هل يعكس طرد مدير «سي إن إن» انعدام مساحة للأخبار المستقلة؟

الإعلام الأميركي ومعضلتا «التوازن» و«المداخيل» مع جمهور مستقطَب

هل يعكس طرد مدير «سي إن إن» انعدام مساحة للأخبار المستقلة؟
TT

هل يعكس طرد مدير «سي إن إن» انعدام مساحة للأخبار المستقلة؟

هل يعكس طرد مدير «سي إن إن» انعدام مساحة للأخبار المستقلة؟

رغم مرور نحو أسبوعين على قرار مالك محطة «سي إن إن» الإخبارية، طرد رئيسها التنفيذي كريس ليخت من منصبه، لا تزال تداعيات هذا القرار، تتفاعل في أوساط الإعلام الأميركي، بكل أشكاله، وأطيافه.

وفي حين ركزت التعليقات الأولى، على شخصية الرجل ومؤهلاته، التي بدا أنها لم تشفع له، في الاحتفاظ بمنصبه أكثر من 13 شهراً، فإنها توسعت لاحقاً لتطرح تساؤلات أعمق حول دور الإعلام ووظيفته، في مجتمع يزداد استقطاباً وانقساماً، عشية موسم انتخابات أميركية، يصفها البعض بالتاريخية.

«التوازن» أم «المداخيل»؟

خروج ليخت المفاجئ كان قد أحدث اضطراباً لإحدى المؤسسات الإخبارية البارزة في العالم، التي أدت سلسلة أزماتها الحادة إلى استنفاد الروح المعنوية في غرف الأخبار وتآكل الأرباح، وأثارت تساؤلات حول جدوى الصحافة التلفزيونية «الوسطية» في عصر الاستقطاب.

وللعلم، كان ديفيد زاسلاف، رئيس شركة «وورنر بروس ديسكفري»، واضحاً منذ اليوم الذي تولّى فيه السيطرة على «سي إن إن» عام 2022، بشأن ما يريده لواحدة من كبرى شبكات الأخبار في العالم. فالرجل يريد نقل الشبكة بعيداً عما اعتبره «ميولاً يسارية» نحو مزيد من «التوازن»، حريصاً على ألا تكون مناهضة للرئيس السابق دونالد ترمب، وأكثر ترحيباً بالجمهوريين.

عندما بدأ ليخت، في تنفيذ توجهات زاسلاف، بدا واضحاً أن الأمر أعمق من ذلك بكثير. ذلك أنه كانت عليه مواجهة إرث سياسي، لا تنفرد فيه «سي إن إن» وحدها، لأن الإعلام عموماً - والإعلام الأميركي على وجه الخصوص - تديره شركات ربحية غير حكومية، لا تعترف إلّا بالمداخيل التي تحققها برامجها، من أرقام المشاهدين.

وفي عصر الرقمنة، دخل الإعلام المرئي في منافسة شديدة مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت مصدراً كبيراً للمعلومات، حيث تتمترس مؤسساتها وتتغذى، من جمهور، لا يريد الاستماع، أو مشاهدة، أو قراءة، ما لا يتوافق مع توجهاته.

وبالتالي، مع تراجع أرقام المشاهدين، التي وصلت أحياناً، إلى ما دون أرقام محطات «يمينية» ناشئة، كمحطة «نيوزماكس» في بعض الليالي، كان قرار الاستغناء عن خدمات ليخت قد نضج تماماً.

بل، وفاقم الوضع بالنسبة لليخت «السقطات» التي ارتكبها أخيراً، بعد استضافة المحطة الرئيس السابق دونالد ترمب، وتكرار ترمب ادعاءاته عن «سرقة» الانتخابات منه، واتهاماته للمحطة ولمضيفته فيها، بالكذب، وسط هتافات جمهور مكدّس بأنصار الحزب الجمهوري.

والذي حدث، بدلاً من أن ترتفع أرقام مشاهديها، خسرت «سي إن إن» قاعدة جمهورها التقليدي، الذي أعرب عن استيائه من استضافة ترمب... فابتعد عنها. وفي ظل الاستقطاب السياسي الحاد الذي يقسم الأميركيين، فرض هذا الجمهور شروط العبارة الشهيرة: «الجمهور عاوز كده»، عليها وعلى غيرها من المحطات، وحوّلها إلى «رهائن» شرعية.

نجاحات ملموسة... ولكن

في الحقيقة، حقق ليخت قليلاً من النجاحات الملموسة خلال العام الذي أمضاه في «سي إن إن». ووصلت التقييمات إلى مستويات تاريخية متدنية، إذ تخلفت المحطة عن المنافسين، الذين كانوا هم أنفسهم، يتصارعون مع الانخفاض العام في عدد مشاهدي الأخبار التلفزيونية، بعدما غابت التغطية المحمومة لترمب، مفسحة لعصر بايدن الأكثر هدوءاً.

وفي عام 2022، انخفض متوسط تصنيفات «سي إن إن»، بمقدار الثلث عن العام السابق على مدار اليوم. وفي المقابل، شهدت قناة «فوكس نيوز» انخفاضاً بنسبة 14 في المائة، وانخفضت «إم إس إن بي سي» بنسبة 22 في المائة.

مقاربة مستقلة أم تحريض؟

هذا الواقع قاد إلى التساؤل عمّا إذا كان بالإمكان لمقاربة مستقلة غير منحازة في الأخبار، أن تعمل في عصر وسائل الإعلام اليوم، والمنقسمة بحسب الطلب، بناء على رغبة الجماهير وشروطها الخاصة، أم لا.

إن الاستقطاب عالٍ جداً، والأميركيون منقسمون وراء مؤسسات إعلامية، تتنافس الآن مع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث النجاح في زيادة أرقام المتابعين، بات قائماً على أكثر الادعاءات والمنشورات تحزباً واستفزازاً.

ومع هذا، فإن محاولة إنشاء تجربة إعلامية مستقلة ومتوازنة، باتت مهمة صعبة بشكل خاص، من دون تقديم فكرة واضحة عما يعنيه «التوازن»، وعن معنى إعطاء «مساحة متساوية» للأطراف المتصارعة. وهنا يسأل البعض، أنه في الوقت الذي تنقسم فيه البلاد في الموقف... من محاولة تغيير قيم الديمقراطية وعمل المؤسسات، الجاري تدميرها على أيدي اليمينيين واليساريين المتطرفين على حد سواء، كيف يمكن للإعلام أن يكون أو يظل متوازناً؟

في مطلق الأحوال، لا يمكن إعفاء «سي إن إن»، وغيرها من وسائل الإعلام الليبرالية، كما لا يمكن إعفاء المؤسسات الإعلامية المحافظة اليوم، من مسؤوليتها عن المغالاة في التحريض السياسي، على خط الصدع الآيديولوجي.

وفي مقابلة مطولة مع مجلة «ذي أتلانتيك» نشرت قبل أيام من إقالته، لم يجانب ليخت الحقيقة، عندما قال إن محطة «سي إن إن» غالت كثيراً في تصوير جائحة «كوفيد - 19» وتداعياتها. ولقد حمّلها كثيرون مع غيرها من وسائل الإعلام الليبرالي، المسؤولية عن تضخيم الجائحة، ما تسبب في إحداث أكبر موجة تحريض ضد ترمب، قبيل انتخابات 2020. وبدا أن تلك التصريحات كانت سبباً مباشراً وراء قرار طرده، بعدما رفضها معظم مسؤولي وصحافيي وموظفي المحطة.

انعدام اليقين يتكرر

اليوم، يتكرر مشهد التحريض من وسائل الإعلام المحافظة، في ظل الهجوم «الشامل» على إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، مسمماً الأجواء السياسية، أكثر مما تسببت به حرائق الغابات في كندا من تلويث لأجواء الساحل الشرقي للولايات المتحدة، خصوصاً فوق العاصمة واشنطن، الأسبوع الماضي.

في لقائه مع موظفي «سي إن إن» بعد عزل ليخت، كان مالك المحطة زاسلاف، غامضاً بشأن سبب عزله. لكنه قال إنه «يفتح صفحة جديدة»، معلناً دعمه للصحافة فيها وتعهد بجعل المحطة «أفضل نسخة من منظمة إخبارية عالمية معاصرة في العالم». لكن رغم ذلك، عبر صحافيو المحطة عن قلقهم. ونقل عن أحدهم قوله: «نحن مرة أخرى هذه الأيام في حالة فظيعة من انعدام اليقين. والآن نحن نتجه إلى حملة انتخابات جديدة في البلاد، والجميع ينظر بعضهم إلى بعض، ويتساءلون: ماذا سنفعل الآن؟».

ومع اتجاه السباق الرئاسي لعام 2024، ليكون استعادة لسباق 2020، بين ترمب وبايدن، يزداد المشهد الإعلامي قتامة. فالبلاد تستعد للدخول في مرحلة غير مسبوقة في تاريخ انتخاباتها، إذا تمت إدانة ترمب في التهم الجنائية الفيدرالية الموجهة ضده. وتطرح التساؤلات، حول كيفية تعامل الإعلام، مع احتمال أن تكون الولايات المتحدة، أمام احتمال فوز مرشح قد يدخل السجن، ليدير البلاد منه، وهل ستكون طرفاً محرضاً أم مهدئاً، في مواجهة أعمال العنف، التي قد تندلع من قبل أنصاره، في ظل الخشية من تكرار مشهد 6 يناير (كانون الثاني) عام 2021، بعد اقتحام مبنى الكابيتول. بيد أن تغطية المحطات التلفزيونية، لخبر مثول ترمب أمام المحكمة في ميامي بولاية فلوريدا، يوم الثلاثاء، قدمت عينة عما ستكون عليه تغطياتها للانتخابات، التي تعد الموسم الأكثر استقطاباً وربحية بالنسبة لصناعة الأخبار التلفزيونية الأميركية.



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.