ألمانيا: اعتماد الإعلام «اللغة البسيطة» يكشف عن مدى عُمق الحساسيات السياسية... والعنصرية

«القناة الأولى» تطلق نشرات أخبار تستهدف قطاعاً له ظروفه الخاصة

نجم الكرة الألماني التركي الأصل إيلكاي غوندوان (غيتي)
نجم الكرة الألماني التركي الأصل إيلكاي غوندوان (غيتي)
TT

ألمانيا: اعتماد الإعلام «اللغة البسيطة» يكشف عن مدى عُمق الحساسيات السياسية... والعنصرية

نجم الكرة الألماني التركي الأصل إيلكاي غوندوان (غيتي)
نجم الكرة الألماني التركي الأصل إيلكاي غوندوان (غيتي)

«في بريطانيا يمكن لملايين السكان انتخاب برلمان. رئيس الحكومة هو ريتشي سوناك. حزب سوناك هو حزب المحافظين، بالإنجليزية (توريز). الكثير من السكان يقولون إنهم يجدون حكومة المحافظين غير جيدة. يريدون حزباً آخر، هو حزب العمال، بالإنجليزية (لايبور)...».

هكذا بدأت نشرة الأخبار الرئيسية بـ«اللغة البسيطة» على «القناة الألمانية الأولى» قبل بضعة أيام.

جُمل قصيرة باللغة الألمانية وتعابير غاية في السهولة وتفسير وخلفية مفصّلة وبسيطة لكل خبر. وحتى مذيعة النشرة تقرأ الأخبار بشكل أبطأ من العادة.

النشرة التي بدأتها «القناة» منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي، تستغرق 7 دقائق وتعرض لأهم 3 أو 4 أخبار تتناولها النشرة الرئيسية باللغة الألمانية العادية. وتُبث النشرة بـ«اللغة البسيطة» على موقع «القناة» قبيل النشرة الأساسية... وهدفها الوصول إلى «قرابة 17 مليون شخص بالغ في ألمانيا يجدون صعوبة في فهم النصوص المعقّدة»، وفق ما أوضحته «القناة» في تفسيرها إطلاق النشرة التي تثير اليوم الكثير من الجدل.

أصحاب الحاجات

شعار "القناة الالمانية الأولى"

والظروف الخاصة

«القناة الألمانية الأولى» تستند إلى دراسة أُجريت عام 2018، وأظهرت أن في ألمانيا نحو 17 مليون شخص بين سن الـ18 وسن الـ64 يقرأون ويكتبون بمستوى أطفال في الصف الرابع وأسوأ... أي طفل في سن الـ10 سنوات. وتذكر الدراسة أيضاً أن هؤلاء الأشخاص إما ما زالوا يتعلمون اللغة الألمانية، لم يحصلوا على تعليم كافٍ، أو يعانون مشاكل في السمع والقراءة، أو صعوبات في التعلم، أو يعانون أمراضاً ناجمة مثلاً عن جلطات. ومن ثم، تقول القناة إن نشرتها الجديدة موجّهة «إلى كل هؤلاء الأشخاص، ولكن أيضاً إلى مَن يريد أن يحصل على معلومات سريعة وسهلة بعد يوم عمل شاق».

ماركوس بورنهايم، رئيس تحرير «القناة»، أفاد بأنها تريد بهذه النشرة «أن تستهدف شريحة جديدة من المشاهدين الذين نريد أن نقدّم لهم معلومات سياسية أو رياضية أو ثقافية ودولاً أخرى». ومع ذلك، تحرص «القناة» على أن تقدم مضموناً شبيهاً بمضمون النشرة الرئيسية، ولكن بقالب مختلف. وأوضح برونهايم أن «التقارير والأخبار تعاد صياغتها بشكل كامل، والنصوص تفترض معرفة قليلة ويصار إلى قراءتها بوتيرة أبطأ». أما مديرة المشروع، سونيا فيلو، فشرحت أن الكتابة بـ«اللغة الألمانية البسيطة» غالباً تأخذ في الاعتبار «التحدّيات الثقافية والتعليمية التي يكابدها الأشخاص المستهدفون، وكثيرون من هؤلاء ما عادوا يعيرون انتباهاً للأخبار لأنهم عاجزون عن فهمها؛ ولذا فإننا بتنا نفسّر خلفية الخبر قبل أن نبدأ به».

النائب المتطرف ماكسيميليان كراه (رويترز)

الشقّ العنصري المتطرف

من جهة ثانية، على الرغم من أن النشرة الجديدة لاقت ترحيباً من الداعين إلى المزيد من الاندماج، فإن التعليقات الهازئة باللغة التي تعتمدها النشرة أغرقت وسائل التواصل الاجتماعي. وكتب أحدهم على منصة «إكس» إن النشرة «أشبه بتلفزيون الأطفال»، بينما كتب آخر: «عندما تسمع النشرة تصبح أكثر غباءً». إلا أن رد الفعل الأسوأ جاء من حزب «البديل لألمانيا» (يمين متطرف) ونائبه (المعلّق العضوية) في البرلمان الأوروبي ماكسيميليان كراه الذي أثار أخيراً جدلاً كبيراً دفع بحزبه إلى التخلي عنه والطلب منه ألا يتسلّم المقعد الذي كسبه في الانتخابات الأوروبية الشهر الماضي.

كراه، الناشط جداً على منصة «تيك توك» نشر فيديو يهزأ فيه من النشرة، ويصفها بأنها «نشرة للأغبياء»، ويصف القناة بأنها «تريد تلقين المشاهدين رسائل» معينة. أما الجدل الذي أثاره هذا السياسي اليميني المتطرّف – قبيل الانتخابات الأوروبية – فكان رفضه وصف رجال قوات الأمن النازية الخاصة المعروفة بالـ«إس إس» بأنهم مجرمون. وما يُذكر أن قوات الـ«إس إس» كانت مسؤولة عن تأسيس وإدارة معسكرات الموت النازية التي قُتل فيها الملايين، وقد حوكم عدد كبير من قادتها في محاكمات نورنبرغ الشهيرة بعد نهاية الحرب وهزيمة النازيين.

وحقاً، صدرت انتقادات مشابهة من إعلام يميني شعبوي مقرّب من «البديل لألمانيا»، فكتبت إليزا ديفيد في موقع «أبولو» مقالاً وصفت فيه النشرة بأنها تهدف «إلى توسيع شريحة الأشخاص الذين يسهل التلاعب بهم بسبب عوائق اللغة التي لديهم»، وعنونت مقالها «الأخبار اليومية بلغة بسيطة - عندما يعتبر الأغبياء (الأشخاص الأغبياء) أغبياء».

في المقابل، علّق عدد من المنظمات المعنية بالتنوّع والاندماج على التعليقات السلبية، خاصةً تعليقات كراه. وأصدرت بياناً مشتركاً قالت فيه إن «اللغة البسيطة تجعل من المشاركة أسهل بالنسبة للكثير من الأشخاص في بلدنا... والاستهزاء بجميع مَن يعتمد على اللغة البسيطة يُظهر مرة أخرى أن غاية حزب البديل لألمانيا منع قيام مجتمع مندمج ومتنوّع؛ ولذا يعمل على الإقصاء».

أزمة سياسية أصلاً

الواقع، أنه غالباً ما يُعرِب ساسة من حزب «البديل لألمانيا» عن امتعاضهم من «التنوع» في المجتمع الألماني. والنائب المتطرف كراه، نفسه، كان قد علّق بصورة سلبية على المنتخب الألماني لكرة القدم بسبب ضمه لاعبين أفارقة وأتراكاً، واعتبر أن المنتخب «لا يمثل ألمانيا»، وقال إنه غير عابئ بدعمه في مباريات كأس الأمم الأوروبية «يورو 2024».

وحول هذه النقطة تزايد النقاش في ألمانيا أخيراً حول التنوع والاندماج، ولقد تزايد أخيراً مع كون المنتخب الألماني مادة لاستطلاع أجرته «القناة الألمانية الأولى» وسألت فيه قبل بدء البطولة عمّا إذا كان الألمان «يفضّلون أن يروا عدداً أكبر من اللاعبين البيض داخل المنتخب الوطني». وكان الجواب بالإيجاب من 20 في المائة من المستطلعين، وهو أمر أثار غضب مدّرب المنتخب، فقال: «لا يُصدق أن القناة الألمانية الأولى ممكن أن تطرح سؤالاً كهذا».

وفي هذه الظروف حاول الساسة الألمان توجيه رسالة ضمنية بضرورة تقبّل واندماج التنوّع عبر التعبير عن تأييد المنتخب. وحرص المستشار أولاف شولتس على حضور جميع مباريات المنتخب، إلى جانب وزراء آخرين في حكومته، بينهم وزيرة الخارجية أنالينا بيروبوك ووزير الصحة كارل لاوترباخ. إلا أن الجدل حول الهجرة والمهاجرين تصاعد بوتيرة ثابتة خلال السنوات الماضية، وهو جدل يستفيد منه «البديل لألمانيا» الذي حقق مكاسب كبيرة في الانتخابات الأوروبية وحلّ ثانياً بعد الحزب المسيحي الديمقراطي (يمين معتدل)، وهو يتجه لتحقيق مكاسب أكبر في الانتخابات المحلية في الولايات الشرقية للبلاد في نهاية سبتمبر (أيلول) ومطلع أكتوبر (تشرين الأول) المقبلين.



اليمين المتطرف يسترد مساحته في الإعلام أوروبياً وأميركياً

برلوسكوني... رائد هيمنة اليمين على الإعلام الأوروبي (رويترز)
برلوسكوني... رائد هيمنة اليمين على الإعلام الأوروبي (رويترز)
TT

اليمين المتطرف يسترد مساحته في الإعلام أوروبياً وأميركياً

برلوسكوني... رائد هيمنة اليمين على الإعلام الأوروبي (رويترز)
برلوسكوني... رائد هيمنة اليمين على الإعلام الأوروبي (رويترز)

منذ وصول الفاشيين إلى الحكم في إيطاليا مطالع القرن الفائت، وصعود النازية إلى السلطة في ألمانيا على أعتاب الحرب العالمية، لم تشهد الدول الغربية مثل هذا الاهتمام الذي توليه اليوم وسائل الإعلام بالموجة اليمينية المتطرفة والشعبوية، التي تنداح على امتداد القارة الأوروبية، وتضرب جذوراً في الأميركتين الشمالية والجنوبية.

الصحافة الإيطالية الليبرالية، وفي طليعتها «لا ريبوبليكا» و«لا ستامبا»، تخصّص كل يوم مساحات واسعة لظاهرة عودة اليمين المتطرف، الفاشي الجذور، إلى الحكم، ومحاولاته الدؤوبة للتمويه والتبرّج، بغية الظهور بحلّة الاعتدال ونفض الصورة التي لازمته طوال فترة حكمه السابقة، وكانت سبب حظره الدستوري بعد سقوطه.

وفي إسبانيا تفرد جريدة «الباييس»، وهي الأوسع تأثيراً في البلدان الناطقة بالإسبانية، منذ العام الماضي، باباً للتحقيقات والمقالات التحليلية التي تتناول نشاط اليمين المتطرف بعد دخوله بقوة إلى البرلمان، ومشاركته في عدد من الحكومات الإقليمية، للمرة الأولى، منذ سقوط ديكتاتورية الجنرال فرانشيسكو فرنكو.

أيضاً مجلة «التايم» الأميركية تحذّر منذ أشهر، مع «الإيكونوميست» البريطانية، من أن خطر الصعود اليميني المتطرف والأحزاب القومية على الديمقراطيات الغربية بات مُحدقاً وحقيقياً. والوسائل المتخصصة في التحليلات السياسية العميقة مثل «بوليتيكو» و«فورين بوليسي» تخشى، بدورها، ما تعدّه تداعيات كارثية على الحريات والنظام الديمقراطي في حال استمرار صعود الظاهرة اليمينية المتطرفة ورسوخها في الدول الغربية.

أما صحيفة «لوموند» الفرنسية الرصينة فهي لم تنفكّ منذ سنوات عن التحذير من مخاطر وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، وتدعو في افتتاحياتها ومقالاتها التحليلية إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي الفرنسي، لتحصينه ضد ما سمّته «الخطر الداهم» على القيم والمبادئ الجمهورية.

الصفحة الأولى من "إل باييس" الإسبانية (إل باييس)

ملكية المؤسسات الإعلامية

لكن في حين تتوافق غالبية وسائل الإعلام الغربية الكبرى على هذه التحذيرات، يُلاحظ أن معظمها قد أصبحت بيد حفنة من المؤسسات الاقتصادية والمالية المعروفة بميولها المحافظة، وجنوحها التقليدي نحو دعم القوى السياسية والاجتماعية المتشددة. والمعروف أن هذه المؤسسات، وامتداداتها المتشعّبة، لعبت دوراً بارزاً في إخماد نشاط الأحزاب والقوى التقدمية واليسارية والليبرالية وأسهمت في انحسارها، لا بل في انهيارها كلياً في بعض الحالات.

وحقاً، كثيرة هي أصابع الاتهام التي تشير إلى دور المؤسسات الإعلامية الكبرى، ومسـؤوليتها عن صعود الحركات اليمينية والشعبوية. وهناك مثال واضح يتجسّد في الدور الأساسي الذي لعبته القنوات التلفزيونية والصحف التي كان يملكها رئيس الوزراء الإيطالي الثري الراحل سيلفيو برلوسكوني في نزوله إلى المعترك السياسي، وصعوده فيه، ثم وصوله إلى الحكم ثلاث مرات.

لقد شهدت الديمقراطيات الغربية منذ مطلع هذا القرن تحولاً ملحوظاً في المشهد الإعلامي، كانت له تداعيات عميقة على النقاش السياسي العام؛ إذ أحدث هذا التحوّل خللاً في توازن حرية التعبير جاء لمصلحة التطرف والاستقطاب الحاد، وباتت النظم الديمقراطية تشهد أزمات قوّضت كثيراً من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها: التشكيك في نتائج الانتخابات، ورفض الموضوعية في وسائل الإعلام، والتعاطي مع الخصوم السياسيين بوصفهم أعداء، فضلاً عن إباحة العنف السياسي الذي غدا من السمات الرئيسية للحملات الانتخابية والنقاش العام. بمعنى آخر، صار جوهر النظام الديمقراطي، الذي يقوم على حرية التعبير، بصفته مدخلاً للحوار والنقاش المفضي إلى قرارات تقبل بها الأقلية والغالبية؛ موضع تشكيك وجدل في معظم الحالات.

شعار منصة (ٕكس) فوق أحد مقراتها في سان فرانسيسكو (رويترز)

منصّات التواصلهذا الواقع الجديد، مشفوعاً بالحضور الواسع والمتعاظم لوسائل التواصل، حرم المنظومة الإعلامية من أن تلعب أحد أدوارها الأساسية بصفتها منتدى للمناظرة ومناقشة المقترحات بأسلوب موثوق يعكس تعدد الآراء ويحترمها. وكان لمنصات التواصل دور فاعل جداً في تشكيل معارك المشهد السياسي الجديد، خصوصاً في ظهور القوى الشعبوية المتطرّفة المناهضة للنظام القائم، حتى إن بعضها، مثل «النجوم الخمس» في إيطاليا أو «فوكس» في إسبانيا، نشأ حصراً على هذه المنصات التي ما زالت تشكّل قاعدة نشاطها الأساسية.

أيضاً، كان الصراع الجيوسياسي العالمي المحتدم منذ سنوات من العوامل البارزة التي ساعدت على صعود الحركات والقوى الشعبوية واليمينية المتطرفة، وتالياً زيادة الاستقطاب في المشهد السياسي الأوروبي. فروسيا الاتحادية سخّرت إمكانات ضخمة لدعم الأحزاب التي تعارض توسيع حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في اتجاه البلدان المجاورة التي كانت ضمن دائرة نفوذ موسكو في السابق، كما دعّمت القوى التي ترفض مواصلة تقديم الدعم العسكري إلى أوكرانيا.

والصين، من جهتها، تستخدم منذ سنوات أساليب متعددة للتأثير في المشهد الإعلامي الغربي ومحاولة التغلغل فيه، مثل نشر مواد إعلامية تدعم مواقفها وسياساتها في بعض الوسائل الكبرى، واللجوء إلى التهديد غير المباشر -عن طريق الضغط الاقتصادي- ضد الوسائل التي تنشر مواد تنتقد سياسة بكين، وتنشط في المضايقة «السيبرانية» عبر حسابات مزوّرة على منصّات التواصل الاجتماعي وحملات تضليلية منتظمة.

ولقد تنبّه الاتحاد الأوروبي أخيراً إلى تعاظم هذا التدخّل الروسي والصيني، ومخاطر تأثيره في المشهدين الإعلامي والسياسي. وهو في صدد إنجاز اقتراح جديد لتنظيم القطاع الإعلامي؛ بهدف تحصينه ضد هذا التدخل... الذي تفيد آخر التقارير بأنه بلغ في الأشهر الأخيرة مستويات مقلقة جداً من حيث تأثيره في كثير من العمليات الانتخابية في بلدان الاتحاد.