توجُّهات عالمية لمعالجة مياه الصرف وتدويرها لامركزياً

الأبنية المحايدة مائياً

محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نهر التيمس في لندن (أ.ف.ب)
محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نهر التيمس في لندن (أ.ف.ب)
TT

توجُّهات عالمية لمعالجة مياه الصرف وتدويرها لامركزياً

محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نهر التيمس في لندن (أ.ف.ب)
محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نهر التيمس في لندن (أ.ف.ب)

تُعد معالجة المنصرفات وإعادة استخدام المياه المعالَجة ممارسة تقليدية في العديد من الأماكن حول العالم، لا سيما في المناطق التي تعاني من ندرة الموارد المائية أو في البلدان التي تضع شروطاً صارمة على طرح المياه العادمة إلى الأنهار والمسطحات المائية.

ومع تواتر الجفاف واتساع نطاقه نتيجة تغيُّر المناخ، يزداد الاتجاه عالمياً نحو الحلول التي تعتمد اللامركزية في معالجة الصرف الصحي وتوفير المياه لإعادة استخدامها من جديد. وتُعرف هذه الحلول أيضاً بأنظمة المياه الموزّعة، أو أساليب إعادة تدوير المياه في الموقع، ويجري تطويرها كاستراتيجية رائدة في إطار الجهود المبذولة لجعل المياه أكثر استدامة.

الجفاف يفرض إعادة استعمال المياه

بينما كانت تطبيقات معالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها تجري عادةً في الأماكن الريفية والنائية عبر ممارسات تقليدية، تشمل على سبيل المثال الحُفَر التعفنية ومعالجة المنصرفات بواسطة نباتات الأراضي الرطبة، ظهرت نظم جديدة تتيح معالجة المياه الرمادية (منصرفات الحمّامات والغسّالات) والمياه السوداء (منصرفات دورات المياه والمطابخ) في المباني التجارية والسكنية، والمرافق الخدمية والتعليمية، وغيرها.

وتساعد هذه النظم في توفير المياه، لغير أغراض الشرب، بسعر أقل من شراء المياه الصالحة للشرب من الشبكة العامة. ومع خفض الطلب على المياه الصالحة للشرب، التي تُعدّ ذات تكلفة مرتفعة في معالجتها وتوزيعها، تزداد كفاءة إدارة المياه. ويعتقد علماء أن مستقبل المياه سيقوم على جعل المباني مكتفية ذاتياً، بحيث تصبح «محايدة مائياً» نتيجة استخدام المياه ذاتها مراراً وتكراراً في حلقة مغلقة.

ولا تبدو هذه الرؤية المستقبلية حلماً بعيد المنال، فمدينة سان فرانسيسكو لا تسمح منذ عام 2015 بترخيص الأبنية الجديدة التي تزيد مساحتها على 100 ألف قدم مربع (نحو 9290 مترا مربعا) دون وجود أنظمة معالجة وتدوير للمياه في الموقع. ومن بين النظم المستخدمة حالياً معالجة الصرف الصحي في أراضٍ رطبة موزّعة حول كتل الأبنية، واستخدام المياه المعالجة في دورات المياه. وتقلل هذه العملية من إمدادات المياه المطلوبة من الشبكة العامة بنسبة 40 في المائة.

وتوجد ضغوطات كبيرة على إمدادات المياه العذبة في جميع أنحاء العالم، حيث تتوقع الأمم المتحدة أن 5 مليارات شخص قد يعانون من نقص المياه بحلول 2050. وستكون أنظمة معالجة المياه اللامركزية خيار المجتمعات لتحقيق التنمية الاقتصادية مع ضمان الأمن المائي، وقد أخذ يشقّ طريقه في مناطق تعاني حالياً من الجفاف وأزمات المياه، كما في ولايات كولورادو وتكساس وواشنطن في الغرب الأميركي، وكذلك في الهند وأستراليا واليابان.

وتقوم إحدى المبادرات، التي رُشِّحت هذه السنة لجائزة زايد للاستدامة، على تطوير محطة متنقلة لمعالجة مياه الصرف الصحي يمكن تخصيصها وفقاً للحاجة، ونشرها متى وكيفما دعت الضرورة. وتسمح المحطة المتنقلة، التي صمّمتها شركة «سيسوي» اليابانية، بمعالجة مياه الصرف الصحي في الموقع، وتخليصها من المواد الصلبة والزيوت والمعادن الثقيلة، ما يسمح بإعادة استخدام المياه. وتُقدِّر هيئة المرافق العامة في سان فرانسيسكو، التي تزوّد المدينة بالمياه العذبة، أن هناك ما مجموعه 48 نظاماً قيد التشغيل حالياً لمعالجة مياه الصرف موضعياً وإعادة استخدامها، إلى جانب 29 مشروعاً آخر يجري التخطيط لها في المدينة.

وتتيح التقنيات الحالية جمع جميع المنصرفات ومعالجتها، بحيث تصبح مياهاً صالحةً للشرب. لكن سلامة الاستخدام المباشر لمياه الصرف الصحي المعالجة لا تزال قيد الدراسة، إذ تحول التشريعات الأميركية الحالية دون استخدام المياه المعالجة لأغراض الشرب. ويرى خبراء أن النظام الدائري الكامل، الذي تتم فيه إعادة استخدام المياه في الموقع لجميع الأغراض بما فيها الشرب، سيكون متاحاً في غضون 5 إلى 10 سنوات في الولايات المتحدة.

وفي مدينة دبي، يستفيد «برج خليفة» من مجموعة الإجراءات التي يجري اتباعها للحدّ من هدر موارد الطاقة والمياه، حيث يتم تجميع الماء المتكثّف من أنظمة التكييف لتبريد مياه الشرب التي تؤمّنها هيئة كهرباء ومياه دبي (ديوا). وتُضَخ مياه التكاثف إلى خزان كبير لاستخدامها في عمليات ري الحدائق والمسطحات الخضراء المحيطة بالبرج، ما يتيح توفير نحو 57 ألف متر مكعب من المياه سنوياً.

وفي مقابل الحلول الناشئة لتدوير المياه في الموقع، تستمر الأنظمة المركزية لمعالجة المياه وتدويرها في التطوّر والنمو منذ عقود لحل مشكلة نقص المياه المتسارعة. وتعالج منشأة كبيرة لإعادة تدوير المياه في مقاطعة أورانج في كاليفورنيا نحو 500 ألف متر مكعب من مياه الصرف يومياً، في عملية إعادة استخدام غير مباشرة لمياه الشرب. والبداية من خلال عملية تشمل ثلاث مراحل هي الترشيح الدقيق، والتناضح العكسي، والتطهير بالأشعة فوق البنفسجية وبيروكسيد الهيدروجين، بعدها تُحقن المياه المعالجة في المياه الجوفية، ثم يتم ضخها ومعالجتها في المرافق المحلية لتصبح مواصفاتها مطابقة لمعايير مياه الشرب. وهي أكبر محطة في العالم تعتمد هذا الأسلوب.

وفي سنغافورة، التي تعاني من نقص المياه، تقوم محطة شانغي الضخمة لمعالجة المياه بتنظيف وتنقية نحو 900 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي يومياً لتتوافق مع معايير مياه الشرب. أما في العالم العربي، فتنتشر محطات معالجة مياه الصرف الصحي على نطاق واسع لمعالجة المنصرفات إلى الحدّ الذي يسمح بطرحها في المسطحات المائية بشكل آمن. كما توجد العديد من المشاريع، كما في دول الخليج والأردن وفلسطين، لمعالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها في الزراعة بهدف توفير الموارد المائية الثمينة وتخفيف فاتورة تحلية مياه البحر.

وكانت وزارة الموارد المائية المصرية أعلنت مؤخراً أنها تقوم بإعادة استخدام كميات من المياه، تصل إلى 20 مليون متر مكعب سنوياً، بفضل شبكة واسعة من محطات معالجة مياه الصرف الصحي والزراعي والصناعي. وتتوقع الوزارة أن تصبح مصر ضمن أكثر الدول تدويراً لمياه الصرف المعالجة عند انتهاء مشروعات محطات المعالجة في مناطق بحر البقر والحمام والمحمسة.

المعالجة في الموقع أرخص وأسهل

وتواجه الحلول المركزية لمعالجة مياه الصرف مصاعب كبيرة، لا سيما في ما يخص تأمين النفقات التأسيسية والتشغيلية. وفي المقابل، تسمح نظم تدوير المياه في الموقع بتوفير كلفة ضخ المياه لمسافات طويلة، وما يرتبط بها من نفقات حفر الشوارع لمد قساطل الصرف الصحي وأنابيب مياه الشرب. وهي من ناحية أخرى أكثر تكيُّفاً مع أحوال الطقس المتطرفة التي تتسبب في كثير من الأحيان بتعطيل محطات معالجة الصرف الصحي التقليدية.

ومما يساعد في تحسين جدوى الحلول اللامركزية لمعالجة المنصرفات أنها تتجاوب بشكل مرن مع طبيعة المنصرفات وغاية الاستخدام النهائية، مما يخفّض كلفة تشغيلها. فعلى سبيل المثال، لا توجد ضرورة لاستخدام تقنيات مكلفة في الموقع لمعالجة المياه الرمادية لاستخدامها في دورات المياه، في حين تصل مياه الصرف إلى محطات المعالجة المركزية مختلطة وتتطلب استخدام أساليب معالجة مكثّفة ومكلفة.

يزداد الاتجاه عالمياً نحو الحلول التي تعتمد اللامركزية في معالجة الصرف الصحي

وتشير دراسة حول اقتصاديات المعالجة اللامركزية لمياه الصرف وتدويرها، نُشرت العام الماضي في دورية «ووتر ريسيرتش»، إلى أن النفقات التأسيسية والتشغيلية لأنظمة حصاد المياه وإعادة التدوير في الموقع ستزيد من التكلفة الإجمالية لتشييد الأبنية الطابقية المتعددة المساكن بنحو 6 في المائة، وستصل هذه الزيادة إلى 12 في المائة للمنازل المستقلة.

وتقدّر هذه الدراسة أن السعر الإجمالي لتأمين المياه في الموقع، بما فيها كلفة حصاد مياه الأمطار وعمليات المعالجة والتدوير والمراقبة، ستتراوح ما بين 1.5 و2.7 دولار للمتر المكعب، وهو سعر أقل بكثير من التعرفة الوسطية للمياه في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. وعلى سبيل المثال، تصل تعرفة مياه الصنبور في ولاية سان فرانسيسكو إلى 6 دولارات للمتر المكعب.

وتتوافر في الأسواق حالياً مجموعة من أجهزة معالجة وتدوير المياه الصغيرة المخصصة للاستخدام في المنزل. ومن بينها جهاز «هيدرالوب»، الذي تنتجه شركة هولندية، ويأتي في حجم غسّالة لتنظيف المنصرفات ومعالجتها. ويسمح هذا الجهاز بتدوير ما يصل إلى 95 في المائة من المنصرفات المنزلية لاستخدامها في غسل الملابس وري الحدائق ولدورات المياه. كما تصنع شركة كندية جهاز «رين ستيك»، الذي يعيد تدوير مياه «الدوش» مراراً وتكراراً أثناء الاستحمام.

ويمثّل القبول الاجتماعي لإعادة استخدام المياه المعالجة حجر عثرة أمام انتشار نظم معالجة المنصرفات وتدويرها في الموقع، ما يجعل المطوّرين والمعماريين يغضّون النظر عن لحظ هذه النظم ضمن المشاريع العمرانية الحديثة، وإن كانت في تصميمها تحاكي دورة المياه في الطبيعة.

لكن المتوقَّع أن تسير أنظمة معالجة المنصرفات وتدوير المياه اللامركزية في النهاية على الخطى ذاتها التي اتبعتها نظم العزل الحراري وخفض الانبعاثات في الأبنية خلال العقود القليلة الماضية، حيث أُهملت قبل أن تصبح جزءاً ثابتاً في مواصفات البناء. ففي عالم يعاني من إجهاد مائي متزايد سيكون توفير كل قطرة ماء واجباً وليس خياراً.


مقالات ذات صلة

«الطاقة» السعودية تبرز جهود الرياض في «كوب 29» بأذربيجان

الاقتصاد جناح وزارة الطاقة في «كوب 29» المنعقد حالياً في باكو (الشرق الأوسط)

«الطاقة» السعودية تبرز جهود الرياض في «كوب 29» بأذربيجان

تشارك وزارة الطاقة السعودية في مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «كوب 29».

«الشرق الأوسط» (باكو)
بيئة أشخاص يمرون أمام مقرعقد مؤتمر «كوب 29» في باكو (أ.ب)

أذربيجان تستضيف مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29»

تستضيف أذربيجان «مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ» (كوب 29)، والذي ينطلق الاثنين ويستتمر حتى 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

«الشرق الأوسط» (باكو )
خاص امرأة تمرّ بالقرب من لافتة مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ «كوب 29» في باكو (رويترز)

خاص «كوب 29» يواجه تحدي الاتفاق على هدف عالمي جديد لتمويل المناخ

يجتمع العالم، الاثنين، في العاصمة الأذربيجانية للمشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب 29) والذي ينعقد في ظل تنامي تحديات المناخ.

آيات نور (الرياض)
العالم الدكتور زهير الحارثي خلال القمة العالمية لقادة ورموز الأديان في باكو (كايسيد)

«كايسيد» يؤكد أهمية الحوار البنّاء في دفع التقدم العالمي

أكد الدكتور زهير الحارثي، أمين عام مركز «كايسيد» للحوار، على أهمية الحوار البنّاء في دفع عجلة التقدم العالمي، ودور المجتمعات الدينية للتصدي لتحديات تغير المناخ.

«الشرق الأوسط» (باكو)
الاقتصاد صورة جماعية في الاجتماع الدوري الـ35 لمجلس الوزراء العرب المسؤولين عن شؤون البيئة بجدة (الشرق الأوسط)

مسؤول عراقي لـ«الشرق الأوسط»: مشروعات مشتركة جديدة مع السعودية لتحقيق الاستدامة البيئية

يعيش العراق حالة انتعاش في المسارات كافة؛ منها قطاع البيئة الذي يعيش طفرة نوعية في المشروعات، وتحسين البنية التحتية، وفقاً لما أورده الدكتور جاسم الفلاح.

سعيد الأبيض (جدة)

أذربيجان تستضيف مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29»

أشخاص يمرون أمام مقرعقد مؤتمر «كوب 29» في باكو (أ.ب)
أشخاص يمرون أمام مقرعقد مؤتمر «كوب 29» في باكو (أ.ب)
TT

أذربيجان تستضيف مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ «كوب 29»

أشخاص يمرون أمام مقرعقد مؤتمر «كوب 29» في باكو (أ.ب)
أشخاص يمرون أمام مقرعقد مؤتمر «كوب 29» في باكو (أ.ب)

تستضيف أذربيجان «مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ» (كوب 29)، الذي ينطلق الاثنين ويستمر حتى 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

ويتوافد دبلوماسيون من أنحاء العالم على العاصمة باكو لحضور القمة المناخية التي تعقد سنويا، لمناقشة سبل تجنب التهديدات المتزايدة التي يفرضها التغير المناخي.

كانت باكو المكان الذي شهد تطوير أول حقول النفط في عام 1846 عندما قادت أذربيجان العالم في مجال إنتاج النفط عام 1899.

وقالت كيت ووترز، المديرة التنفيذية لمنظمة «كرود أكونتبليتي»، التي تراقب القضايا البيئية إن منطقة بحر قزوين مهددة بيئياً، وأضافت أن المراقبة البيئية في أذربيجان ضعيفة.

وقبل الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، كانت موسكو تورد نحو 40 في المائة من حاجات أوروبا من الغاز الطبيعي عبر أربعة خطوط أنابيب، وقد جرى تعطيل معظم هذه الإمدادات.

وصبت هذه التطورات في مصلحة أذربيجان ومنحتها فرصة دسمة. وقد أبرم الاتحاد الأوروبي صفقة معها في وقت لاحق من ذلك العام لمضاعفة وارداته من الغاز الأذري لتصل إلى عشرين مليار متر مكعب سنويا بحلول 2027. لكن هناك تساؤلات بشأن قدرة أذربيجان على الوفاء بذلك الطلب والخلافات بشأن مدة الصفقة.

وقال مسؤولون في أذربيجان أنه ليس من الإنصاف انتقاد باكو لإنتاجها مزيداً من الوقود الأحفوري في ظل وجود طلب عليه من أوروبا، فيما تسعى الحكومات الوطنية لإبقاء أسعار الوقود في متناول المواطنين.

وكانت الأمم المتحدة قد دعت قبل أيام إلى تكثيف عاجل لجهود التكيف المناخي في قمة باكو، بدءًا بالالتزام بتعزيز تمويل عمليات التكيف.

ويُفترض أن يختتم المؤتمر مع هدف جديد للمساعدات المالية للدول النامية، حتى تتمكن من الحدّ من انبعاثات غازات الدفيئة المسببة للاحترار المناخي العالمي والتكيف مع تغير المناخ.وسيحل الهدف الجديد مكان الهدف المتمثل بمائة مليار دولار الذي حُدد عام 2009 وتحقق بصعوبة عام 2022.