كشف تقرير «مختبر ديوك ريبورترز» عن تراجع عدد مواقع تقصي الحقائق النشطة خلال العام الحالي مقارنة بالعام الماضي، وتباطؤ معدل زيادة عدد المواقع العاملة في هذا المجال مقارنة بالسنوات الماضية، ما أثار تساؤلات بشأن تأثير هذا التراجع على معدل انتشار الأخبار الزائفة عالمياً. وفي حين يرى خبراء أن هذا التباطؤ نوع من الاستقرار في سوق تقصي الحقائق، يتوقع آخرون أن تشهد الفترة المقبلة نمواً في العدد لمواجهة الخلل المعلوماتي الناتج عن تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ووفقاً للتقرير الصادر يوم 21 يونيو (حزيران) الحالي، فإن عدد مدققي الحقائق النشطين بلغ 417 مدققاً خلال عام 2023، يعملون في أكثر من 100 دولة، وبـ69 لغة، مقارنة بـ424 مدققاً العام الماضي. وأشار إلى أن «السنوات الماضية شهدت نمواً صاروخياً لمواقع تدقيق الحقائق، لترتفع من 11 موقعاً عام 2008 إلى 424 موقعاً عام 2022»، لكن «هذه الوتيرة المتسارعة بدأت في التباطؤ، رغم ازدياد المخاوف في أنحاء العالم من انتشار الأخبار الزائفة، والأكاذيب السياسية».
التقرير لفت أيضاً إلى أنه «منذ عام 2018، ازداد عدد مواقع تدقيق الحقائق بنسبة 47 في المائة، ومع أن هذه زيادة تبلغ 135 موقعاً، فالزيادة أبطأ بكثير مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، عندما كانت الأعداد تنمو بمعدل يصل إلى الضعف أو أكثر».
ومن ثم، أورد التقرير وجود «عوامل إقليمية أثرت في عمل مدققي الحقائق، لا سيما مشاكل الصحة العام، وكوارث المناخ، والحرب الروسية - الأوكرانية». وأضاف أنه «قبل عام 2020 كانت هناك طفرة كبيرة في النمو مشروعات تدقيق الحقائق في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا الجنوبية، في ظل تباطؤ بأميركا الشمالية... بيد أن حركة تدقيق المعلومات بدأت تستقر في معظم أرجاء العالم منذ عام 2020».
استدامة مشروعات تدقيق المعلومات كانت من المؤشرات الإيجابية التي رصدها التقرير الأميركي. وأشار إلى أن «ما يقرب من نصف مواقع تدقيق الحقائق التي رصدها التقرير يعمل منذ 5 سنوات أو أكثر، وبعضها يعمل منذ 10 سنوات... وأن متوسط العمر الافتراضي لأي موقع نشط لتقصي الحقائق أقل من 6 سنوات». ولفت إلى أنه بعد عام 2019 بدأ عدد المواقع الجديدة المختصة بتدقيق المعلومات ينخفض بشكل مطرد، ليتراجع معدل النمو عام 2022 بنسبة 72 في المائة مقارنة بما كانت عليه النسبة قبل 3 سنوات.
أستاذ الصحافة في جامعة ديوك الأميركية مارك ستنسل، وصف في لقاء مع «الشرق الأوسط» وضع سوق تدقيق الحقائق بـ«المستقر»، وأردف أن «فترة جائحة (كوفيد - 19) أسهمت في حالة استقرار النمو وثبات مواقع تقصي الحقائق». وأوضح أنه «كانت هناك حاجة كبيرة لتدقيق الحقائق خلال هذه الأزمة الصحية العالمية... وعمل معظم مدققي الحقائق على مواجهة جميع الادعاءات الكاذبة والمضللة حول الفيروس، إلا أن تلك الفترة لم تكن فترة سهلة لإطلاق مشاريع جديدة، فعلى الرغم من الحاجة الكبيرة، كانت الأوضاع الاقتصادية».
ستنسل رأى أن «هذا التباطؤ في مجتمع تقصي الحقائق، سيؤدي إلى زيادة قدرة عدد من السياسيين ومروّجي الشائعات على نشر جميع أنواع المعلومات الخاطئة والمضللة، دون أن يجد رادعاً أو مساعدة لفرز الحقائق من فريق متخصص في هذا الشأن، لا سيما أن الجمهور العادي من الصعب أن يقوم بعملية الفرز هذه».
وحقاً، أفاد التقرير بأن فترة جائحة «كوفيد - 19» أسهمت في تباطؤ النمو، إلى جانب التبني واسع النطاق لتدقيق المعلومات من قبل الصحافيين والباحثين، ما أدى إلى زيادة المهتمين بالمجال على المستوى الفردي، مع تراجع الحاجة إلى مؤسسات متخصصة في تدقيق المعلومات.
وثمة مشكلة أخرى أشار إليها؛ هي أن «مؤسسات تقصي الحقائق تعمل في 108 دول حول العالم، وهو نصف عدد الدول المعترف بها في الأمم المتحدة... ما يعني أن هناك عدداً قليلاً من الأماكن التي يمكن لمدققي الحقائق أن يتجذّروا فيها، لأن إطلاق هذه المشروعات يكون أمراً صعباً في الغالب».
وأوضح أنه لا توجد في بعض البلدان منظمات لتقصي الحقائق حتى الآن، «وهي دول يجد الصحافيون صعوبات لدى العمل فيها، بحسب مؤشر حرية الصحافة العالمي». واستطرد أن «العمل في مشروعات لتقصي الحقائق ليس أمراً سهلاً في دول مثل روسيا وكوريا الشمالية».
ولفت ستنسل، الذي يعمل أيضاً مديراً مشاركاً لـ«مختبر ديوك ريبورترز»، إلى أن بعض مشروعات تقصي الحقائق موجودة داخل مؤسسات إعلامية، وفي ظل الوضع الاقتصادي الحالي لغرف الأخبار، وسعيها للحفاظ على بقائها، بات من الصعب أن تطلق مشروعات جديدة حتى لو كان ذلك بهدف تدقيق الحقائق.
وبالفعل، لاحظ التقرير أن «سلامة الصحافيين والعاملين في تقصي الحقائق ببعض دول العالم، ربما تكون أحد الأسباب التي أدت إلى تباطؤ ظهور مشروعات جديدة في هذا المجال». وأشار إلى أن 15 دولة من بين 31 مصنفة دولة «خطرة» في مؤشر حرية الصحافة لعام 2023، ليس لديها أي موقع لتقصي الحقائق، من بينها كوريا الشمالية وفيتنام وروسيا ونيكاراغوا. وأنه في بعض الحالات يضطر مدققو الحقائق للعمل في أجزاء أخرى من العالم، أو حتى إلى إخفاء هويتهم، لحماية أنفسهم. وأضاف التقرير أن «هناك فرقاً لتدقيق الحقائق في 108 دول حول العالم، لكن ما يزيد قليلاً على نصف الدول الممثلة في الأمم المتحدة لديها منظمة واحدة على الأقل تعمل في مجال تقصي الحقائق لوسائل الإعلام الرقمية أو الصحف أو التقارير التلفزيونية أو الإذاعة».
فادي رمزي، مستشار الإعلام الرقمي والمحاضر في الجامعة الأميركية بالقاهرة، يرى أن «حالة الاستقرار الحالية في عدد مواقع تقصي الحقائق ترجع إلى الاستقرار الذي حدث عقب الجائحة»، وأوضح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ابن فترة جائحة «كوفيد - 19» سجلت خطورة طاغية للخلل المعلوماتي، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول إن هناك وباءً معلوماتياً إلى جانب «كوفيد - 19».
وتابع رمزي أن «خطورة الخلل المعلوماتي على الإنسان ربما قلت بعض الشيء، خلال الفترة الماضية، لكن حجم الخلل لم يقل... ومع انتشار استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي زاد حجم الخلل المعلوماتي بشكل كبير، الأمر الذي ينذر بخطورة تستدعي مزيداً مع العمل على تقصي وتدقيق الحقائق». وعليه، توقع أن «تشهد الفترة المقبلة نمواً في عدد المواقع العاملة في تقصي الحقائق لمواجهة هذا الخطر».