هل تعيد خليفة بوريل رسم المواقف الأوروبية من حرب غزة؟

كايا كالاس عُرفت بتصريحات «متأرجحة» تميل إلى تأييد إسرائيل

كايا كالاس لدى حضورها اجتماعاً لقادة المفوضية الأوروبية في بروكسل يوم 18 سبتمبر (إ.ب.أ)
كايا كالاس لدى حضورها اجتماعاً لقادة المفوضية الأوروبية في بروكسل يوم 18 سبتمبر (إ.ب.أ)
TT

هل تعيد خليفة بوريل رسم المواقف الأوروبية من حرب غزة؟

كايا كالاس لدى حضورها اجتماعاً لقادة المفوضية الأوروبية في بروكسل يوم 18 سبتمبر (إ.ب.أ)
كايا كالاس لدى حضورها اجتماعاً لقادة المفوضية الأوروبية في بروكسل يوم 18 سبتمبر (إ.ب.أ)

يغادر جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، منصبه في نهاية العام لتخلفه رئيسة وزراء إستونيا السابقة، كايا كالاس، في الولاية الثانية لرئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين.

عُرف بوريل في الأشهر الماضية، في بعض الأوساط السياسية والإعلامية، بأنه «صوت الحق»، ولا سيما فيما يتعلّق بحرب غزة. ولأنه كان يعي أنه لن يبقى في منصبه، ولن يحتل أي منصب آخر في المفوضية الجديدة التي ستتسلم مهامها بداية العام القادم، فقد انتهج خطاً سياسياً واضحاً، مندداً بـ«حمام الدم» الذي تقوم به إسرائيل في غزة، وبسياسة التجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية والقتل الأعمى. ويوم الخميس الماضي، اتّهم بوريل القوات الإسرائيلية بـ«تجاهل المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي».

جوزيب بوريل متحدثاً أمام معبر رفح من الجانب المصري يوم 9 سبتمبر (أ.ف.ب)

وقبل يومين من ذلك، اتهم إسرائيل بالسعي إلى «تحويل الضفة الغربية إلى غزة جديدة، من خلال زيادة العنف ونزع الشرعية عن السلطة الفلسطينية وتشجيع الاستفزازات للرد بقوة، ولكي لا تكون هناك غضاضة في الإعلان للعالم أن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع هي ضم الضفة الغربية وغزة».

كما اتّهم بوريل «أعضاء في الحكومة الإسرائيلية، حكومة بنيامين نتنياهو، بمحاولة جعل إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً». وسبق له أن دعا إلى فرض عقوبات على وزيري الأمن الداخلي والمالية؛ إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بسبب تشجيعهما والتحريض على الكراهية وارتكاب جرائم حرب. وعبّر بوريل مراراً عن إحباطه إزاء تقاعس المجتمع الدولي، بقوله إنه «يأسف ويدين، لكنه يجد صعوبة في التحرك».

ونهاية مايو (أيار) الماضي، ندّد بـ«محاولات ترهيب» قضاة المحكمة الجنائية الدولية بعد طلب المدعي العام كريم خان، رسمياً، توقيف رئيس الوزراء الإسرائيلي وقادة من «حماس». وآخر ما صدر عنه، الأربعاء، «إدانته» التفجيرات التي استهدفت أجهزة اتصال يستخدمها أعضاء من «حزب الله» اللبناني، عاداً أنها «تعرض الأمن والاستقرار في لبنان للخطر، وتفاقم مخاطر التصعيد في المنطقة».

ما سبق غيض من فيض. وكان كافياً لكي يتهم وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس المسؤول الأوروبي بـ«معاداة السامية»، بسبب تعليقاته على الغارة الإسرائيلية على مخيم النصيرات، ومقتل موظفين تابعين للأمم المتحدة. ولم تكن تلك المرة الأولى. ورفضت الخارجية الإسرائيلية طلباً لبوريل لزيارة إسرائيل يومي 14 و15 الشهر الحالي بحجج واهية.

خليفة بوريل

بوريل سيغيب عن المشهد الأوروبي مع نهاية العام، بعد أن يكون البرلمان الأوروبي قد ثبّت أعضاء المفوضية الأوروبية الـ27 في مناصبهم بنهاية جلسات الاستماع التقليدية. ومن بين هؤلاء «خليفة» بوريل، رئيسة وزراء إستونيا السابقة كايا كالاس التي أسندت إليها فون دير لاين حقيبة السياسة الخارجية.

واستحدثت الأخيرة مفوضية الدفاع التي أعطيت لأندريوس كوبيليوس، من ليتوانيا. والهدف من ذلك بناء قدرات التصنيع العسكري الأوروبي، في مواجهة تواصل الحرب الروسية في أوكرانيا. وهاتان المفوضيتان ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى، وإيلاؤهما لشخصيتين تنتميان إلى بلدان البلطيق يعكس تغير موازين القوى داخل الاتحاد الأوروبي، حيث يتراجع دور الدول المؤسسة للاتحاد لصالح بلدان وسط وشرق أوروبا.

اجتماع لأعضاء المفوضية الأوروبية المعيّنين في بروكسل يوم 18 سبتمبر (إ.ب.أ)

تُعدّ كالاس من أشدّ خصوم روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بالذات، ومن غلاة الداعمين لأوكرانيا. ومنذ أن كانت رئيسة لحكومة بلادها، طالبت كالاس بتسريع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي.

لذا، لم يتردّد مصدر سياسي أوروبي في وصفها «دمية» بين يديي الولايات المتحدة الأميركية. بيد أن ما يهم العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط أن كالاس معروفة بتعاطفها مع إسرائيل، وهي بذلك لا تشذ عن القاعدة المعمول بها في بلدان البلطيق الثلاثة، التي تعد من أشد الداعمين لتل أبيب داخل الاتحاد الأوروبي، إلى جانب النمسا وألمانيا والتشيك.

وبالمقابل، ثمة مجموعة من الدول الأوروبية متعاطفة مع الفلسطينيين، من أبرزها إسبانيا وآيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا، التي اعترفت مؤخراً بالدولة الفلسطينية، فيما «تدرس» فرنسا الاحتذاء بنظيراتها الأوروبية. ونُقل عن مصادر فرنسية أن الأمر «قيد النظر». لكن باريس تريد أن يترافق ذلك مع خطوة ما دافعة باتجاه الحل.

في تقرير للقناة الألمانية «دي دبليو»، نُشر يوم 11 سبتمبر الحالي، ورد أن إسرائيل «تنفست الصعداء» مع تسلم كالاس، قريباً، مسؤولياتها الجديدة. كما أنها تتوقع أن تتحسن علاقاتها بالاتحاد الأوروبي مع غياب بوريل عن الساحة. ونقلت القناة المذكورة عن إيفين إينسير، عضوة البرلمان السويدي في المجموعة البرلمانية للاشتراكيين والديمقراطيين ذات الميول اليسارية، إنها «تشعر بالقلق من أن كالاس لم تعطِ الأولوية حتى الآن للوضع الإنساني في غزة، ولم تكن صريحة» في سياستها.

بوريل لدى عقده مؤتمراً صحافياً في دبي يوم 17 سبتمبر (رويترز)

وخلال ترؤسها الحكومة الإستونية، رفضت تالين الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بيد أنها، بالمقابل، دعمت قرار الأمم المتحدة الداعي إلى إعطاء فلسطين العضوية الكاملة في المنظمة الدولية بعد أن كانت تتمتع بصفة مراقب. وإذا كانت، بصفتها رئيسة لوزراء بلادها، قد نددت بحركة «حماس» وأعربت عن دعمها لإسرائيل واعترفت بحقها في الدفاع عن نفسها، فإنها طالبتها بأن تفعل ذلك «بطريقة تحافظ على أرواح الأبرياء وتلتزم بقواعد القانون الدولي».

كذلك، حثّت إسرائيل على وقف النار، وأيّدت حلّ الدولتين. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، كرّر وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بالإجماع هذا الموقف. لكن المعضلة تكمن، تحديداً، في أن إسرائيل لا تهتم بالتصريحات الصادرة لا عن الأوروبيين ولا عن الهيئات الدولية، كونها دعوات لا تلحقها تدابير عملية لدفعها للالتزام بما هو مطلوب منها.

من هي كايا كالاس؟

ليست كالاس دخيلة على السياسة أو على الاتحاد الأوروبي. فهذه «المرأة الحديدية»، كما توصف في تالين، البالغة من العمر 47 عاماً ومارست مهنة المحاماة سابقاً. ورثت السياسة عن والدها سيم كالاس، الذي شغل قبلها منصب رئيس الحكومة، وكان أيضاً مفوضاً أوروبياً، فضلاً عن أنه مؤسس حزب «الإصلاح» الليبرالي.

دخلت كالاس البرلمان الأوروبي للمرة الأولى عام 2011، قبل أن تعود إلى بلادها، وتترأس حزب «الإصلاح»، وتصبح رئيسة للحكومة في عام 2021. وبعد أن أعربت عن رغبتها في الاستقالة من منصبها، عبّرت عن طموحها لخلافة أمين عام الحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ. إلا أن مارك روته، رئيس وزراء هولندا السابق حظي بالمنصب بدعم أميركي.

فون دير لاين شاركت في اجتماع للأعضاء المعيّنين في المفوضية الأوروبية الجديدة يوم 18 سبتمبر (رويترز)

ومن منذ أن بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، التزمت كالاس، وهي رئيسة للحكومة الإستونية، بالمواقف الأكثر تشدداً ضد روسيا. ورغم صغر بلادها وضيق ميزانيتها، فقد كانت سخية في مساعدة كييف التي خصصت لها 1 في المائة من الدخل القومي لبلادها. وتمتعت كالاس بشعبية واسعة داخل بلادها وخارجها. فإنها واجهت أزمة ثقة في عام 2023، بعد أن ذكرت وسائل الإعلام المحلية أن شركة مملوكة جزئياً لزوجها استمرت في العمل بروسيا. ورفضت كالاس الاستقالة، وأُعيد انتخابها زعيمة لحزب «الإصلاح»، ولم تتضرّر صورتها الدولية بسبب الفضيحة.

وفي مهمتها القادمة، ستكون إيران على أجندتها ليس فقط بسبب تطور برنامج طهران النووي، ولكن خصوصاً بسبب الدعم الذي توفره لروسيا بالمسيرات والصواريخ الباليستية. وتأمل إسرائيل إحداث تقارب مع كالاس بتسخير الملف الإيراني الذي يمكن أن يُشكّل صلة الوصل بينهما.

لن تكون مهمة كالاس، على رأس الدبلوماسية الأوروبية، سهلة. إذ عليها النجاح في إثبات حضور النادي الأوروبي على الخريطة العالمية، علماً بأن مهمتها الأولى ستكون السعي للتوفيق بين مواقف متضاربة بين الدول أعضائه. وبالتالي، سيتعين عليها دوماً البحث عن قواسم الحد الأدنى، لتوفير الإجماع المطلوب في السياسة الخارجية الأوروبية.


مقالات ذات صلة

صواريخ وضربات تواكب حديث وقف النار

المشرق العربي جانب من الدمار الناجم عن غارات إسرائيلية على بلدة السكسكية في جنوب لبنان أمس (رويترز)

صواريخ وضربات تواكب حديث وقف النار

تصاعدت وتيرة القصف الإسرائيلي على لبنان أمس (الخميس)، وواكبه الحديث عن هدنة في أعقاب صدور «النداء الدولي - العربي» لوقف النار في لبنان وغزة، الذي لم يحقق

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي برهم صالح متحدثا خلال الجلسة التي أدارتها الزميلة نجلاء حبريري (الشرق الأوسط)

برهم صالح: العراق لا يتحمل الانزلاق نحو الحرب

قال الرئيس العراقي السابق، برهم صالح، إن بلاده لا تتحمل الانزلاق نحو الحرب، بينما تنجرّ منطقة الشرق الأوسط سريعاً نحو الهاوية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
المشرق العربي سوريون ولبنانيون على معبر المصنع بين لبنان وسوريا هرباً من القصف الإسرائيلي (الشرق الأوسط) play-circle 02:57

النازحون السوريون يعانون جحيم حرب جديدة

أوضاع صعبة يعيشها آلاف السوريين الذين اضطروا مجدداً للهرب من مخيمات كانت تؤويهم في مناطق الجنوب اللبناني والبقاع بعد قرار إسرائيل توسعة الحرب على لبنان.

بولا أسطيح (بيروت)
المشرق العربي مبنى استهدفته الطائرات الإسرائيلية في ضاحية بيروت الجنوبية (إ.ب.أ)

إسرائيل تستعمل صاروخ «نينجا» لملاحقة عناصر «حزب الله» في لبنان 

أدخلت إسرائيل سلاحاً جديداً لتنفيذ اغتيالات على الساحة اللبنانية، تمثل في صاروخ موجه يحمل شفرات حادة يعرف باسم صاروخ «نينجا».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
تحليل إخباري رد فعل امرأة فلسطينية على مقتل أقاربها عقب غارة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين في جباليا شمال قطاع غزة (رويترز)

تحليل إخباري كيف أثرت حرب لبنان على جهود التهدئة في غزة؟

بينما تراوح مفاوضات الهدنة في غزة مكانها منذ عدة أسابيع، تزداد وتيرة الحرب المشتعلة في لبنان، وتتسارع نداءات إطفائها عبر مقترح أميركي - عربي - أوروبي بوقفها.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
TT

تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)

رفعت موسكو سقف تهديداتها للغرب، في إطار مواجهة ما وصف بأنه «تهديدات جديدة» تتعرض لها روسيا. وفي أول خطوة عملية للرد على زيادة معدلات الانخراط الغربي في الحرب الأوكرانية، وضعت التعديلات التي استحدثها الرئيس فلاديمير بوتين في العقيدة النووية الروسية مجالات أوسع لاستخدام محتمل للسلاح غير التقليدي، وخفضت سقف الشروط التي كانت تقيّد اللجوء إلى الترسانة النووية للدفاع عن مصالح روسيا وحماية وحدة أراضيها وسيادتها.

الرئيس الروسي ترأس اجتماعاً الأربعاء لمجلس الأمن القومي خُصّص لمناقشة ملف «الردع النووي» (رويترز)

عقب إعلان الرئيس الروسي اتهمت أوكرانيا القيادة في موسكو بـ«الابتزاز النووي». وقال أندري يرماك، كبير مسؤولي مكتب الرئيس الأوكراني، عبر تطبيق «تلغرام»: «لم يتبق لروسيا سوى الابتزاز النووي. ليس لديها أي وسيلة أخرى لترويع العالم»، مضيفاً أن محاولة الترويع لن تجدي نفعاً.

ولم يخفِ الكرملين أن الرسالة الأولى والأهم في التعديلات على العقيدة النووية موجهة مباشرة إلى الغرب الذي تتهمه موسكو بالانخراط المباشر في الأعمال العدائية على جبهات القتال. وهو أمر أوضحه بشكل جلي الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف عندما قال، الخميس، إن «التغييرات في العقيدة النووية الروسية تحمل إشارة مباشرة للدول غير الصديقة».

وأوضح: «هذه إشارة تحذير لتلك الدول من العواقب إذا شاركت في هجوم على بلادنا بوسائل مختلفة، وليس بالضرورة بالوسائل النووية فقط».

ونبَّه إلى أن «رؤساء الدول العقلاء» كانوا يدركون في السابق خطورة تصريحات بوتين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بـ«مثل هذه المواجهة غير المسبوقة» التي أثارتها المشاركة المباشرة للدول الغربية في الصراع الأوكراني.

المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف (إ.ب.أ)

وأضاف بيسكوف أن إمكانات روسيا النووية ودورها الرادع معروفان في جميع أنحاء العالم. ووفقاً له، يجري الآن «تعديل مقومات الردع النووي»، مع الوضع في الحسبان التوتر المتفاقم على طول محيط حدود البلاد. وشدد ممثل الكرملين على أن «ضامن الردع هو الثالوث النووي الروسي» (الحاملات للرؤوس النووية والمقصود هنا الغواصات والطائرات والصواريخ الاستراتيجية).

وكما أوضح بيسكوف، فإن العقيدة النووية تتكون من وثيقتين: «العقيدة العسكرية النووية» و«أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وقد صاغ الرئيس الروسي تعديلات على الوثيقة الثانية، الأربعاء، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي، وهي الوثيقة التي تنظم آليات وشروط استخدام الترسانة النووية. على أن يتم اصدار مرسوم رئاسي في هذا الشأن قريباً، يكون ملزماً بشكل فوري ولا يحتاج إلى تدابير داخلية مثل مصادقة الهيئات التشريعية في البلاد عليه.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يستمع إلى الخطاب الافتتاحي للجمعية العمومية (د.ب.أ)

ماذا عدلت روسيا في وثيقتها؟

أعلن بوتين في مستهل اجتماع لمجلس الأمن المخصص لملف الردع النووي، عن قرار تحديث «أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وحدَّد أبرز ملامح التعديلات من خلال التأكيد على أن «العدوان على روسيا من قِبل أي دولة غير نووية بدعم من قوة نووية سيعدّ بمثابة هجوم مشترك؛ ما يمنح روسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية حتى لو كان العدوان الذي تواجهه روسيا يتم باستخدام أسلحة تقليدية، بشكل يهدد سيادتها».

عملياً، تم تخفيض عتبة استخدام جميع الأسلحة الموجودة في الترسانة النووية الروسية التي وصفها بوتين بأنها «الأكبر والأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم».

بعبارة أخرى، فقد تم سدّ الثغرة التي واجهتها روسيا لفترة طويلة، خصوصاً منذ اندلاع الأعمال الحربية في أوكرانيا. وهي التي، وفقاً لبوتين «سمحت للقوى الغربية بمحاربة روسيا بالوكالة، باستخدام القوة البشرية للأوكرانيين». مع التعديل بات لدى بوتين سند قانوني وفقاً لتشريعات بلاده يسمح باتخاذ قرار استخدام أسلحة نووية ضد دول غير النووية إذا شنت عدواناً على روسيا بمساعدة قوى نووية.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يصافح الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (أ.ف.ب)

هذه هي الرسالة التحذيرية الصارمة التي حملتها التعديلات للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وهي البلدان النووية المنخرطة في الحرب وفقاً لوجهة نظر الكرملين. كما أن التهديد ينسحب بشكل مباشر على أوكرانيا وبولندا ورومانيا وبلدان حوض البلطيق وهي بلدان غير نووية تشارك بوتائر مختلفة في الجهد الحربي.

العنصر الثاني اللافت في التعديلات، تمثل في تحديد أنواع الخطر الذي يمكن تفسيره بأنه يسمح باللجوء إلى السلاح النووي. وهكذا نصت التعديلات على إمكانية استخدام الأسلحة النووية رداً على هجمات بالطائرات والصواريخ والطائرات من دون طيار. وهذه طرازات الأسلحة والمعدات التي تستخدمها أوكرانيا بنشاط في شن هجمات داخل الأراضي الروسية. هنا، لم تعد القيود على استخدام الترسانة النووية تقف عند مواجهة طرازات المعدات القادرة على حمل رؤوس نووية، الآن تستطيع روسيا الرد بشكل حاسم على أي محاولة لتحقيق اختراقات كبرى عبر الحدود باستخدام معدات جوية بما في ذلك المسيّرات.

وقد أوضح الرئيس الروسي أن الوضع الجديد يجب أن يكون واضحاً لكل «خصومنا الاستراتيجيين». محدداً أن «شروط انتقال روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية يبرز بوضوح أيضاً، وسننظر في هذا الاحتمال بمجرد أن نتلقى معلومات موثوقة حول إطلاق ضخم للأسلحة الهجومية الجوية وعبورها حدود دولتنا». وأوضح مجدداً أن هذا يشمل «صواريخ كروز والطائرات من دون طيار والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وغيرها من الطائرات».

بوتين يزور مصنعاً للطائرات المسيّرة (رويترز)

العنصر الثالث الذي برز في التعديلات أن روسيا سوف تستخدم أيضاً الردع النووي لحماية أقرب حلفائها، بيلاروسيا. ومعلوم أن موسكو نقلت في وقت سابق أسلحة نووية تكتيكية إلى البلد الجار وهددت باستخدامها في حال تعرّض الحليف البيلاروسي أو المناطق الحدودية المجاورة له إلى خطر أو تهديد. وهكذا باتت التعديلات الجديدة تضع سنداً قانونياً لكبس الزر الأحمر في هذه الحالة.

الخيار النووي.. أخير

لكن التعديلات المطروحة لا تعني انتقال روسيا تلقائياً إلى استخدام الأسلحة النووية، فهي تحمل طابعاً تحذيرياً وعنصراً ضاغطاً على السياسات الغربية من دون أن تستثني اللجوء إلى «الخيار الأخير» في حالات التهديد الخطر والمباشر.

وقد لفت نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف الانتباه إلى نقطة مبدأ العدوان من قِبل دولة غير نووية. ووفقاً له، الجميع يفهم ما هي البلدان التي نتحدث عنها. وأكد أن «التغيير ذاته في الشروط التنظيمية لاستخدام بلادنا المكون النووي يمكن أن يهدئ حماسة هؤلاء للانخراط أكثر في عدوانهم المتواصل».

وهذا الأمر ركز عليه بوتين أيضاً في خطابه عندما شدد على أن التطور يهدف «أولاً وقبل كل شيء، إلى تحديد المبدأ الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية، وهو أن استخدام القوات النووية هو إجراء متطرف لحماية سيادة البلاد». مجدداً التأكيد على أن بلاده «تعاملت دائماً مع مثل هذه القضايا بأقصى قدر من المسؤولية. وإذ ندرك جيداً القوة الهائلة التي تمتلكها هذه الأسلحة، فقد سعينا إلى تعزيز الإطار القانوني الدولي للاستقرار العالمي ومنع «انتشار» الأسلحة النووية ومكوناتها».

ووصف الثالوث النووي بأنه «أهم ضمانة للأمن» بالنسبة لروسيا، و»أداة للحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي وتوازن القوى في العالم». ومع ذلك، تابع بوتين، أن الوضع العسكري السياسي آخذ في التغير، وتظهر مصادر جديدة للتهديدات العسكرية لروسيا وحلفائها، وبالتالي يجب تكييف العقيدة «مع الحقائق الحالية»، مع توضيح شروط استخدام الأسلحة النووية.

زيلينسكي يزور مصنعاً للذخيرة في الولايات المتحدة (أ.ب)

تجب الإشارة إلى الفوارق الرئيسية التي أحدثتها التعديلات عن النسخة السابقة للعقيدة النووية؛ إذ كانت الشروط التي يمكن بموجبها لموسكو استخدام الأسلحة النووية منصوصاً عليها في أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي لعام 2020 تقوم على أربعة شروط رئيسية:

حصول روسيا على معلومات موثوقة حول إطلاق صواريخ باليستية تهاجم أراضيها و/أو أراضي حلفائها؛ يستخدم العدو أسلحة نووية أو أنواعاً أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا و/أو حلفائها؛ إذا شن الخصم هجوماً بأي وسيلة ضد منشآت حكومية أو عسكرية بشكل يمكن أن يعطل رد فعل القوات النووية الروسية؛ وتعرّض روسيا لهجوم واسع بالأسلحة التقليدية؛ مما يهدد وجود الدولة ذاته.

مع التعديلات لم تعد روسيا في حاجة إلى تحري معلومات أو انتظار هجوم، فهي بات بمقدورها شن هجوم استباقي حتى لو شعرت بخطر عبر استخدام مسيّرات أو هجمات جوية تقليدية.

كيف سار العمل على تغيير العقيدة؟

بدأت القيادة الروسية الحديث عن تغييرات في العقيدة النووية منذ بداية يونيو (حزيران) 2024. ولأول مرة، أدلى بوتين ببيان حول هذه المسألة خلال مشاركته في أعمال نادي «فالداي» للحوار الاستراتيجي أمام عشرات الخبراء من مختلف دول العالم. في تلك الجلسة أثير الحديث عن «فاعلية العقيدة النووية الروسية بنسختها الحالية في مواجهة التهديدات الجديدة»، خصوصاً المتمثلة في «عدوان واسع تشنّه بلدان نووية بشكل غير مباشر».

في ذلك الوقت قال بوتين: «علينا المضي بشكل أكثر صرامة على سلم التصعيد والاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية». إلى ذلك، أشار بوتين إلى بند العقيدة النووية القائل بأن روسيا ستستخدم مثل هذه الأسلحة في حالات استثنائية - إذا كان هناك تهديد مباشر لسيادتها وسلامتها الإقليمية. وخلص إلى أنه «لا أعتقد أن مثل هذه الحالة قد نشأت - ليست هناك حاجة إلى مثل هذه الحالة بعد (...)، لكن هذه العقيدة أداة حية، ونحن نراقب بعناية ما يحدث في العالم، من حولنا، ولا نستبعد إجراء بعض التغييرات على هذه العقيدة».

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يمين) يزور مصنع ذخيرة الجيش في سكرانتون بولاية بنسلفانيا (إ.ب.أ)

في تلك الفترة تحديداً، أمر بوتين بإجراء تدريبات واسعة على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وبعد أسابيع من تلك التدريبات التي شملت إجراءات عملية مباشرة، بينها تدريبات على نقل الرؤوس النووية وتخزينها على مقربة من خطوط التماس ثم تفجيرها ضد مواقع العدو الافتراضي، أعلنت قيادة القوات النووية التكتيكية في رسالة وجهت إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة (بوتين) أنها باتت على أهبة الاستعداد.

السلاح النووي التكتيكي

لم تنص التعديلات التي تم الحديث عنها في العقيدة النووية على بند خاص يحدد آليات وظروف استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، على الأقل في الشق المعلن من هذه الوثيقة. لكن بوتين كان قد أشار أكثر من مرة في السابق إلى أن التطور المرتبط باستخدام محتمل للسلاح النووي التكتيكي بات على طاولة النقاش الروسي الداخلي.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يخاطب «قمة المستقبل» في «الأمم المتحدة» (إ.ب.أ)

وأوضح في وقت سابق أن سبب التركيز على هذا الموضوع «يرجع إلى ظهور عناصر جديدة - على أي حال، نحن نعلم أن الخصم المحتمل يعمل على ذلك - عناصر تتعلق بخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. على وجه الخصوص، يجري تطوير أجهزة نووية متفجرة ذات طاقة منخفضة للغاية، ونحن نعلم أنه في دوائر الخبراء في الغرب هناك أفكار تتداول حول إمكانية استخدام مثل هذه الأسلحة وليس هناك أي شيء فظيع في هذا الأمر».

ونبّه خلال زيارة نادرة إلى فيتنام قبل أسابيع «قد لا يكون الأمر فظيعاً، لكن يجب أن ننتبه لذلك». ولم يحدد في حينها كيف ستتغير العقيدة في مجالات الاستخدام المحتمل للسلاح النووي التكتيكي. والشيء الوحيد الذي قاله هو أننا «لسنا في حاجة إلى ضربة وقائية بعد... لأنه في الضربة الانتقامية سيتم تدمير العدو بشكل مضمون».