فيما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعلن زيادة الإنفاق العسكري للعام المقبل بنسبة 30 في المائة، ويتوعّد بتصعيد غير مسبوق في الحرب ضد أوكرانيا، كان الأمين العام الجديد للحلف الأطلسي، رئيس الوزراء الهولندي السابق، مارك روتّه، يتسلّم مهام منصبه من سلفه النرويجي ينس ستولتنبرغ، معلناً العنوان الرئيسي لولايته بالتصريح التالي: «إن حق الدفاع عن النفس، استناداً إلى أحكام القانون الدولي، لا يقتصر فحسب على الحدود الداخلية، وبالتالي فإن دعم أوكرانيا في الدفاع عن نفسها يعني أيضاً أن لها الحق في ضرب أهداف مشروعة داخل أراضي العدو».
تصريح لا شك في أنه أطرب آذان البيت الأبيض الذي أعطى الضوء الأخضر مؤخراً للجيش الأوكراني لقصف الداخل الروسي بالأسلحة الأميركية، والذي دأب منذ بداية العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد لبنان على تكرار مقولة إن الولايات المتحدة تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
ويتعين على روته أن يضمن خلال اجتماعه الرئيسي الأول - اجتماع وزراء دفاع الدول الأعضاء يومي 17 و18 أكتوبر (تشرين الأول) - الحفاظ على أعلى مستوى من الدعم العسكري الغربي الحاسم لأوكرانيا في حربها مع روسيا، مع تزايد الضغوط لإنهاء هذه الحرب والبدء بمفاوضات.
لا أحد ينتظر تغييراً جذرياً في العقيدة الحربية لحلف الدفاع الأطلسي مع وصول هذا السياسي الهولندي المخضرم، المعروف بقدرته على الحوار ومد الجسور مع الخصوم، إلى سدة الأمين العام لأكبر حلف عسكري في التاريخ، والذي يواجه اليوم أصعب التحديات منذ تأسيسه عام 1949 في واشنطن، بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وبدأ الغرب يستشعر خطر التمدد السوفياتي في أوروبا وخارجها.
صحيح أن قاعدة الإجماع هي التي تحكم نظام اتخاذ القرار في هذا الحلف الذي قام بهدف «نشر المبادئ الديمقراطية والدفاع المشترك عن أعضائه ضد اعتداء يتعرضون له من طرف ثالث».
لكن الأصح أيضاً هو أن البوصلة التي يتحرك «الناتو» حسب وجهتها، تخضع لتعليمات «البنتاغون» والمصالح الأميركية، كما دلّت جميع العمليات العسكرية التي شارك الحلف فيها أو قادها؛ من البلقان إلى الشرق الأوسط، وجنوب آسيا إلى أفريقيا.
وستمثل أوكرانيا أولوية قصوى للأمين العام روته. وقال وهو يتحدث وبجانبه الأمين العام المنتهية ولايته ينس ستولتنبرغ في بروكسل: «أوكرانيا في قمة القائمة». وتحدث روته عن مهام مهمة أخرى للناتو، مثل تعزيز إنتاج قطاع الدفاع الغربي، بالإضافة إلى تعميق العلاقات مع الشركاء في منطقة المحيطين الهندي - الهادئ.
لذلك من غير الوارد أن تحمل ولاية روته على رأس «الناتو» أي جديد، اللهم سوى في أسلوب القيادة وتفاصيل الإدارة اليومية، وأنه لن يعدو كونه منفذاً للمخطط الذي تضعه الإدارة الأميركية وما تقرره لمواجهة التحديات الأمنية على الساحة الدولية.
لا شك في أن الحرب الدائرة في أوكرانيا ستبقى الملف الرئيسي على مائدة الحلف في السنوات المقبلة، وستبقى معالم التعاطي مع هذا الملف مرهونة بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، لمعرفة ما إذا كان الموقف الأطلسي سيستمر على حاله في حال تجديد الولاية الديمقراطية، أو أن عودة الجمهوريين ستحمل معها، كما وعد ترمب مراراً، تغييراً جذرياً في اتجاه وقف الدعم العسكري لأوكرانيا ودفع كييف نحو تسوية سريعة مع موسكو.
وبسؤاله عن احتمالية عودة الرئيس الأميركي السابق ترمب للبيت الأبيض، قال روته إنه ليس قلقاً بما أنه تعامل مع المرشح الرئاسي من قبل. وأشار روته إلى أن ترمب يطالب الدول الحلفاء بإنفاق المزيد من قطاع الدفاع، مؤكداً أن هذا هو الوضع حالياً. وأضاف: «كما أنه يدفعنا لنواجه الصين، وأعتقد أنه كان محقاً في ذلك».
وينتقد ترمب الدول الحلفاء، خاصة ألمانيا، لما وصفه بالإنفاق الدفاعي المنخفض، كما شكك في مبدأ الحلف المتعلق بالدفاع الجماعي.
يأتي ذلك فيما لم تنجح سوى 23 دولة عضواً في الحلف من أصل 32 في تحقيق الهدف المحدد قبل عشر سنوات، والمتمثل في تخصيص ما لا يقل عن 2 في المائة من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق العسكري. ويؤكد العديد منها الحاجة إلى المزيد لمواجهة الكرملين.
وأكد ستولتنبرغ (65 عاماً) أن الحلف بقيادة مارك روته (57 عاماً) «في أيدٍ أمينة». الرجلان يعرفان بعضهما جيداً، فقد مثّل روته بلاده عندما كان رئيساً لوزراء هولندا في قمم الحلف الأطلسي على مدى 14 عاماً. كما التقى رئيس الوزراء النرويجي السابق قبل أن يتولى الأخير قيادة التحالف العسكري.
لكن ذلك لم يمنع روته من تحديد رؤيته لموقف الحلف من هذه الحرب في خطاب التسليم والتسلّم، أمس، في بروكسل، حيث قال: «زرت أوكرانيا أربع مرات، وشهدت بأم العين وحشية حرب العدوان الروسية وبسالة الشعب الأوكراني في معركته من أجل الحرية. إن تقديم الدعم لأوكرانيا ليس فحسب قراراً عادلاً، بل هو أيضاً استثمار في أمننا لأن أوكرانيا المستقلة والديمقراطية هي ضمانة للأمن والسلم في أوروبا». ثم أضاف: «إن تكلفة الدعم الذي نقدمه لأوكرانيا أقل بكثير من التكلفة التي سنتكبدها إذا أفلح بوتين في مخططه».
وعينت الدول الـ32 الأعضاء في الناتو روته خلال الصيف، بعد أن حصل السياسي الهولندي على تأييد مبكر من جانب الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، على الرغم من سجله الخاص بالإنفاق الدفاعي المنخفض في الحكومة. وقال روته لمجلس شمال الأطلسي، الهيئة المعنية باتخاذ القرارات في الناتو: «لا يمكن أن يكون هناك أمن دائم في أوروبا دون أوكرانيا قوية ومستقلة».
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يعرف جيداً أن بقاءه في المعركة لصد الاجتياح الروسي مرهون كلياً بالدعم العسكري الأطلسي، سارع إلى تهنئة الأمين العام الجديد بقوله: «أتطلع إلى تعاون مثمر معكم لتعزيز الأمن الأوروبي الأطلسي، وشراكتنا مع الحلف على طريق الانضمام إليه بوصفنا عضواً كامل العضوية».
في غضون ذلك، كانت واشنطن تسرّب إلى بعض وسائل الإعلام أن من القرارات الأخيرة التي قد يقدم عليها الرئيس الأميركي جو بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض، هو الدفع بقوة في اتجاه تسريع انضمام أوكرانيا إلى الحلف، وذلك خلال الاجتماع الذي ستعقده مجموعة الاتصال لأوكرانيا على مستوى الرؤساء، نهاية الأسبوع المقبل، في ألمانيا. وتفيد الأنباء المسربة بأن هذا الموضوع كان مدار بحث في الاجتماع الأخير الذي عقده بايدن مع زيلينسكي خلال زيارة الأخير إلى واشنطن، وأن الإدارة الأميركية التي لم تبد حتى الآن تحمساً لفكرة انضمام أوكرانيا إلى الحلف، بدأت تميل مؤخراً إلى الاقتناع بالصيغة «الألمانية الغربية» للانضمام؛ أي تلك التي تم اعتمادها في عام 1955 لانضمام ألمانيا من أجل ضمان أمنها، رغم عدم وحدة أراضيها آنذاك بسبب وجود ألمانيا الشرقية. وتقول أوساط مطلعة إن روته من المحبذين لهذا التوجه الذي، رغم طبيعته الاستفزازية تجاه موسكو، قد يكون مدخلاً لدفع الطرفين نحو التسوية.