في تطور مثير للقلق داخل أروقة أجهزة الاستخبارات والأمن القومي الأميركية، بدأت حملة غير مسبوقة لتعقّب التسريبات الإعلامية، وصلت إلى حد إخضاع موظفين لاختبارات «كشف الكذب»، ما أثار حالة من الخوف والترهيب، وفقاً لما أكده مسؤولون حاليون وسابقون لصحيفة «واشنطن بوست».
وبتوجيه من كاش باتيل، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، شرع المكتب مؤخراً في تنفيذ اختبارات «كشف الكذب» للموظفين المشتبه بتورطهم في تسريبات إعلامية، في خطوة سرية تُعد تصعيداً غير مألوف في آليات التحقيق.
وقال متحدث باسم المكتب إن خطورة التسريبات هي ما دفع إلى هذه الإجراءات، لما لها من تأثير محتمل على بروتوكولات الأمن الداخلي.
لكن الحملة لا تقف عند هذا الحد، فقد أصدرت المدعية العامة بام بوندي تعليمات قانونية تتيح للجهات الأمنية توسيع نطاق الملاحقات القضائية، ليس فقط ضد من يسرّب معلومات سرية، بل حتى من يكشف معلومات حساسة قد تضر بصورة الحكومة. وتشمل هذه الإجراءات استدعاء سجلات اتصالات صحافيين، ما أثار انتقادات حول انتهاك حرية التعبير والصحافة.
وقال مسؤول سابق في «إف بي آي» إن الجميع يحاول التواري. الأجواء محبطة... هناك شعور بأن الأمور باتت خارج السيطرة.
وفي وزارة الدفاع، ظهرت تهديدات مماثلة.
وهدد الوزير بيت هيغسيث بعض المسؤولين باستخدام اختبارات «كشف الكذب»، وسط تقارير عن عمليات فصل جماعي لكبار المساعدين بسبب اتهامات غير مؤكدة بالتسريب.
وتصاعدت المخاوف إلى درجة دفعت موظفين سابقين، رغم خروجهم على التقاعد، لتجنب التصريحات الإعلامية خوفاً من فقدان امتيازاتهم أو خضوعهم لتحقيقات مستقبلية. والمتعاقدون الذين يحملون تصاريح أمنية صاروا أيضاً يتجنبون أي نقاش خارج القنوات الرسمية.
قال أحد المسؤولين: «البيئة سامة. يتم إسكات كل من يحاول كشف الفساد أو التقصير، والمطلوب الآن هو الولاء الأعمى».
ويأتي ذلك وسط تقارير عن طرد الجنرال تيموثي هو، رئيس وكالة الأمن القومي، بدعوى عدم الولاء، ما أثار انتقادات من الديمقراطيين، الذين وصفوا القرار بأنه تصفية سياسية لمن يعارض توجهات الإدارة.
وفي ممارسات أعادت إلى الأذهان أساليب الأنظمة الشمولية، طالبت الناشطة اليمينية لورا لومر مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد بإخضاع جميع الموظفين لاختبارات «كشف الكذب»، خصوصاً أولئك الذين خدموا في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
القلق من هذه السياسات دفع عدداً كبيراً من الكفاءات داخل الأجهزة الأمنية إلى التقاعد المبكر أو الاستقالة الطوعية. وأشار مسؤول سابق إلى أن الناس مرعوبون. لم يعد هناك مجال لمجرد الاختلاف في الرأي.
ويؤكد خبراء أن اختبارات «كشف الكذب» لا تُعد وسيلة موثوقة للكشف عن الحقيقة، إذ تعتمد على قياس التوتر، وليس الكذب بذاته.
ورغم وجود سوابق في تعقّب التسريبات - كما حدث في عهد أوباما - فإن مسؤولي مجتمع الاستخبارات يجمعون على أن المناخ الحالي هو الأسوأ من حيث القمع والخوف والتضييق.
وحذر مسؤول استخباراتي سابق من أن هذه الإجراءات تضر بالأمن القومي أكثر مما تحميه، بقوله: «إذا فقدنا ثقافة الاستقلال والتفكير النقدي داخل المؤسسات الأمنية، فسوف نفقد قدرتنا على حماية الدولة من الداخل قبل الخارج».
وفي ظل هذه الأجواء، تزداد المخاوف من أن يتحول «كشف الكذب» إلى أداة للترهيب السياسي، لا للأمن، ما يطرح تساؤلات خطيرة حول مستقبل الحريات داخل أكثر الأجهزة حساسية في الولايات المتحدة.