في حمأة الاتصالات والاجتماعات المتنقلة الخاصة بالحرب الأوكرانية، والتي انطلقت مع الكشف عن خطة السلام الأميركية المكونة من 28 بنداً، والتي واجهتها «خطة أوروبية» بعدد مماثل من البنود، تحل دعوة الرئيس الفرنسي لاجتماع عن بعد لقادة «تحالف الراغبين» الذي رأى النور بمبادرة فرنسية - بريطانية في شهر مارس (آذار) الماضي. وفي شهر سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، أعلن التحالف الذي يضم 35 دولة غالبيتهم من الدول الأوروبية عن التزامه بتوفير «قوة طمأنة» يتم نشرها على الأراضي الأوكرانية بعيداً عن خطوط القتال، وبعد التوصل إلى اتفاق لوضع حد للحرب بين كييف وموسكو، تكون وظيفتها توفير الضمانات لأوكرانيا لجهة عدم تعرضها لاحقاً لهجمات روسية.

الإجماع الأوروبي
ثمة ما يشبه الإجماع الأوروبي الذي يرى في الخطة الأميركية تكريساً للطموحات الروسية وتجاهلاً للحد الأدنى من احترام المصالح الأوكرانية؛ أكان لجهة الأراضي التي سيتعين على كييف قبول خسارتها أم بالنسبة لتقليص عديد قواتها المسلحة أو لرفض الخطة انتشار أي قوات أطلسية أو أوروبية على الأراضي الأوكرانية «لردع» روسيا عن العودة إلى مهاجمة أوكرانيا، بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أو اتفاقية سلام.

ومن جملة البنود الصادمة، برز البند الذي ينص على رفض انتشار أي قوات أطلسية «أي عملياً أوروبية» على الأراضي الأوكرانية؛ ما يعني أن كل ما أنجز منذ عشرة أشهر في إطار «تحالف الراغبين» سيكون بلا معنى في حال تم العمل بمقتضى البند المذكور في الخطة الأميركية. وتشكل فرنسا وبريطانيا رأس الحربة للقوة المرتجاة باعتبارهما القوتين النوويتين الوحيدتين في أوروبا.
ووفق المصادر الفرنسية، فإن نحو عشرين دولة أعربت عن استعدادها للمشاركة بوحدات عسكرية في هذه القوة التي يعمل مقر قيادتها قريباً من باريس على ولادتها. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيسين الفرنسي إيمانويل ماكرون والأوكراني فولوديمير زيلينسكي زارا، بمناسبة وجود الأخير في باريس يوم الاثنين الماضي، مقر رئاسة أركان القوة القائم في ضاحية «مون فاليريان» الواقع على مدخل باريس الغربي.

وانطلاقاً مما سبق، بدا واضحاً أن التواصل بين الدول المعنية أصبح ضرورياً وملحاً ما يفسر الدعوة المستعجلة التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون. وترأس باريس ولندن بالتداول التحالف المذكور، كما أنهما تتداولان استضافة قيادة أركانه مرة كل عام. كذلك، فإن «التحالف» لم يعد يكتفي بتوفير الدعم لأوكرانيا بل يريد أن يكون له رأيه فيما يجري من اتصالات حول فحوى البنود المتداولة من أجل وضع حد للحرب في أوكرانيا ومستقبل الأمن في أوروبا.

وبرز ذلك في بيان الإليزيه الذي جاء فيه أن الاجتماع «سيتيح إجراء تقييم، في إطار التحالف، للمناقشات التي جرت في جنيف في 23 نوفمبر (تشرين الثاني). وبالاستناد إلى الزخم والأعمال التي تم القيام بها خلال الأشهر الماضية في إطار التحالف، سيتيح هذا الاجتماع تأكيد التزام أعضائه، مجدداً، ببناء سلام عادل ودائم يستند إلى ضمانات أمنية قوية لصالح أوكرانيا».
وبحسب المصادر الفرنسية، فإن أطراف «التحالف» يريدون أن يكونوا جزءاً من «الهندسة الأمنية»؛ إن فيما خص أوكرانيا أو القارة الأوروبية، وهم يصرون على أن كييف بحاجة إلى ضمانات أمنية فاعلة وقوية من أجل قبول السير باتفاق مع روسيا، خصوصاً أن قبول انضمامها إلى الحلف الأطلسي يبدو مستبعداً، بل مستحيلاً.

ضمانات أمنية لأوكرانيا
في مستهل اجتماع «التحالف» الذي انضم إليه لاحقاً وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو، والرئيس الأوكراني زيلينسكي، اعتبر ماكرون، تعليقاً على المحادثات المتنوعة الجارية حالياً بين الأطراف، أن «ثمة فرصة حقيقية لتحقيق تقدم حقيقي نحو السلام»، معتبراً أن اللحظة الراهنة ستكون «حاسمة بالنسبة للمفاوضات». ولأن فرصة السلام موجودة وربما للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب قبل نحو أربعة أعوام، فإن اجتماع «التحالف» يبدو أساسياً وضرورياً.

ووفق الرئيس الفرنسي، فإن «الشرط المطلق لسلام جيد هو سلسلة من الضمانات الأمنية القوية جداً، وليس مجرد ضمانات على الورق».
وأضاف: «لقد نالت أوكرانيا نصيبها من الوعود المنكوثة بفعل الاعتداءات الروسية المتتالية، وبالتالي فإن الضمانات الصلبة ضرورة ملحّة». وسبق للرئيس الفرنسي أن أعلن، صباح الثلاثاء، أن جنوداً فرنسيين سيكونون من بين «قوة الطمأنة» إلى جانب عناصر بريطانية وتركية. وسبق لباريس أن أكدت أن هناك ما لا يقل عن عشرين دولة من الدول المنضوية في إطار التحالف قدمت عروضاً للمشاركة بأشكال مختلفة في «قوة الطمأنة».
بيد أن المشكلة الكبرى التي يعاني منها «التحالف» أن ثمة دولاً «ترفض انضمام عناصر عسكرية إلى القوة المرتقبة ما دامت لم تحصل على ضمانات أميركية بألا تترك القوة وحيدة» بمواجهة روسيا في حال ساءت الأمور. وحتى اليوم، لم تعلن واشنطن أبداً عن استعدادها لتوفير الضمانة الأمنية المطلوبة أوروبياً. ومن جانبه، قال رئيس الوزراء البريطاني في الاجتماع المذكور إن بلاده سوف تسلّم المزيد من صواريخ الدفاع الجوي لأوكرانيا خلال الأسابيع المقبلة.

وكان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قد اعتبر في وقت سابق من اليوم أن الطريق نحو تسوية النزاع في أوكرانيا لا يزال «طويلاً» و«صعباً». وبعكس الرئيس الفرنسي، فقد رأى ستارمر في كلمة له أمام مجلس العموم أن «الطريق نحو السلام» سيكون شاقاً، لكننا أكثر تصميماً من أي وقت مضى على الدفاع عن هذه القضية والمضي قدماً في هذا المسار». ومن جهة أخرى، أشار ستارمر إلى أن لندن تعمل مع الاتحاد الأوروبي لاستخدام الأصول الروسية المجمدة في البنوك والمؤسسات الأوروبية لتوفير الدعم المالي لأوكرانيا.
وقال ما حرفيته: «هذه أفضل طريقة لإفهام بوتين أنه ينبغي عليه التفاوض بدلاً من محاولة انتظارنا، وهي أفضل وسيلة لنبقى مستعدين لدعم أوكرانيا في الحرب أو في السلام». ومنذ أشهر، يسعى الأوروبيون لإيجاد الطرق القانونية لاستخدام هذه الأموال وتوفير الضمانات لبلجيكا، حيث توجد الأصول الروسية. وما يدفع الأوروبيين لتسريع اهتمامهم بهذا الجانب ما ورد في «الخطة الأميركية» عن كيفية استخدام الأصول المعنية. وسبق لماكرون أن قال إنه يعود للأوروبيين النظر في كيفية استخدام الأصول الروسية المحجوزة في أوروبا وليس للطرف الأميركي.

واستبق ماكرون الاجتماع ليؤكد، في حديث صحافي لإذاعة «آر تي إل»، بُثّ صباح الثلاثاء، أن «الأوكرانيين وحدهم من يمكنهم تحديد التنازلات التي هم مستعدون لتقديمها فيما يخص أراضيهم وكل ما يعنيهم مثل اللغة أو الدستور»... وبعد أن شكك الرئيس الفرنسي بنية الطرف الروسي في السير نحو السلام، فقد شدد على أهمية توافر «قوة طمأنة» لأوكرانيا، مضيفاً أنه «لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم إذا قُيّدت قدرات الجيش الأوكراني الدفاعية والردعية ضد أي عدوان. وأول ضمانة أمنية للأوكرانيين ولنا هي وجود جيش قوي». أما بخصوص مهمة القوة المذكورة فقد حصرها «بالإشراف على تدريب الجيش الأوكراني وتجهيزه، وبانتشارها يوم التوصل إلى السلام». وثمة مهمات أخرى يمكن أن تقوم بها هذه القوة جواً وبحراً وبراً، وسبق لـ«التحالف» أن فصّلها في مناسبات سابقة.

