبريل (نيسان) 2024. عن السنة المالية السابقة، إلى أن إيرادات النقابة الإجمالية قد بلغت في 2023 فقط 376 ألف دينار، يضاف لها من عوائد الـ«1 في المائة» نحو9 آلاف دينار أردني الواردة لها من المؤسسات الصحافية عن هذه النسبة. وبيّن التقرير أن الديون المتراكمة على الصحف اليومية كإيرادات غير متحصلة تحت بند الـ«1 في المائة»، قد بلغ مجموعها مليون و669 ألف دينار أردني.

نذكر هنا أن عدد الصحف اليومية في البلاد يبلغ الآن ست صحف هي: «الدستور»، وهي أقدم صحف المملكة، و«الرأي» و«الغد» و«الأنباط» و«صدى الشعب» و«نبض البلد»، وهذه الصحف تتوقف عن الطباعة يومي الجمعة والسبت، سعياً وراء تخفيض أكلاف الطباعة مع استمرار عمل منصاتها الإلكترونية، غير أن بعض الصحف الورقية ما تزال تُبالغ في طباعة عدد الصفحات والملاحق على حساب المحتوى الجاذب.

تعددت الأسباب والنتيجة واحدة

يقول رئيس تحرير أسبق لإحدى الصحف اليومية إلى «الشرق الأوسط»، فضل إغفال اسمه، إن أزمة الصحافة الورقية كانت «بخذلان الحكومات لها». وفي ذروة قوة الصحف اليومية، عندما كانت تطبع عشرات الآلاف من نسخها وتجني أرباحها بفعل الإعلانات التجارية والاشتراكات، كانت حكومات تستخدمها «لترويج سياساتها، حتى لو على حساب مؤشر الثقة لدى جمهور القراء».

ثم يضيف قائلاً إنه بلغ الأمر في زمن حكومات ليست بعيدة بأنها «عيّنت أرقاماً زائدة على اللزوم من كوادر الصحف اليومية، بل وعيّنت كذلك قيادات صحافية وتدخلت في مساحات النشر، وكان مقص الرقيب الرسمي مسلطاً على رقاب رؤساء تحرير والقيادات الصحافية». ويستطرد: «... وكانت بعض الحكومات تُرسل مقالات تُبجل سياساتها بأسماء مستعارة ووهمية». ويؤكد رئيس التحرير الأسبق أن كل تلك التدخلات كانت على حساب مصداقية ما تنشره الصحف شبه الرسمية، وأنه بعد «الربيع الأردني» عام 2011 بدأ مؤشر الثقة بمضامين الصحف الورقية بالانخفاض، ولم تهتم الحكومات بانخفاض معدل إيرادات الصحف من الإعلانات التجارية، بسبب قلة إقبال القراء على شرائها أو الاشتراك بها.

وحقاً تشير دراسة بحثية علمية، كانت الأولى من نوعها، وأعدها معهد الإعلام الأردني (معهد متخصص في منح درجة الماجستير في الإعلام) عام 2022. إلى تراجع حاد في متابعة الأردنيين للصحف الورقية كمصدر للأخبار وبما نسبته 2 في المائة فقط. في حين أشارت الدراسة التي نُفّذت على عيّنة ممثلة لمحافظات المملكة، حجمها 1800 شخص، إلى أن القنوات التلفزيونية تتمتع بترتيب متقدّم في اعتماد الجمهور عليها في الوصول إلى الأخبار، وهي الأكثر ثقة ومصداقية في أخبارها، بل حققت القنوات التلفزيونية العامة المصداقية الأعلى بين وسائل الإعلام كافة.

كذلك أوضحت الدراسة، أن هناك تراجعاً كبيراً في الاعتماد على الصحافة اليومية، كما أن هناك تراجعاً في ثقة الجمهور بالوظيفة التفسيرية والتحليلية للشؤون العامة الأردنية، وذلك وفق عدد المتابعين ومستوى الثقة بما يُطرح في الإعلام من آراء وتحليل. ومن ناحية أخرى تبين أن شبكات الإعلام الاجتماعي، وتحديداً «فيسبوك»، باتت تعدّ المصدر الأول للأخبار لدى الأردنيين، وإن كانت في الوقت نفسه الأقل ثقة ومصداقية.

ومع أن حكومة هاني الملقي (2016 - 2018) والحكومة الحالية قررتا زيادة سعر الإعلان الحكومي في الصحف، فإن هذا القرار لم يحقق نقطة التعادل في الإيرادات والنفقات في المؤسسات الصحافية، لا سيما أن بعضها قد تراكمت ديونه وبيعت أصوله، ولم تنجح المبادرات في التحول الرقمي من تخفيض كلف الورق والحبر والطباعة. والواقع أن «الشرق الأوسط» تحتفظ بأرقام مديونيات صحف لم تأخذ الإذن في نشرها.

أزمة مصطلحات وتعريفات

في أي حال، يعمل راهناً في المملكة نحو 19 محطة فضائية و39 إذاعة، وكذلك 156 موقعاً إخبارياً على الفضاء الإلكتروني، من بينها 18 موقعاً مرخصاً لأحزاب سياسية. ولكن كل هذا وسط تراجع ملحوظ لمتوسط مداخيل الصحافيين، كما يغلب طابع التغطية الخدماتية على محتوى هذه المؤسسات، بدلاً من مساءلة السلطات العامة وانتقاد سياساتها.

أيضاً، لا يوجد تعريف محكّم لمفهوم الإعلام الرسمي والمستقل في البلاد، فمعظم الصحف تكاد تتشابه في عناوينها ومضامينها وفق مراقبين، وسط غياب «لافت» لمقالات الرأي، التي كانت تؤثر نسبياً في المزاج العام. وباستثناءات محدودة قد يكون كتّاب الرأي المتفاعلون غائبين عن ورق الصحف اليومية، وذلك إما بسبب عدم تخصيص مخصصات لهم أو التعثر في دفع الرواتب، أو لتراجع سقوف الحريات وسط تعدد أزمات الصحافة الورقية، وتنامي الأذرع الإعلامية «الرسمية الموجهة» على حساب الإعلام المستقل. ومن ثم، أصبحت معايير التجربة الأردنية المهنية، وخاصة الإعلام الاستقصائي غير حاضرة في ملفات مهمة.

وختاماً، يمكن القول إن الحاصل لدى جمهور النخب التقليدية في الأردن، هو أن الصحافة الورقية - وحتى المحتوى الخبري - صارت مرهونة بالكامل لمرجعيات رقابية، على حد وصف مراقبين، تسمح لها بالبقاء لكنها لا تسمح لها بالانتعاش. وبالتوازي، ترفض قيادات الصحف رفع صوتها بعيداً عن الخط الرسمي، الذي يلزمها السير ضمن خطوط مرسومة مسبقاً.


مقالات ذات صلة

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

العالم العربي ندوة «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر

«امسك مزيّف»... استنفار مصري لمواجهة «الشائعات»

حالة استنفار تشهدها مصر أخيراً لمواجهة انتشار «الشائعات»، تصاعدت مع إعلان «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، الثلاثاء، عزمه إطلاق موقع «امسك مزيف».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام إدمون ساسين (إنستغرام)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري التقى رئيسة الإدارة الوطنية للإذاعة والتلفزيون الصينية كاو شومين (واس)

شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص

اختتم وزير الإعلام السعودي، اليوم، أعمال برنامج الشراكة الإعلامية السعودية الصينية، وشهدت الزيارة إبرام اتفاقيات وبرامج تنفيذية وورش عمل بين الجانبين.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام توقيع مذكرة تفاهم للتعاون بين منصة سعوديبيديا وجامعة بكين للغات والثقافة (الخارجية السعودية)

مباحثات سعودية - صينية في بكين لتطوير التعاون الإعلامي

التقى سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، في بكين، اليوم الخميس، مدير مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني مو قاو يي.

«الشرق الأوسط» (بكين)
إعلام ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية

إيلي يوسف (واشنطن)

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.