فيما بدت محاولة لاستنساخ تجربة أستراليا، بدأت مجموعة من دول العالم العمل على إعداد مشروعات قوانين تهدف إلى إجبار عمالقة التكنولوجيا؛ لا سيما شركة «غوغل»، وشركة «ميتا» -مالكة «فيسبوك»- على دفع مبالغ مالية مقابل نشرهم للأخبار التي تنتجها المؤسسات الإعلامية. وفي حين يرى خبراء عرب إمكانية استنساخ التجربة الأسترالية في عدد من دول العالم، فهم يرون أن الوضع قد يكون مختلفاً على الصعيد العربي.
الأمر يتعلق بتقرير نشره معهد «بوينتر» الأميركي المتخصص في دراسات الإعلام خلال مايو (أيار) الجاري، تكلم عن اتجاه عدد من ناشري الأخبار حول العالم لتحليل البيانات (المعطيات)، وتحديد المبالغ التي تدين بها «غوغل» و«ميتا» مقابل نشرها ما ينتجونه من أخبار.
وأشار التقرير إلى أن «هذه الأرقام ما زالت سرّية، ومن غير المرجح أن تُنشر على الملأ، إلا أنها ستُستخدَم للضغط على عمالقة التكنولوجيا لدفع مقابل نشرهم للأخبار». وأردف التقرير بأن «مساعي الناشرين لا تقتصر على الحصول على عوائد الإعلانات على هذه المنصات؛ بل أيضاً على رسوم مقابل إعادة نشر هذه المنصات المحتوى الذي أنتجوه، وقيمة العلامة التجارية للمؤسسات الإعلامية المعنية».
جدير بالذكر، أنه في مارس (آذار) عام 2021، أصبحت أستراليا أول دولة تستخدم قانون المنافسة لإجبار «غوغل» و«فيسبوك» على دفع ثمن للأخبار. ووضع رود سيمز، رئيس لجنة المنافسة في أستراليا (يومذاك)، تشريعات إعلامية جديدة «تهدف إلى تصحيح اختلال توازن القوى بين المنصات الكبرى وناشري الأخبار». وأعطى هذا التشريع الحق للحكومة في تحديد منصات معينة، ودفعها للتفاوض مع الناشرين والتوصل إلى اتفاق بشأن مستحقاتهم. وبالفعل، دفع التشريع «غوغل» و«ميتا» إلى إبرام اتفاقيات مع الناشرين.
ونقل معهد «بوينتر» عن سيمز قوله إنه «منذ تطبيق التشريع الجديد يُضَخ أكثر من 140 مليون دولار أميركي في الصحافة في أستراليا كل سنة». واستنساخاً لهذه التجربة، تبحث كندا والبرازيل وإندونيسيا وجنوب أفريقيا ونيوزيلندا والولايات المتحدة راهناً وضع قوانين مماثلة. وتوقع معهد «بوينتر» أن تقر كندا قانوناً بهذا الشأن خلال الشهرين المقبلين.
رامي الطراونة، رئيس وحدة المنصات الرقمية في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، قال خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»: «إن الفكرة ناجحة وقابلة للتطبيق والانتشار. وقياساً على ما حدث في أستراليا ورضوخ شركات التقنية المعروفة بعنادها، وصعوبة مراسها قضائياً، مثل «غوغل» و«ميتا» للتشريعات الجديدة التي تلزمها بالدفع في مقابل الأخبار، فإنه يمكن بلا شك اعتبار هذا الأمر نجاحاً للفكرة».
ويربط الطراونة عوامل نجاح أستراليا بـ«طبيعة السوق الأسترالية، وتطور ومرونة التشريعات الناظمة لصناعة الإعلام وشموليتها، ليس فقط تحريرياً؛ بل تقنياً وتجارياً... إلى جانب علاقة الحكومات مع شركات التقنية، وصلابة المؤسسات الإعلامية الأسترالية وقوة منصاتها ومحتواها، ومدى تأثيرها لدى الشارع». ويتابع بأن «مثل هذه العوامل يمكن أن تتوفر في المنظومات الإعلامية لدى كثير من الدول الأخرى التي ستجد من نجاح التجربة الأسترالية نموذجاً يمكن اقتفاء أثره واستنساخه». أما على الصعيد العربي، فيرى الطراونة أن «الأمر سيحتاج إلى مزيد من الوقت، فعلى الرغم من السعي الدؤوب من قبل كثير من الدول لتطوير منظومة تشريعاتها القانونية المرتبطة بصناعة الإعلام ومتغيراته، فلا تزال صناعة الإعلام العربي الرقمي يافعة مقارنة بغيرها». ثم يضيف: «التنافس المحموم بين المنصات الإعلامية العربية، داخل الدول، على اقتناص أكبر حصة سوقية وأوسع مساحة على صفحات محرك بحث (غوغل) أو (ميتا)، سواءً بالمحتوى الأصلي أو بالإعلانات، يجعل من المبكّر جداً تخيّل أن هذه المؤسسات التي تدفع مقابل الإعلانات إلى (غوغل) و(ميتا)، تستطيع أن تعمل على الحصول على مقابل للأخبار من عمالقة التكنولوجيا».
نقطة أخرى يشير إليها الطراونة فيما يتعلق بالسوق العربية، هي أن «المنطقة العربية لم تكن يوماً ساحة لمعركة قضائية مع أي من الشركات العملاقة حول أي قضية من هذا النوع، وهذا بجانب الطبيعة الجيوسياسية المركّبة للمنطقة، وتباين القوانين والتشريعات من دولة إلى أخرى... ثم إن تطبيق مثل هذه الإجراءات في العالم العربي قد يواجه تحديات إضافية تتعلق بتقلبات السوق، وتراجع الإعلانات التقليدية في القطاع الإعلامي عموماً، والتوازن بين حقوق الملكية الفكرية وحرية الوصول إلى المعلومات، إضافة إلى تأثير المنافسة بين المؤسسات الإعلامية في المنطقة».
التفاوض ليس سهلاً
في الواقع، التفاوض مع عمالقة التكنولوجيا ليس بالمهمة السهلة، حسب خبراء؛ لا سيما في ظل اعتماد كثير من المؤسسات الإعلامية على ما تحصل عليه من عوائد للإعلانات على المنصات المملوكة لهذه الشركات. ثم إن «غوغل» و«فيسبوك» قد يعمدان إلى الضغط من الجانب الآخر عن طريق تقليل الوصول لروابط الأخبار. وبالفعل، وفق تقرير «بوينتر»، عمد «غوغل» و«فيسبوك» إلى «حيلة إسقاط روابط الأخبار في كندا في فبراير (شباط) الماضي، وهو ما دفع رئيس الوزراء الكندي لدعوة هذه الشركات لدفع ثمن الأخبار بدلاً من حجب روابطها».وأيضا، رداً على محاولات البرازيل إصدار تشريع مماثل، عمدت شركة «غوغل» إلى تحذير الناشرين من خطورته، منذرة بأنه «سيدمر الإنترنت». وفي تقرير نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية خلال الشهر الجاري، قالت رئيسة جمعية الصحافة الرقمية في البرازيل، نتاليا فيانا، إن «(غوغل) هدّدت مَن يدعمون التشريع بوقف ما تدفعه من تمويلات لهم». وقالت دراسة أصدرها اتحاد الناشرين السويسريين، في مارس الماضي، إن «غوغل مدينة لقطاع ناشري الأخبار بنحو 166 مليون دولار سنوياً». وفي حين لم تكشف الولايات المتحدة عن تقديرها لقيمة التعويض -وإن قدّره البعض بالمليارات- فإن تقديرات المشرّعين البرلمانيين في كندا تشير إلى مبلغ تعويض تصل قيمته إلى 329.2 مليون دولار كندي سنوياً.
هنا يشير خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هناك احتمالاً كبيراً بأن تنجح هذه الجهود، واصفاً ما تفعله أستراليا وكندا بـ«النماذج الجيدة». ويضيف البرماوي أن «الاتحاد الأوروبي مارس ضغوطاً كبيرة، وفرض غرامات، وإن لم يلجأ لاتفاقات وفرض رسوم معينة على استهلاك واستخدام الأخبار... وهذه التحركات حتمية، لا سيما مع تغير نموذج الإعلام، وكون هذه المنصات واحدة من وسائل نشر وتوزيع المحتوى، وبالتالي تحقيق أرباح».
ويستطرد البرماوي ليقول إن هذه المساعي ليست جديدة: «إذ بدأت مساعي الضغط على عمالقة التكنولوجيا منذ عام 2015، ونجحت بعض التجارب... ثم عزّز التطور الأخير لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي هذه المساعي، لا سيما أن كثيراً من المعلومات التي تعتمد عليها تطبيقات الذكاء الاصطناعي من إنتاج المؤسسات الإعلامية». ويتابع: «لقد حان وقت دفع ثمن الأخبار بصورة منصفة ومنظمة، كي لا تؤثر سلباً على الإنترنت». وشدد على أنه «لا يجب الالتفات لتهديدات هذه المنصات ومخاوفها من التأثير على الشبكة العنكبوتية؛ لأن الإنترنت بصورتها الحالية مملوءة بالظلم للمؤسسات الإعلامية، والمحتوى الجاد». وبشأن الوضع في المنطقة العربية، يرى البرماوي أنه «لا توجد مبادرة عربية في هذه الصدد حتى الآن». وذكر أنه «حاول أكثر من مرة تنظيم نوع من الاتحاد عربياً، أو حتى مصرياً، للتفاوض مع هذه الشركات؛ لكن هذه الجهود لم تفلح»، قبل أن يختم كلامه بالقول إنه «لا بد من إيجاد تحالف عربي في هذا الشأن؛ لأن اللغة وطبيعة الاستهلاك في صالح الناشرين العرب، وتسهل عملية التفاوض... وهذا سيكون في صالح المؤسسات الكبيرة والصغيرة أيضاً».