لم تكن زيارة الدولة الثانية لدونالد ترمب إلى المملكة المتحدة ككل الزيارات الرسمية؛ فهي الأولى التي تخصّ فيها لندن رئيساً أميركياً بزيارتي دولة. كما أنها خصّت سيد البيت الأبيض الحالي بأكبر استعراض لحرس الشرف في تاريخ الزيارات الرسمية.
يتناغم هذا التوجّه مع جهود حكومة رئيس الوزراء العمالي كير ستارمر، الذي سارع منذ لحظة فوز ترمب بولاية ثانية إلى تعزيز «العلاقة الخاصة» مع الرئيس الأميركي، رغم انتقاداته الشديدة له في السابق.

وبدا أن استراتيجية لندن تؤتي ثمارها، إذ لم يتردد ترمب في التعبير عن سعادته بـ«الشرف العظيم» الذي ناله بحصوله على زيارة دولة ثانية إلى المملكة المتحدة، مؤكداً صداقته المتينة مع الملك تشارلز الثالث «الرائع والمحبوب من الجميع». كما اختار اسكوتلندا، التي تنحدر منها والدته المعروفة بإعجابها بالعائلة المالكة، لقضاء إجازة خاصة في يوليو (تموز).
لم تقتصر جهود حكومة ستارمر على إرضاء الرئيس الأميركي، الذي تسببت تقلبات مزاجه وآراؤه الحادة في أزمات مع حلفائه، بل نجحت أيضاً في تخفيف تداعيات عاصفة الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب على غالبية دول العالم في مطلع الصيف. كما تمكنت من انتزاع اتفاق تجاري، رغم أن غالبية بنوده لا تزال قيد النقاش.

ويرتقب رئيس الوزراء البريطاني تحقيق إنجاز اقتصادي خلال زيارة ترمب، خصوصاً أن المملكة المتحدة تعاني من أعلى معدلات التضخم بين اقتصادات مجموعة السبع، بنسبة 3.8 في المائة، ويأمل في إقرار إعفاء قطاع الصلب من الرسوم الأميركية البالغة 25 في المائة.
ورغم غياب المؤشرات الإيجابية من الجانب الأميركي بشأن التقدم في ملف رسوم الصلب، فإن كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية تستعد لتوقيع اتفاقات مليارية مع المملكة المتحدة، لتعزيز قدرات الذكاء الاصطناعي وإنشاء مراكز بيانات، وهو ما يعزز أحد أبرز وعود ستارمر الانتخابية.
زيارة استثنائية
راهن رئيس الوزراء البريطاني على جاذبية العائلة المالكة لكسب ودّ الرئيس الأميركي، وحرص على تقديم رسالة من الملك تشارلز الثالث بشكل علني خلال لقاء جمعه بترمب في البيت الأبيض، في فبراير (شباط) الماضي.

وعلى الرغم من أن الملك هو المضيف فإن زيارات الدولة تُقترح بناءً على نصيحة وزارة الخارجية البريطانية. ولم يتردّد ستارمر في الإشارة إلى الطبيعة الاستثنائية لهذه الدعوة، إذ يكتفي ملك بريطانيا عادةً باستقبال الرؤساء الأميركيين في ولاياتهم الثانية لتناول الشاي أو وجبة في القصر، كما كان الحال مع الرئيسين الأميركيين الأسبقين باراك أوباما وجورج دبليو بوش.
وقال ستارمر لترمب وهو يقدّم الدعوة الملكية: «هذا أمر مميز حقاً. لم يحدث من قبل. إنه أمر غير مسبوق». وتابع: «أعتقد أن هذا يرمز إلى قوة العلاقة بيننا».
بدوره، أشاد ترمب، الذي وصف في مذكّراته ولع والدته الراحلة بالملكة إليزابيث الثانية، بالمبادرة البريطانية، وعدّها «شرفاً عظيماً».
جدول حافل
تستمر زيارة ترمب للمملكة المتحدة يومين، خُصّص أولهما للفعاليات البروتوكولية التي نظّمتها العائلة المالكة في قصر وندسور، فيما تحتضن «تشيكرز»، المقر الريفيّ لإقامة رئيس الوزراء، مباحثات اليوم الثاني مع كير ستارمر وحكومته.
ومن اللافت أن فعاليات زيارة الدولة الثانية لترمب، بعد تلك التي حظي بها في ولايته الأولى عام 2019، تتم بعيداً عن الجمهور.
وحطّت الطائرة الرئاسية مساء الثلاثاء، في مطار ستانستد بلندن. واستُقبل بحرس شرف قبل أن ينتقل بمروحية برفقة زوجته ميلانيا إلى مقر إقامة السفير الأميركي في العاصمة لتمضية الليلة الأولى.

وفي صباح اليوم التالي، بدأ البرنامج الرسمي للزيارة باستقبال احتفالي في قلعة وندسور، قاده الأمير وليام وزوجته كاثرين، قبل أن ينضم إليهما الملك تشارلز الثالث والملكة كاميلا في موكب رسمي بعربات تجرها الخيول. وتخلل المراسم وضع إكليل من الزهر على قبر الملكة إليزابيث الثانية التي تُوفيت عام 2022.
وبعد الظهر، شهد ترمب أكبر استعراض عسكري يُخصص لرئيس أجنبي في تاريخ زيارات الدولة إلى بريطانيا، ضمّ نحو 1300 جندي و120 حصاناً، فيما أُلغي عرض جوي مشترك لمقاتلات أميركية وبريطانية من طراز «إف-35» بسبب سوء الأحوال الجوية.
ويُختتم اليوم الأول بمأدبة رسمية في قاعة القلعة، يُلقي خلالها كل من الملك والرئيس كلمة.
أما في اليوم الثاني، فيتوجه ترمب إلى «تشيكرز»، حيث يلتقي رئيس الوزراء وأعضاء حكومته لبحث ملفات ثنائية ودولية.
ولا شكّ أن حرب أوكرانيا ستتصدّر المحادثات، مع سعي بريطانيا لإقناع ترمب بالانضمام إلى ضمانات «شبه أطلسية» تضمن أمن أوكرانيا بعد وقف إطلاق النار مع روسيا.

اقتصادياً، يترقّب البريطانيون خاصّة مخرجات اجتماع ممثلي مجتمع الأعمال من الجانبين الأميركي والبريطاني، والذي ستترأسه وزيرة الخزانة البريطانية ريتشل ريفز.
وتزامناً مع الزيارة، أعلنت شركة الأدوية البريطانية «غلاكسو سميث كلاين، الأربعاء، استثمار 30 مليار دولار في الولايات المتحدة على مدى خمس سنوات، وفق وكالة الصحافة الفرنسية. وأوضحت في بيان أن هذه الأموال ستُستخدم في البحث والتطوير، وكذلك في الطاقة الإنتاجية، فيما تواجه شركات الأدوية ضغوطاً من الرئيس الأميركي للاستثمار والإنتاج في بلاده.
بدورها، تعهدت شركة «مايكروسوفت» الأميركية العملاقة باستثمار 30 مليار دولار في المملكة المتحدة، لبناء «أكبر حاسوب فائق في البلاد». وقال الرئيس التنفيذي للشركة، ساتيا ناديلا: «سنستثمر أكثر من 30 مليار دولار على مدى أربع سنوات للبناء على الأسس التي سبق وأرسيناها هنا، وهو أكبر استثمار لنا في البلاد حتى الآن».
شبح إبستين
أثار التقارب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني ارتياحاً وترحيباً واسعين في الأوساط السياسية البريطانية، لا سيّما بعد الانتقادات الحادّة التي وجّهها سياسيون مقربون من ستارمر إلى الرئيس الأميركي في ولايته الأولى، ودعم رموز بارزة في حركة «ماغا»، (اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً)، لقوات اليمين المتطرّف في بريطانيا.

ورغم انتماء الرجلين لتيارين سياسيين متناقضين، فإنهما نجحا في بناء علاقة صداقة تجاوزت الخلافات، وواصلت تقليداً عهد عليه الرؤساء الأميركيون بتعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية والتجارية مع لندن.
إلا أن زيارة الرئيس الأميركي تزامنت مع سلسلة أزمات سياسية هيمنت على الحكومة البريطانية في الأسابيع الماضية، كان آخرها مرتبطاً بأحد مهندسي العلاقة بين ستارمر وترمب؛ هو بيتر ماندلسون السفير البريطاني في واشنطن.

وأقال ستارمر ماندلسون الأسبوع الماضي، بعد أن أصبحت علاقته بجيفري إبستين، رجل الأعمال الأميركي المدان في جرائم جنسية، مشكلة جديدة غير مرحَّب بها بالنسبة إلى ستارمر.
وكان ماندلسون يواجه ضغوطاً متزايدة بسبب علاقته بإبستين، بعد أن نشر مشرعون أميركيون رسالة وجّهها بمناسبة عيد ميلاد إبستين الخمسين. وكان السياسي العمالي المخضرم قد كتب رسالة بخط اليد، وصف فيها إبستين بأنه «أعز أصدقائي».

