منذ أعلن رئيس الحكومة الفرنسية عزمه على طرح الثقة بحكومته أمام البرلمان بموافقة رئيس الجمهورية، الذي سيطلب انعقاد «الجمعية الوطنية» يوم 8 سبتمبر (أيلول) الحالي، استباقاً لعرض الميزانية التقشفية التي أعدتها حكومته والتصويت عليها، دخلت فرنسا مرحلة من المطبات الخطرة بعد أن أعلنت أحزاب المعارضة من اليمين واليسار عزمها على رفض منح الثقة المطلوب.
وبما أن حكومة فرنسوا بايرو لا تتمتع بالأكثرية المطلقة ولا بالأكثرية النسبية، فإن سقوطها يوم الاثنين المقبل يبدو مؤكداً. فاليمين المتطرف (التجمع الوطني) لديه 123 نائباً ولدى حليفه «اتحاد قوى اليمين من أجل الجمهورية» 15 نائباً، يضاف إليهم في الطرف المقابل 192 نائباً يسارياً يتشكلون من حزب «فرنسا الأبية (71 نائباً)» و«الحزب الاشتراكي (66 نائباً)» و«الحزب الشيوعي (17 نائباً)» و«الخضر (38 نائباً)» فتكون بهذا المعارضة الهجين قادرة على حشد 330 نائباً، أي ما يساوي راهناً 57 في المائة من «الجمعية الوطنية»؛ مما يعني، حكماً، سقوط بايرو وحكومته وتقديم استقالته إلى إيمانويل ماكرون.
وبذلك، تصبح فرنسا دون حكومة أو ميزانية، علماً بأن أساس الأزمة هو مسودة الميزانية التي أعدتها هذه الحكومة والتي تلحظ عصراً للنفقات قيمته 30 مليار يورو وضرائب إضافية بإجمالي يبلغ 13.8 مليار يورو. وكل ذلك يندرج في إطار السعي إلى خفض مديونية فرنسا البالغة 3 تريليونات و345 مليار يورو، التي تكلف ميزانية الدولة فوائد تبلغ 55 مليار يورو سنوياً، وهي إلى ازدياد؛ بسبب الزيادة المرتقبة للمديونية وارتفاع نسبة الفوائد بسبب ضعف الاقتصاد.

سقوط فرنسوا بايرو
رغم سقوطه المرتقب، فإن بايرو ما زال يتعلق بحبال الهواء آملاً إحداث تغير لدى الرأي العام ولدى بعض نواب المعارضة للبقاء في الحكم. لكن مشكلته لا تنحصر في هؤلاء وحدهم؛ إذ إن نواباً ينتمون إلى حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي الذي يشارك رئيسه في الحكومة بِشَغل حقيبة وزارة الداخلية، لن يمنحوا بايرو الثقة.
كذلك، فإن الائتلاف المسمى «الكتلة الوسطية» المتشكلة من الأحزاب الثلاثة الداعمة لماكرون («النهضة» و«الحركة الديمقراطية» و«هوريزون»)، إضافة إلى الحزب الحليف: «الجمهوريون»، ناقمون على بايرو بسبب التجربة المريرة التي يخضعهم لها بقراره طلب الثقة من البرلمان، والتي لم تكن ضرورية. بيد أن رئيس الحكومة، الذي تولى منصبه قبل 8 أشهر فقط، يرى أن العقبات التي تعوق تحركه اليوم لن تتبدد مع موعد التصويت على الميزانية. ورفض ميزانيته كان سيعني أيضاً سقوطه، وهو ما حدث لسابقه ميشال بارنييه.
وفي أي حال، فإن ماكرون بصدد تسجيل رقم قياسي لجهة عدد رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على المنصب معه منذ صيف عام 2024، إذ بلغ عددهم 4 (إليزابيت بورن، وغبريال أتال، وميشال بارنييه، وفرنسوا بايرو). ولا شك في أن خامساً سينضم إلى اللائحة بعد أيام أو أسابيع قليلة.
ومع ذلك، فإن بايرو قرر إطلاق مشاورات مع قادة جميع الأحزاب بدءاً من عصر الاثنين، وهدفه الأول إقناعهم بأن وضع المديونية يشكل الخطر الأول على البلاد، وبالتالي يتعين بدء مواجهته. لكن مشكلته أن الجميع مقتنعون سلفاً بذلك. لكن الافتراق بينهم هو في سبل معالجته. فأحزاب اليسار ترى أن خطته سترهق ذوي الدخل المتوسط والمحدود بينما يترك جانباً الثروات الكبرى ويرفض النظر في أحد عناصر «خطة غابرييل زوكمان»، وهو اقتصادي فرنسي معروف (39 عاماً) درس في الجامعات الفرنسية وفي بريطانيا والولايات المتحدة، وتنص خطته على فرض ضرائب نسبتها اثنان في المائة على الثروات الكبرى التي تزيد قيمتها على مائة مليون يورو. ووفق حساباته، فإن هذا الضريبة يمكن أن توفر لخزينة الدولة ما لا يقل عن 20 مليار يورو، ومن شأنها أن تيسر صعوبات الميزانية الفرنسية. كذلك، تدعو أصوات إلى تحميل الشركات الفرنسية التي استفادت وتستفيد من دعم حكومي واسع نسبة أعلى من الضرائب فيما بعضها يمارس التهرب الضريبي... والرد الحكومي أن الضرائب الإضافية ستدفع بالثروات إلى الهروب من فرنسا، مما يضعف الاقتصاد الذي يحتاج لتمويل.
أسماء بديلة
ليست أزمة فرنسا مالية - اقتصادية فقط، بل إنها سياسية أيضاً. والسبب الأساسي أن انتخابات الصيف الماضي التي جرت بعد أن حل ماكرون البرلمان، جاءت بجمعية وطنية تفتقر إلى أكثرية مطلقة من شأنها أن تساهم في الاستقرار السياسي بفضل الدعم الذي توفره للحكومة.
ورفض ماكرون بشدة تسليم مفاتيح الحكومة لليسار الذي شكل جبهة واسعة تحت اسم «الجبهة الشعبية الجديدة»، رغم أنه شكل أكبر ائتلاف نيابي في البرلمان. كذلك، رفض الأمر نفسه لليمين المتطرف بقيادة المرشحة الرئاسية مارين لوبان. ويحرص ماكرون على رفض تسليم الحكم لجهة تعمد إلى التراجع عن السياسات التي سار بها منذ وصوله إلى «قصر الإليزيه» في عام 2017. لكن مشكلته أن الحلول المتاحة أمامه ليست كثيرة، وأولها سيكون السعي إلى البحث عن بديل لرئيس الوزراء بايرو يمكن أن يكلفه المهمة.
وثمة أسماء مطروحة منها: سيباستيان لوكورنو، وزير الدفاع، وجيرالد دارمانان، وزير العدل، وكاترين فوتران وزيرة العمل والصحة. كذلك، يعود إلى الساحة اسم الوزير والنائب السابق كزافيه برتراند، وجميع هؤلاء يتحدرون من اليمين الفرنسي. ومن اليسار، يبرز اسم رئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق برنار كازنوف الذي تُدوول اسمه نهاية العام الماضي قبل أن يرسو خيار ماكرون على بايرو. كذلك، ثمة من يرى أن بوسع رئيس الجمهورية أن يكلف شخصية «تقنية غير سياسية» المهمة شبه المستحيلة مثل تييري بوده، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ماكرون في مرمى اليسار المتشدد واليمين المتطرف
الخيار الآخر المتوافر أمام ماكرون هو أن يعمد إلى حل البرلمان مجدداً والدعوة إلى انتخابات جديدة، وهو ما يطالب به جوردان بارديلا رئيس حزب «التجمع الوطني»، وأيضاً جان لوك ميلونشون، زعيم حزب «فرنسا الأبية» الذي يمثل اليسار المتشدد ومعه بعض اليسارِ المعتدل والبيئويين. لكن خياراً كهذا سيكون محفوفاً بالمخاطر لماكرون ولـ«الكتلة المركزية» الداعمة له؛ إذ إن استطلاعات الرأي تبين أن اليمين المتطرف سيكون الفائز الأكبر بهذه الانتخابات على حساب «الكتلة» المشار إليها ولكن دون الحصول على الأكثرية المطلقة.

وفي الأيام الأخيرة، أكد بارديلا استعداده لتولي رئاسة الحكومة إذا تحقق هذا السيناريو. والخطر الآخر بالنسبة إلى الرئيس الفرنسي، الذي تنتهي ولايته الثانية في ربيع عام 2027، أن مجيء برلمان جديد يفتقر إلى أكثرية صلبة سيعني تواصل الأزمة، وعندها تبقى استقالته الخيار الأخير المتاح. وعندها ستتحول الأزمة الاقتصادية - السياسية إلى أزمة حكم أو أزمة نظام. وسارع ماكرون، نهاية الأسبوع الماضي، بمناسبة مؤتمر صحافي بمدينة تولون مع المستشار الألماني فريدريش ميرتس، إلى تأكيد أنه عازم على ممارسة صلاحياته الدستورية حتى اليوم الأخير من ولايته.
يبقى أن ضغوط الشارع تنبئ بخريف بالغ الحرارة، وبعضهم يرى أنه سيكون شبيهاً بما عرفته فرنسا زمن «السترات الصُّفْر». فالدعوة إلى «شل» فرنسا يوم 10 سبتمبر الحالي تحظى بمزيد من الدعم، خصوصاً من اليسار. وفي المقابل، فإن النقابات العمالية بمختلف مشاربها تخطط لإضراب عام شامل ومظاهرات في كل المدن الفرنسية يوم 18 من الشهر الحالي؛ احتجاجاً على ميزانية بايرو والسياسات الاجتماعية والاقتصادية. كذلك ثمة دعوات لتحركات «قطاعية»، كالأطباء وسائقي سيارات الأجرة والعاملين في قطاع النقل العام والصناعات القطاعية، فضلاً عن التلامذة والطلاب.
