لندن وباريس تتنافسان على زعامة المعسكر الأوروبي في التعامل مع واشنطن

ما يجمع بريطانيا وفرنسا أنهما النوويتان الوحيدتان في القارة الأوروبية وقواتهما ستشكل العمود الفقري في أوكرانيا

الرئيس الأميركي في حديث ضاحك مع نظيره الفرنسي بالمكتب البيضاوي في زيارة هي الأولى لمسؤول أوروبي للعاصمة الأميركية منذ تسلم ترمب منصبه (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي في حديث ضاحك مع نظيره الفرنسي بالمكتب البيضاوي في زيارة هي الأولى لمسؤول أوروبي للعاصمة الأميركية منذ تسلم ترمب منصبه (أ.ف.ب)
TT

لندن وباريس تتنافسان على زعامة المعسكر الأوروبي في التعامل مع واشنطن

الرئيس الأميركي في حديث ضاحك مع نظيره الفرنسي بالمكتب البيضاوي في زيارة هي الأولى لمسؤول أوروبي للعاصمة الأميركية منذ تسلم ترمب منصبه (أ.ف.ب)
الرئيس الأميركي في حديث ضاحك مع نظيره الفرنسي بالمكتب البيضاوي في زيارة هي الأولى لمسؤول أوروبي للعاصمة الأميركية منذ تسلم ترمب منصبه (أ.ف.ب)

ثمة سباق انطلق بين الرئيس الفرنسي، ورئيس الوزراء البريطاني، لتزعم الكتلة الأوروبية والتحدث باسمها في عملية «ليّ الذراع» مع الرئيس الأميركي بخصوص الملف الأوكراني. وبغياب ألمانيا الخارجة من انتخابات برلمانية أطاحت بمستشارها أولاف شولتس، وأهّلت خصمه السياسي فريدريتش ميرتس زعيم الحزب الديمقراطي المسيحي اليميني لخلافته، تبدو الساحة مفتوحة أمام إيمانويل ماكرون وكير ستارمر لقيادة المعسكر الأوروبي.

شهدت الأيام الأخيرة تراشقاً كلامياً بين ترمب وزيلينسكي (أ.ف.ب)

تؤكد باريس ولندن أنهما تعملان يداً بيد من أجل تشكيل «قوة عسكرية أوروبية» تكون مهمتها توفير الضمانات الأمنية التي تحتاجها كييف بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين قواتها والقوات الروسية، وبعدها إلى اتفاق سلام بدفع من الرئيس الأميركي.

ويعمل الطرفان على انتزاع تعهد من دونالد ترمب لحماية هذه القوة غير القتالية، في حال عودة الروس إلى العمل العسكري. ورغم ذلك، فإن هناك تنافساً بين ماكرون وستارمر. الأول سبق الثاني إلى البيت الأبيض. وهو يعدّ، وفق مصادر الإليزيه، أنه «الأكثر خبرة» في التعامل مع ترمب لأنه عرفه في ولايته الأولى، وسعى إلى نسج علاقة خاصة معه. كذلك تذكر مصادر الإليزيه أن الزيارة الوحيدة التي قام بها ترمب إلى الخارج منذ إعادة انتخابه، وقبل تنصيبه رسمياً كانت إلى باريس، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تلبية لدعوة ماكرون للمشاركة في احتفال إعادة افتتاح كاتدرائية نوتردام. ووفّرت المناسبة الفرصة للقاء ثلاثي، جمع إلى جانب ماكرون الرئيس الأميركي والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

صورة أعلنت عنها الرئاسة الأوكرانية لعدد من قادة أوروبا مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وزوجته أولينا زيلينسكا في كييف في الذكرى الثالثة للحرب الروسية على أوكرانيا (أ.ف.ب)

مَن المحاور الأقدر للرئيس ترمب؟

لا تتوقف الأمور عند هذا الحد. فالتنافس يبدو أيضاً من خلال سعي كل من ماكرون وستارمر إلى تعبئة المعسكر الأوروبي. الأول دعا إلى «قمتين» غير رسميتين قبل توجهه إلى واشنطن: الأولى ضمّت قادة الدول الثماني الرئيسية (من بينهم ستارمر) الضالعة في الملف الأوكراني، والثانية (عن بعد) جمعت ما لا يقل عن 20 رئيس دولة وحكومة، بحيث إن ماكرون كان يتحدث مع ترمب باسم الأوروبيين، وليس باسمه الشخصي فقط، وبذلك يكون قد حلّ مكان أنطونيو كوستا، رئيس المجلس الأوروبي، ومحل أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية. وقام ماكرون بالشيء نفسه لدى عودته من العاصمة الأميركية حيث تشاور مع ستارمر، ثم مع الأوروبيين الآخرين، ليطلعهم على نتائج محادثاته مع الرئيس الأميركي، وليبين ما نجح في إنجازه معه.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب مستقبلاً رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في البيت الأبيض يوم الخميس (داوننغ ستريت)

أما ستارمر فقد سار على النهج نفسه، مشاورات أوروبية موسعة قبل الانتقال إلى واشنطن ودعوة ما لا يقل عن 12 زعيماً أوروبياً إلى «قمة» في لندن للتباحث بشأن الضمانات الأمنية، التي يمكن أن تقدمها أوروبا لكييف. وقبل هذا الاجتماع المقرر يوم الأحد، يكون ستارمر قد اجتمع بزيلينسكي العائد من العاصمة الأميركية للاطلاع منه على حقيقة ما جرى مع ترمب. ولأن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تريد أن تلعب ورقتها الخاصة نظراً لقربها السياسي من ترمب، فإن ستارمر سيلتقيها على انفراد قبل القمة الجماعية التي يشارك فيه كوستا وفون دير لاين.

ماكرون وستارمر: خطّان متوازيان

ما يجمع بريطانيا وفرنسا أنهما القوتان النوويتان الوحيدتان في القارة الأوروبية، وأن قواتهما ستشكل العمود الفقري للقوة الأوروبية التي قد تنتشر في أوكرانيا، ليس للقتال وعلى الخطوط الأمامية، بل في المدن والمواقع الحساسة. وما يجمع ماكرون وستارمر أنهما يتبنيان المقاربة نفسها للملف الأوكراني، وأنهما سعيا لدفع ترمب لتغيير مقاربته، رغم الإشادة بالجهود التي يبذلها من أجل إطفاء الحرب والتوصل إلى سلام بين أوكرانيا وروسيا.

وإذا كان ماكرون يراهن على «العلاقة الخاصة» التي تجمعه بترمب، فإن ستارمر يمكنه الاستناد إلى «العلاقة التاريخية المتميزة» التي تربط بلاده بالولايات المتحدة، فضلاً عن العلاقة العائلية التي تجمع ترمب ببريطانيا، باعتبار أن والدة الأخير أسكوتلندية الأصل. وبرز التميز أيضاً في الرسالة «الملكية» التي حملها ستارمر من الملك تشارلز الثالث للرئيس الأميركي للقيام بزيارة دولة إلى بريطانيا.

ويجهد البروتوكول البريطاني في توفير الفرصة لترمب لزيارة أسكوتلندا، علماً بأن الأخير يمتلك ملعب غولف قائماً على الشاطئ الأطلسي لأسكوتلندا. وعندما يؤكد ستارمر، من داخل المكتب البيضوي في البيت الأبيض، أنه «لا يمكن أن يكون هناك سلام يكافئ المعتدي» الروسي على حساب أوكرانيا، فإنه يستعيد تقريباً الكلمات نفسها التي استخدمها قبله ماكرون في المكان ذاته، الذي دعا إلى قيام «سلام عادل، قوي ودائم» بين الطرفين المتقاتلين. ولذا، فإن كثيرين تساءلوا عن الأسباب التي منعت الاثنين من القيام بزيارة مشتركة إلى واشنطن، ما كان سيوفر لهما ثقلاً أكبر في التعاطي مع سيد البيت الأبيض في وضع جيوسياسي متغير بسبب سياسة التقارب التي ينتهجها ترمب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وبسبب الإجراءات «غير الصديقة» التي أقرّها إزاء أوروبا، وعنوانها الأول فرض رسوم باهظة على البضائع الأوروبية المصدرة إلى الولايات المتحدة. وفي أي حال، لم ينجح أي من الزعيمين في دفع ترمب للتجاوب مع مطلبهما الأول والأساسي، وهو الحصول على ضمانة أميركية للقوة الأوروبية التي يمكن أن تنشر بعد التوصل إلى اتفاق أوكراني - روسي.

نصائح ماكرون للأوروبيين: كونوا أقوياء

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مجتمعاً بقادة أوروبيين وغربيين في كييف (إ.ب.أ)

رغم ما سبق، يريد ماكرون أن يبين، بالنظر لتعامله المزمن مع ترمب، أنه خبر الرجل ويعرف الأسلوب الواجب السير بوحيه للتعاطي معه. وفي الحديث الذي أدلى به إلى مجلة «باري ماتش» قبل عودته إلى فرنسا، لم يتردد في إسداء نصائحه. فالجميع يعرفون المزاج الناري لترمب، وسعيه المستمر للسيطرة على محاوره، وخصوصاً مزاجيته التي تجعل الطرف الآخر عاجزاً وحائراً.

وفي هذا السياق، يقول ماكرون إن ترمب «يخلق حالة من عدم القدرة على التنبؤ» التي تضع الطرف الآخر في موقف صعب. ويضيف الرئيس الفرنسي: «حاول أن تفهم كيف يفكر، وابدأ من هذه النقطة بدلاً من فرض الأمور عليه. وفوق كل شيء، لا تعطيه دروساً أبداً، ولا تملي عليه أبداً ما هو صواب أو ما هو خطأ. نصيحة أخرى لمن يريد أن يتصدى للرئيس الأمريكي: لا تكن ضعيفاً. عندما تختلف معه في الرأي، عليك أن تخبره بذلك. إنه شخص منطقي. يريد أن يعقد صفقات. يريد أن تتغير الأمور». أما بالنسبة لمزاجيته ولصعوبة استشراف ما قد يصدر عنه، فإن ماكرون يجد في ذلك فائدة، بحيث «يثبت فاعليته الكبيرة ضد أعدائنا الاستراتيجيين» الذين لم يسمّهم. أما السمة الأخرى لترمب فهو «نفاد الصبر السريع» الذي يرى فيه «أمراً مفيداً جداً في نهجه». وباختصار، فإن ترمب صعب المراس، ويتعين التكيف مع هذا الطبع، نظراً لكونه يتحدث من موقع قوة، ومن اعتبار أن بلاده هي القوة الأولى في العالم.

خلال زيارة الدولة التي قام بها ماكرون يومي الخميس والجمعة، أتيحت له الفرصة لاستكمال لائحة نصائحه للأوروبيين. وقال في نهاية اجتماع، الخميس، في «حاضنة» للشركات الناشئة في لشبونة، رداً على سؤال عن العلاقات مع واشنطن: «أسمع كثيراً من الناس في أوروبا يقولون: علينا أن نكون لطفاء مع الأميركيين، وإنهم سيتجاوزون الأمر (أي تسلط ترمب)، وعلينا أن نكون مطواعين». لكنه أضاف: «الحل لا يكمن في الخضوع، وأنا لا أؤيد الخضوع السعيد».

زيلينسكي مع قادة غربيين في مصنع للطائرات المسيّرة بكييف (أ.ف.ب)

وإذ دعا لـ«استعادة اكتشاف طعم المخاطرة والطموح والقوة»، أكد أنه «يمكن للأوروبيين أن يكونوا مقتنعين بشيء واحد. الآن أكثر من أي وقت مضى، يجب أن يكونوا متحدين وأقوياء»، مضيفاً: «لهذا، يجب علينا بالتأكيد اتخاذ خيارات مهمة للغاية فيما يتعلق بالتكنولوجيا والصناعة والدفاع». لا يبدو حتى اليوم أن «وصفة» ماكرون كانت ناجعة. فالرئيس الأميركي مواظب على خطّه. وخلال أقل من 40 يوماً من تسلمه منصبه، نجح في إرباك الأوروبيين والعالم وإحداث استدارة كبرى في تعاطي بلاده مع الآخرين، بالتوازي مع الثورة المحافظة التي يقودها في الداخل الأميركي.


مقالات ذات صلة

ترمب يطالب بـ«عبور مجاني» للسفن الأميركية في قناتَي بنما والسويس

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (رويترز)

ترمب يطالب بـ«عبور مجاني» للسفن الأميركية في قناتَي بنما والسويس

حضّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب، السبت، على جعل عبور السفن الأميركية في قناتَي بنما والسويس مجانياً، طالبا من وزير خارجيّته معالجة هذه القضية «فوراً».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مهاجرون فنزويليون يصلون إلى مطار سيمون بوليفار بعد ترحيلهم من الولايات المتحدة (رويترز)

الولايات المتحدة ترحل طفلة أميركية عمرها عامان إلى هندوراس

رحّلت الولايات المتحدة طفلة أميركية تبلغ عامين إلى هندوراس مع والدتها، حسبما أعلن قاضٍ فيدرالي في ولاية لويزيانا في جنوب الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ يتهم البعض ترمب بالتودد إلى بوتين (أ.ف.ب)

مسؤولون روس احتفوا بها... كيف صبت سياسات ترمب في مصلحة موسكو؟

اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب سياسات صبت في مصلحة روسيا، إما بشكل مباشر أو غير مباشر، لدرجة أن مسؤولين روساً احتفلوا ببعضها.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يمين) يلتقي بالرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) في كاتدرائية القديس بطرس (إ.ب.أ) play-circle

مصير «العرض النهائي» ما زال غامضاً رغم اللقاء «المثمر للغاية» بين ترمب وزيلينسكي

مصير «العرض النهائي» ما زال غامضاً رغم اللقاء «المثمر للغاية» بين ترمب وزيلينسكي... والرئيس الأميركي يتشكك في رغبة بوتين بإنهاء الحرب في أوكرانيا

إيلي يوسف (واشنطن)
شؤون إقليمية إيرانية تمر أمام رسم مناهض للولايات المتحدة على حائط سفارتها السابقة وسط طهران (رويترز)

خامنئي و«فن التفاوض»: محادثات إيران مع أميركا بين الحذر والتفاؤل

سلطت الصحف الإيرانية الضوء على أن المفاوضات مع أميركا تظهر تحولاً في السياسة الخارجية الإيرانية. ورأت «كيهان» في تغير موقف المرشد الإيراني جزءاً من «فن التفاوض»

«الشرق الأوسط» (لندن - طهران)

وداع مهيب لــ «بابا البسطاء»

رؤساء بينهم الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جنازة البابا فرنسيس في باحة الفاتيكان أمس (د.ب.أ)
رؤساء بينهم الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جنازة البابا فرنسيس في باحة الفاتيكان أمس (د.ب.أ)
TT

وداع مهيب لــ «بابا البسطاء»

رؤساء بينهم الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جنازة البابا فرنسيس في باحة الفاتيكان أمس (د.ب.أ)
رؤساء بينهم الأميركي دونالد ترمب والفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جنازة البابا فرنسيس في باحة الفاتيكان أمس (د.ب.أ)

بجنازة مهيبة، ودعت روما أمس، أسقفها الأرجنتيني الذي أطلق حملة إصلاحية غير مسبوقة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية ورفع لواء الدفاع عن المهمشين.

في الباحة الخارجية، احتشد زهاء ربع مليون شخص جاؤوا لوداع الرجل، الذي قال: «الذين يفكرون في بناء الجدران وليس الجسور، ليسوا من أتباع المسيح». أقوياء العالم وكباره من رؤساء دول وملوك توزعوا على الصفوف الأمامية، وعلى مسافة أمتار قليلة منهم جلس الناس البسطاء الذين أمضى البابا فرنسيس معظم أوقاته بينهم، من فقراء ومهاجرين.

وفي الطريق من الفاتيكان إلى كاتدرائية السيدة الكبرى «سانتا ماريّا ماجوري»، كانت الجموع تلقي تحية الوداع الأخير على البابا، مستذكرين قوله: «سرق الشيوعيون منا راية الفقراء».

وبدأت مراسم الجنازة بحضور ممثلين عن 146 دولة، يتقدمهم الرئيس الإيطالي سرجيو ماتاريلا، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والرؤساء الفرنسي إيمانويل ماكرون، والأميركي دونالد ترمب، والأرجنتيني خافيير ميلي والعاهل الإسباني فيليبي السادس.