بوتين يتحدى «الجنائية الدولية» في منغوليا... تعزيز الشراكة العسكرية وتنسيق السياسات

قواته تواصل التقدم في دونيتسك وتعلن عن «خسائر فادحة» لكييف في كورسك

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
TT

بوتين يتحدى «الجنائية الدولية» في منغوليا... تعزيز الشراكة العسكرية وتنسيق السياسات

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ يمشون أمام حرس الشرف (رويترز)

سار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطوة جديدة، الثلاثاء، في كسر الحصار الدولي المفروض عليه من جانب الغرب، وإظهار قدرته على تطوير العلاقات بحلفاء بلاده رغم الصعوبات التي تواجهها روسيا، ومساعي ملاحقته من جانب محكمة الجنايات الدولية.

وشكلت الزيارة التي قام بها بوتين إلى منغوليا المجاورة واستمرت يوماً واحداً، نقطة فارقة في تحدي الغرب، لكونها الزيارة الأولى لبوتين إلى بلد عضو في محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت العام الماضي مذكرة اعتقال ضده. وسبق لبوتين الذي قلص إلى درجة كبيرة تحركاته الخارجية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أن قام بزيارات نادرة داخل الفضاء السوفياتي السابق، كما زار الصين وكوريا الشمالية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس المنغولي أوخناجين خوريلسوخ(ا.ف.ب)

وحظي بوتين باستقبال دافئ لدى وصوله إلى العاصمة المنغولية في الليلة السابقة قبل بدء الزيارة العالية المستوى التي تعدّ تعبيراً عن التحدي للمحكمة وكييف والغرب ومجموعات حقوقية، والتي دعت جميعها إلى اعتقاله.

والتقى بعد ذلك بالرئيس أوخنانغين خورلسوخ في ساحة جنكيز خان وسط العاصمة. وعزفت فرقة موسيقى عسكرية النشيدين الوطنيين الروسي والمنغولي، بينما وقف الرئيسان في الساحة قرب جنود منغوليين بزي تقليدي وبعضهم على الأحصنة.

وبدا الارتياح على الزعيم الروسي وهو يجدد علاقات التحالف الوثيقة التي كان الاتحاد السوفياتي السابق قد أقامها مع الجمهورية المجاورة التي تقيم علاقات متوازنة بكل من الحليفين الروسي والصيني.

ووصف نتائج المفاوضات مع نظيره المنغولي أوخناجين خوريلسوخ في أولان باتور بأنها شكلت نقطة تحول مهمة نحو تعزيز العلاقات التقليدية.

وقال: «خلال مفاوضات اليوم، ناقشت أنا والرئيس خوريلسوخ مجموعة واسعة من قضايا التفاعل في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، وتبادلنا وجهات النظر حول المشكلات الدولية والإقليمية الأكثر إلحاحاً».

وأشار الرئيس إلى أنه تم خلال الاجتماع إيلاء كثير من الاهتمام لبناء العلاقات التجارية والاستثمارية ذات المنفعة المتبادلة. وفي الوقت نفسه، أشار إلى أن روسيا هي أحد الشركاء الاقتصاديين الأجانب الرئيسيين لمنغوليا.

وأشار بوتين إلى أن موسكو تستجيب دائماً لطلبات أولان باتاور لتلبية الاحتياجات المتزايدة للوقود ومواد التشحيم، بما في ذلك الشروط التفضيلية. وشدد على أن روسيا زودت اقتصاد الجمهورية لفترة طويلة وبشكل موثوق بموارد الطاقة المطلوبة. ووفقاً لبوتين فإن نحو 90 في المائة من احتياجات منغوليا من البنزين والديزل جاء العام الماضي من روسيا.

متظاهرون يحملون علم أوكرانيا احتجاجاً على زيارة بوتين في عاصمة منغوليا أولانباتور الاثنين (رويترز)

وتوقف بوتين بشكل خاص عند ملف التعاون العسكري التقني والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، مع منغوليا التي تعد بين أبرز الشركاء العسكريين لبلاده. وقال إن تعزيز تفاعل البلدين في هذه المجالات يساهم في ضمان الأمن في آسيا.

كما نوه إلى انفتاح موسكو على إطلاق مشاريع نووية سلمية مع أولان باتور.

وشدد على أن «العمل المشترك مع الأصدقاء المنغوليين والاتفاقات التي تم التوصل إليها ستساهم في مواصلة تطوير الشراكة الروسية المنغولية متعددة الأوجه».

وخلال الزيارة وصف بوتين خلال اجتماعه مع رئيس وزراء منغوليا لوفسانمسرين أويون إردين، العلاقات بمنغوليا بأنها أولوية بالنسبة لروسيا، والآن يواجه البلدان مهمة تنويعها وتعزيزها بمجالات جديدة.

بوتين يلقي خطابا الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان في معركة خلاخين غول عام 1939(ا.ف.ب).

وتأتي زيارة الرئيس الروسي وسط جدل حول مذكرة «الاعتقال» التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية مع قبول منغوليا اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، لكن موسكو بدت مطمئنة على هذا الصعيد، وقال السكرتير الصحافي لرئيس الدولة ديمتري بيسكوف، رداً على سؤال عما إذا كانت هناك مفاوضات مع أولان باتور بشأن هذه المسألة، إن جميع جوانب الرحلة تم إعدادها بعناية.

وأعربت كييف عن استياء بسبب الزيارة، متّهمة منغوليا بـ«المسؤولية المشتركة» مع روسيا عن «جرائم الحرب» التي لوحق بوتين من جانب المحطمة الدولية بسببها، وحضّت منغوليا على تطبيق مذكرة التوقيف، بينما أفادت المحكمة الجنائية الدولية الأسبوع الماضي، بأن من «واجب» جميع أعضائها اعتقال المطلوبين من قبل المحكمة.

الرئيس بوتين والرئيس أوخناجين خوريلسوخ خلال المؤتمر الصحافي المشترك(ا.ب.أ)

ولم تُدِن منغوليا العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وامتنعت عن التصويت خلال الجلسات المتعلّقة بالنزاع في الأمم المتحدة.

رغم ذلك، خرجت مظاهرة صغيرة في العاصمة المنغولية قبل الزيارة، رفع خلالها بعض المحتجين لافتة كتب عليها «أخرجوا مجرم الحرب بوتين من هنا».

ومنعت الإجراءات الأمنية المشددة مظاهرة أخرى كانت مقررة الثلاثاء، من الاقتراب من مكان وجود الرئيس الروسي.

وتجمّع المحتجون بدلاً من ذلك على مقربة من «النصب التذكاري المخصص للمقموعين سياسياً»، الذي يكرّم الأشخاص الذين عانوا في ظل النظام الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفياتي الذي حكم منغوليا لعقود.

وتأتي الزيارة لإحياء للذكرى الـ85 لانتصار حاسم حققته القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان.

وقبل الزيارة، أشار بوتين إلى عدد من «المشروعات الاقتصادية والصناعية الواعدة» بين البلدين، في مقابلة أجرتها معه صحيفة «أونودور» المنغولية ونشرها الكرملين.

وقال إن هذه المشروعات تشمل بناء خط لأنابيب الغاز يربط بين الصين وروسيا ويمر بالأراضي المنغولية.

وأضاف أنه «مهتم بمواصلة العمل» باتّجاه عقد قمة ثلاثية مع نظيريه المنغولي والصيني.

من جانبها، حذّرت منظمة «العفو الدولية»، الاثنين، من أن فشل منغوليا في توقيف بوتين يمكن أن يقوّض أكثر شرعية المحكمة الجنائية الدولية، ويعطي دفعة إلى الأمام لبوتين لتحدي السلطات القضائية الدولية.

وقالت المديرة التنفيذية لمنظمة «العفو الدولية» بمنغوليا، ألتانتويا باتدورج، في بيان، إن «الرئيس بوتين فار من العدالة... أي زيارة إلى دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية لا تنتهي بتوقيفه فستشجّع الرئيس بوتين على مواصلة سلوكه الحالي، ويجب أن يُنظر إليها على أنها جزء من جهد استراتيجي لتقويض عمل المحكمة الجنائية الدولية».

وتأتي زيارة بوتين في وقت معقد للغاية على صعيد العمليات الحربية في أوكرانيا. وفي حين تواصل القوات الروسية تقدمها البطيء ولكن المستمر على محور دونيتسك جنوب البلاد، وتعزز هجماتها الكثيفة في اتجاه خاركيف شرقاً، تواجه البلاد منذ بداية الشهر الماضي أكبر اختراق أوكراني داخل العمق الروسي. بعدما نجحت كييف في التوغل بشكل مفاجئ في إقليم كورسك الروسي الحدودي وبسطت سيطرتها على عشرات البلدات والقرى.

وخلافاً للتأكيدات الروسية بأن الهجوم تم تنسيقه بعناية بين كييف وحليفاتها في الغرب، نقلت وسائل إعلام حكومية روسية، الثلاثاء، تقريراً نشرته مجلة «فورين أفيرز» الأميركية خلص إلى أن «الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك سلط الضوء بشكل حاد على الافتقار الواضح للتنسيق بين كييف وحلفائها الغربيين».

وكتب مايكل كوفمان، الخبير في مؤسسة كارنيغي وروب لي، الخبير في معهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركية في مقال لـ«فورين أفيرز»: «إذا كان الأمر قبل الهجوم غير واضح، فإن هذا الهجوم يسلط الضوء بشكل حاد على الافتقار الواضح لاستراتيجية منسقة بين أوكرانيا وشركائها الغربيين».

وأضاف الكاتبان أن «مثل هذا التحول في الأحداث يجب أن يؤدي إلى مراجعة الاستراتيجية الحالية (لشركاء كييف الغربيين) في هذه الحرب».

وفي الوقت نفسه، يؤكد كوفمان ولي، أن «الولايات المتحدة لا تعرف كيف يمكن إنهاء الصراع في أوكرانيا بشروط مواتية لكييف».

ومع استمرار مواجهة موسكو الهجوم الأوكراني، شهدت الجبهة الشرقية تقدماً مهماً للقوات الروسية التي باتت على بعد كيلومترات قليلة من مدينة كراسنو آرمييسك، (باكروفسك بالأوكرانية) التي تعد مركزاً لوجيستياً حيوياً لقوات كييف، في ظل مكاسب ميدانية مستمرة منذ أسابيع كانت آخرها السيطرة على بلدتي بتيتشيا وفييمكا في دونيتسك.

وفي أحدث حصيلة روسية لم تؤكد كييف صحة المعطيات الواردة فيها، أعلنت وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء، أن قواتها نجحت في القضاء على 8900 عسكري أوكراني وتدمير 80 دبابة ومئات المدرعات والدبابات وراجمات الصواريخ لقوات كييف في مقاطعة كورسك منذ الـ6 من أغسطس (آب) عندما شنت كييف هجومها المباغت.

مركز رياضي في خاركيف قالت كييف ان روسيا دمرته بالهجوم الأحد(ا,ب)

قالت القوات الجوية الأوكرانية إنها أسقطت 27 من أصل 35 طائرة مسيرة أطلقتها روسيا خلال هجوم الليلة الماضية. وأضافت القوات الجوية، في بيان على تطبيق «تلغرام»، أن القوات الروسية استخدمت ثلاثة صواريخ باليستية وصاروخاً موجهاً في الهجوم.

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن 41 شخصاً على الأقل قُتلوا وأُصيب أكثر من 180، الثلاثاء، عندما استهدفت روسيا بصاروخين معهداً عسكرياً في مدينة بولتافا بوسط أوكرانيا في أعنف هجوم منفرد منذ بداية العام الحالي. وأضاف زيلينسكي في مقطع مصور أن القوات الروسية أطلقت صاروخين باليستيين، مما ألحق أضراراً بمبنى تابع لمعهد الاتصالات العسكري. وأمر بإجراء تحقيق شامل وسريع في ملابسات الهجوم. وبحسب وزارة الخارجية الأوكرانية، فإن نوعية الأسلحة المستخدمة لم تترك وقتاً يُذكر للناس لإيجاد ملجأ بمجرد انطلاق الإنذار الجوي.

وقال وزير الداخلية الأوكراني، إيهور كليمينكو، إنه «تم إنقاذ 25 شخصاً، على الأقل، من تحت الأنقاض. وفي المنطقة السكنية المجاورة، تحطمت النوافذ وتضررت الواجهات بسبب موجة الانفجار».


مقالات ذات صلة

«وحشية بوتين لا تعرف حدوداً»... ألمانيا وبريطانيا تندّدان بهجوم بولتافا في أوكرانيا

أوروبا لقطة تُظهر المباني السكنية المتضرّرة بشدة في منطقة دونيتسك الأوكرانية وسط استمرار الحرب (رويترز)

«وحشية بوتين لا تعرف حدوداً»... ألمانيا وبريطانيا تندّدان بهجوم بولتافا في أوكرانيا

أكّدت برلين، الثلاثاء، أن وحشية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «لا تعرف حدوداً»، عقب مقتل عشرات الأوكرانيين في هجوم صاروخي روسي على مدينة بولتافا.

«الشرق الأوسط» (برلين - لندن)
تحليل إخباري بوتين ومرافقون ينزلون درجاً لمعبد بوذي في جمهورية توفا الروسية الاثنين (رويترز)

تحليل إخباري روسيا... بأي اتجاه؟

روسيا... الأمّة القلقة... متطلّباتها الأمنيّة أكبر بكثير من إمكاناتها الماديّة.

المحلل العسكري (لندن)
أوروبا جندي روسي يستخدم بندقية «كلاشنيكوف» (رويترز)

مادة جديدة في مدارس روسيا تتضمن كيفية استخدام «الكلاشنيكوف» والمسيّرات القتالية

أضافت المدارس الروسية مادةً جديدةً إلى مناهج الطلاب الذين يبلغون من العمر 13 عاماً أو أكثر، تتضمن تعليمهم كيفية استخدام بنادق «الكلاشينكوف» والمسيّرات القتالية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صورة مأخوذة من مقطع فيديو نشرته وزارة الدفاع الروسية في 18 أغسطس 2024 تظهر جنوداً روساً يطلقون النار من مدفع Giatsint-S باتجاه مواقع أوكرانية في مكان غير معلوم بالقرب من منطقة الحدود الروسية الأوكرانية في منطقة كورسك في روسيا (أ.ب)

القوات الروسية تعلن مقتل 400 عسكري أوكراني في كورسك خلال 24 ساعة

أعلنت وزارة الدفاع الروسية، في بيان، اليوم (الثلاثاء)، أن القوات الروسية حيدت نحو 400 عسكري أوكراني في مقاطعة كورسك خلال 24 ساعة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا مبان سكنية متضررة بشدة جراء هجوم روسي في بلدة تشاسيف يار على الخط الأمامي في منطقة دونيتسك بأوكرانيا... 2 سبتمبر 2024 (رويترز)

مقتل 41 وإصابة 180 في هجوم صاروخي روسي على بولتافا وسط أوكرانيا

قال الرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي إن 41 شخصا، على الأقل، قُتلوا، وأصيب أكثر من 180، في هجوم صاروخي روسي على مدينة بولتافا وسط أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)

روسيا... بأي اتجاه؟

بوتين يلقي خطاباً في الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان بمعركة «خلاخين غول» عام 1939 (أ.ف.ب)
بوتين يلقي خطاباً في الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان بمعركة «خلاخين غول» عام 1939 (أ.ف.ب)
TT

روسيا... بأي اتجاه؟

بوتين يلقي خطاباً في الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان بمعركة «خلاخين غول» عام 1939 (أ.ف.ب)
بوتين يلقي خطاباً في الذكرى الـ85 لانتصار القوات المنغولية والسوفياتية على اليابان بمعركة «خلاخين غول» عام 1939 (أ.ف.ب)

لا يمكن لروسيا أن تهرب من قدرها الجغرافيّ... لا يمكن لروسيا أن تهرب من تاريخ حروبها؛ إنْ كانت مع الشرق الآسيويّ في الغزوات المغوليّة، أو من الغرب بغزوات نابليون وهتلر. إنها الأمة القلقة. متطلّباتها الأمنية أكبر بكثير من إمكاناتها الماديّة. وصفها السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين بأنها محطّة بنزين تتنكّر في دولة. وصفها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بأنها «قوّة كبرى؛ لكن إقليمية».

يمكن وصف تاريخ روسيا بأنه «صراع سيزيفي»؛ (أسطورة سيزيف من أكبر الأساطير اليونانية القديمة شهرة بسبب عقوبته في العالم السفلي)، فهي كانت، ولا تزال، مُضطرة إلى إثبات نفسها وانتزاع الشرعية والاعتراف بها من الغرب على أنها «قوّة عظمى». لذلك تلعب روسيا دائماً دور اللاعب «المُعطِّل - المُخَرْبِط (Disruptor)» على مسرح النظام العالميّ... تلعب لعبة «اللاتماثل (Asymmetry)» مع الغرب. تعبّئ الفراغ وتوجد حيث لا يوجد الغرب... هكذا هو دور شركة «فاغنر» في «القارة السوداء».

يتّسم تاريخ روسيا بأنه تاريخ الصراع مع الغرب، فنادراً ما كانت تتجّه شرقاً، إلا لخلق العازل الذي يحمي مركز الثقل السياسيّ؛ موسكو. وسّع إيفان الرهيب الوجود الروسيّ شرقاً حتى جبال الأورال، فخلق العازل شرقاً. وسّع بطرس الأكبر مساحة روسيا غرباً، فهزم الملك السويدي وبنى مدينة بطرسبرغ. تنكّر بطرس الأكبر في ثياب عادية ليزور أوروبا الغربية؛ فقط ليتعرّف على التكنولوجيا الغربيّة، خصوصاً في مجالَي الملاحة البحريّة وبناء السفن. أما كاترين الكبرى، فهي التي وسّعت نطاق الامبراطوريّة جنوباً باتجاه البحر الأسود، فسيطرت على شبه جزيرة القرم، وأسست للأسطول البحري الروسي هناك.

تواصل مودي - بوتين مستمر (رويترز)

يُنسب لكاترين الكبرى أنها قالت: «لو عشت مائة سنة، لكنت أخضعت أوروبا، وضربت عنجهيّة الصين، وفتحت الباب واسعاً أمام التجارة مع الهند». فهل لا تزال روسيا اليوم ضمن هذا النطاق الجغرافيّ؟ بالطبع.

خلال «اللعبة الكبرى (Great Game)» في آسيا الوسطى مع بريطانيا، اتُّفق على خلق منطقة عازلة بين الإمبراطوريتيّن، فكان «خطّ مورتمور دوراند»، الدبلوماسيّ البريطانيّ، الأمر الذي خلق ما تسمى اليوم دولة أفغانستان.

في كلّ نظام عالميّ مُستحدث، تسعى روسيا إلى حجز مكانها على أنها قوّة عظمى. شكّلت فترة الحرب الباردة أهمّ مرحلة لروسيا بوصفها قوّة عظمى؛ ففي هذه المرحلة كانت روسيا الندّ الأساسي لـ«العم سام» في نظام عالمي ثنائيّ القطب. كما شكّلت مرحلة الحرب الباردة الامتداد الجغرافيّ الأقصى لروسيا. لكن قدر روسيا الجغرافيّ يترنّح بين الامتداد والانحسار، فعند كل تمدّد تتسبب روسيا في مشكلات جيوسياسيّة لأوروبا، كما عند كل انحسار، خصوصاً أن موجة الانحسار تكون عادة مؤقتة؛ لأنها تشكّل مرحلة الاستعداد للتمدد مجدّداً، كما موج البحر.

إذا أردت أن تعرف السلوك الحالي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فما عليك إلا قراءة نص خطابه في «المؤتمر الأمني» في ميونيخ عام 2007. شكّل هذا الخطاب خريطة طريق للمخطّط الجيوسياسيّ للرئيس بوتين. رفض الهيمنة الأميركية الأحاديّة على العالم، وانتقد استعمال أميركا القوّة المفرطة؛ «الأمر الذي جعل العالم أقلّ أمناً». وختم بالقول إن القيم الأميركيّة ليست كونيّة. ذهب بوتين بعدها إلى حرب محدودة في جورجيا. بعدها جرّب عسكره وعتاده في الحرب السوريّة. لكن التحوّل الأكبر كان في غزوه أوكرانيا. عاقبه الغرب، وعزله، وساعد أوكرانيا على الصمود، كما وسّع حلف «الناتو» ليضيق الخناق أكثر حول روسيا.

الشرق مقابل الغرب

يتّبع حالياً الرئيس بوتين استراتيجيّة «إلى الشرق دُرْ (Look East Strategy)». لكن الأسس والبنى التحتيّة لهذه الاستراتيجيّة ليست جاهزة للتنفيذ. ويعود هذا الأمر إلى سببين أساسيّين؛ هما: العائق الجغرافيّ. وتاريخ روسيا الذي ارتبط دائماً بأوروبا. بعد الحرب الأوكرانيّة، سُدّت الأبواب أمام بوتين وفي كل الأبعاد باتّجاه الغرب. تمدّد «الناتو» فأصبح بحر البلطيق بحيرة خارجة عن السيطرة الروسيّة. هذا عدا ديناميكيّة الحرب في البحر الأسود، في ظلّ الحرب الأوكرانية على البحرية الروسيّة هناك. كما أن البحر الأسود هو أصلاً بحيرة يطوّقها حلف «الناتو» ويتحكّم في مضائقها عبر تركيا.

رئيس وزراء منغوليا لوفسان نامسراي أويون إردين لدى لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فلاديفوستوك عام 2022 (غيتي)

فها هو بوتين في «منظّمة شنغهاي للتعاون»؛ المنظمة التي ابتكرتها وتديرها الصين، وهي منظّمة دولية، ذات طابع سياسيّ، وأمنيّ، واقتصاديّ. زاد التبادل التجاريّ بين الصين وروسيا، فوصل إلى نحو 240 مليار دولار العام الماضي. هذا عدا العلاقات التاريخيّة بين الهند وروسيا. فهل بدأنا نرى تشكّل المثلث الجيوسياسيّ، المؤلّف من روسيا، والهند والصين؟ وهل يمكن لهذا المثلث أن يكون البديل لمشروع الرئيس الصينيّ «الحزام والطريق»، خصوصاً أنه يحوي مركز الثقل العالمي؛ إن كان في البُعد البشريّ، أو حتى الاقتصادي؟

يحاول الرئيس بوتين مأسسة العلاقة مع الشرق، عبر بناء مشاريع كبيرة، تهدف كلّها إلى الربط والوصل مع الشرق، مقابل تجميد التواصل مع الغرب الأوروبيّ. فهناك، على سبيل المثال، مشروع «الكوريدور» من الشمال إلى الجنوب، الذي يربط روسيا بإيران ومنها إلى الهند. هذا عدا محاولات الربط البرّي بين الصين وروسيا في الشرق الروسي، ومحاولة التموضع البحري الروسي في البحر الأحمر عبر الطلب من السودان إنشاء قاعدة بحريّة.

الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين في بكين (أرشيفية - رويترز)

التحدّيات

هل يمكن لروسيا أن تموّل هذه المشاريع؟ أو حتى إيران؟ وإذا موّلت الصين، فهل سيبقى الطابع الروسي مسيطراً على أيّ مشروع؟ كيف يمكن التوفيق بين الصين والهند، وهما العدوان اللدودان المتجاوران، والمتنافسان على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين؟ كيف يمكن للصين أن تتملّق دول آسيا الوسطى؛ وهي المنطقة التي تشكّل أحد أعمدة المُسلّمات الجيوسياسية لروسيا؟ هل يمكن لروسيا أن تلعب دور «لاعب جونيور» إلى جانب الصين في صراعها مع «العم سام»؛ وهي التي تتحدّى العالم للاعتراف بها على أنها قوّة عظمى؟ وماذا لو عادت الصين إلى المطالبة باسترداد أراضٍ حصلت عليها روسيا من الصين بالقوّة؟