القرار السياسي في فرنسا ينتقل من «الإليزيه» إلى البرلمان

في ظل المؤشرات الأولية للانتخابات التشريعية... ونهاية «الماكرونية السياسية»

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت لدى إدلائهما بصوتيهما في لو توكيه بشمال فرنسا الأحد (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت لدى إدلائهما بصوتيهما في لو توكيه بشمال فرنسا الأحد (أ.ف.ب)
TT

القرار السياسي في فرنسا ينتقل من «الإليزيه» إلى البرلمان

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت لدى إدلائهما بصوتيهما في لو توكيه بشمال فرنسا الأحد (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعقيلته بريجيت لدى إدلائهما بصوتيهما في لو توكيه بشمال فرنسا الأحد (أ.ف.ب)

نادراً ما عرفت فرنسا انتخابات تشريعية بالأهمية التي ترتديها هذه المرة، التي من المقدر لها أن تُحدث تغييرات جذرية في المشهد السياسي الفرنسي مع الصعود الصاروخي لليمين المتطرف، وتماسك جبهة اليسار، وتراجع الجبهة الوسطية الممثلة بمعسكر الرئيس ماكرون.

فالتقارير والمقابلات التي أُجريت (الأحد) مع كثير من الناخبين - قبل وبعد تصويتهم وخلال الأسبوع الفاصل بين الجولتين الانتخابيتين الأولى والثانية - بيّنت وبوضوح أن الناخب الفرنسي يعي اللحظة التاريخية والانعطافة التي تتأهب فرنسا لولوجها، وأن ما سيخرج من صناديق الاقتراع ستكون له تبعاته على الاستقرار السياسي في البلاد، وعلى السياسات الاقتصادية والمجتمعية المتبعة، وعلى صورتها في أوروبا والعالم، وعلى دورها في التعامل مع الأزمات الناشئة.

وتبين الأرقام والنسب التي وزّعتها وزارة الداخلية ظهراً وعند الساعة الخامسة، المشارَكةَ المرتفعة للناخبين، ونجاح التعبئة التي دعت إليها الأحزاب كافة. وتفيد الأرقام الرسمية بأن نسبة المقترعين وصلت، حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، إلى 59.71 في المائة في حين كانت عند حدود 38.11 في المائة في انتخابات عام 2022. وبذلك، تكون الجولة الحالية قد حقّقت قفزة من أكثر من 20 نقطة وهي بالتالي تذكّر، رغم قصر مدة الحملة الانتخابية التي لم تتخطَّ الأسابيع الثلاثة، بما عرفته فرنسا في عام 1981 عند انتخاب فرنسوا ميتران الاشتراكي رئيساً للجمهورية، واضعاً بذلك حداً لسيطرة اليمين على قصر الإليزيه منذ تأسيس الجمهورية الخامسة في عام 1958. وينظر عدد من المحللين السياسيين إلى هذه الظاهرة على أنها مؤشر على «عافية الديمقراطية الفرنسية» التي أساسها العملية الانتخابية، بينما يرى فيها آخرون انعكاساً لرغبة الناخب الفرنسي بأن تكون له كلمته في تقرير مصير البلاد في لحظة تاريخية مثل التي تعيشها فرنسا راهناً.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف تعول على الانتخابات التشريعية رافعةً توصلها في عام 2027 إلى رئاسة الجمهورية (أ.ب)

استدارة نحو اليمين المتطرف

إذا كان السؤال المركزي في الأيام السبعة الماضية يدور حول معرفة ما إذا كان «التجمع الوطني» أي اليمين المتطرف برئاسة الشاب جوردان بارديلا (28 عاماً) سيحصل على الأكثرية المطلقة في البرلمان الجديد (289 نائباً) أم لا، فإن الثابت أن فرنسا تسير على درب الدول الأوروبية الأخرى التي وصل فيها اليمين المتطرف إلى السلطة، منها إيطاليا وهولندا والمجر، أو أحرز فيها اختراقاً كبيراً كما في ألمانيا والدنمارك والسويد وفنلندا وكرواتيا. صحيح أن مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، تأهلت مرتين للجولة الثانية (والحاسمة) في الانتخابات الرئاسية في عامي 2017 و2022، إلا أنها المرة الأولى التي سيتحول فيها حزب «التجمع الوطني» إلى لاعب رئيسي ومؤثر داخل البرلمان، بحيث يتمكّن من مجموعة نيابية عريضة، وسيكون قادراً على طرح مقترحات قوانين وأن يتحول إلى لاعب فاعل.

لعل النتيجة الأهم من هذه الانتخابات أنها ستسحب القرار النهائي من الإليزيه وتحيله إلى مجلس النواب. فخلال ولايته الأولى من 5 سنوات، كان الرئيس ماكرون الآمر الناهي بفضل تمتعه بأكثرية ساحقة ومطيعة داخل البرلمان، بحيث أنها صوّتت لصالح مشروعات القوانين كافة التي تقدمت بها حكومتا إدوار فيليب وبعده جان كاستيكس. وتغيرت الأمور في ولايته الثانية التي بدأت قبل عامين حيث لم تجمع الأحزاب الموالية له سوى أكثرية نسبية اضطرت بسببها إلى المساومة أحياناً مع نواب اليمين التقليدي وأحياناً أخرى مع اليسار الاشتراكي والخضر.

أما في البرلمان الجديد، حيث سيفقد ماكرون أيضاً الأكثرية النسبية، فإن القرار لن يكون له وحده. فإذا سعى إلى الدفع لتشكيل حكومة مما يُسمى «القوس الجمهوري» الذي يفترض به أن يضم طيفاً متعدد الألوان من الأحزاب الثلاثة الداعمة له («تجدد»، و«الحركة الديمقراطية»، و«هورايزون»)، واليمين التقليدي (حزب الجمهوريون) وبعض اليسار («الاشتراكيون»، و«الخضر»). وفي هذه الحال، ستكون هناك مساومات لبلورة برنامج حكم بين مجموعات تفترق حول كل شيء، وبالتالي فإن الإليزيه سيفقد موقعه بصفته مركزاً أول للسلطة، وسيتحول البرلمان إلى القطب المؤثر الأول. أما إذا رسا الخيار على تشكيل حكومة من التكنوقراط غير المسيسين، فإن خياراً مثل هذا يفترض به أن يحظى بقبول البرلمانيين وإلا فإن الحكومة غير السياسية ستسقط حال طرح الثقة بها ما يفتح الباب أمام أزمة سياسية ــ مؤسساتية، خصوصاً أنه لن يحق لرئيس الجمهورية حل البرلمان مرة أخرى قبل انقضاء عام كامل.

جوردان بارديلا لن يكون رئيساً للحكومة الفرنسية القادمة بسبب عدم حصول حزبه على الأكثرية المطلقة في البرلمان الجديد (أ.ف.ب)

نهاية «الماكرونية السياسية»

وصل ماكرون إلى قصر الإليزيه على أنقاض الأحزاب السياسية التقليدية، حيث تخطاها بنظرية «لا يمين ولا يسار... بل الاثنان معاً». وظهر ذلك عملياً في الحكومات المتعاقبة التي شكّلها، التي ضمت، بالفعل، شخصيات جاءت من اليمين وأخرى من اليسار، وانصهرت في البوتقة الماكرونية. وخلال السنوات السبع، كانت خلافة ماكرون الذي تنتهي ولايته في عام 2027 تشبه المحرمات، بحيث لا يجرؤ أحد من وزرائه على طرحها علناً، بينما يفكر كثيرون في خلافته. والحال أن سؤالين مترابطين يُطرحَان معاً؛ الأول: مَن الشخصية التي ستخلفه في قصر الإليزيه؟ والثاني: ما مصير الماكرونية السياسية المرتبطة عضوياً بالرئيس ماكرون؟

حقيقة الأمر أن الانتخابات البرلمانية تعني، في مكان ما، نهاية الماكرونية السياسية. فالرئيس ماكرون، الحريص على الإمساك بالخيوط السياسية كافة، لم يترك لأي شخصية أن تبرز بقوة وأن تهدد هيمنته على حزبه الخاص «تجدد» أو الحزبين الرديفين. لكن مع الضعف السياسي الذي ألمّ به بسبب حل البرلمان ونتائج الانتخابات، فإن «سطوته» تراجعت ولم يعد إدوار فيليب متردداً في الحديث عن طموحاته الرئاسية، وكذلك حال برونو لو مير وزير الاقتصاد، وجيرالد دارمانين وزير الداخلية وإن كان بدرجة أقل. أما غابرييل أتال رئيس الحكومة الحالي، فإنه ابتعد عن ماكرون لأن الأخير لم يستشره في مسألة حل البرلمان، وتعامل معه بصفته مساعداً له وليس أكثر. ومن الأدلة على تراجع صورة ماكرون أن غالبية مرشحي «ائتلاف الوسط» فضّلت الابتعاد عنه شيئاً ما؛ لكي تحافظ على حظوظها بالعودة إلى الندوة البرلمانية لأن كثيراً نظروا إلى الانتخابات على أنها «استفتاء مع أو ضد ماكرون».

برلمان فوضوي

لم يعد يجادل اثنان بخصوص الخطأ السياسي الكبير الذي وقع به ماكرون بحل البرلمان بعد النتائج الكارثية التي لقيها معسكره في الانتخابات الأوروبية. وبعد أن طرح نفسه في المعركتين الرئاسيتين السابقتين حصناً منيعاً بوجه اليمين المتطرف، ها هو اليمين المتطرف، اليوم، على أبواب السلطة ولن يدخل إليها هذه المرة لأن الجبهة الشعبية الجديدة (المكونة من تحالف أحزاب اليسار والخضر) سارعت إلى سحب مرشحيها الذين حلوا في المرتبة الثالثة من السباق في جولة الإعادة (الحاسمة) لقطع طريق الفوز عليه وحرمانه من التمكن من الأكثرية المطلقة. بعد ذلك، تشكل «القوس الجمهوري»، حيث طوت مكوناته خلافاتها الجوهرية الآيديولوجية والبرامجية، وتوقفت عن التراشق بالاتهامات العنيفة التي استهدف أبرزها حزب «فرنسا الأبية» وزعيمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون. وبفضل هذا القوس، تمكّن معسكر ماكرون من المحافظة على حضور فاعل في البرلمان، ومن المقدر له أن يبقى قوة مؤثرة مشكلة من 120 إلى 150 نائباً. وبذلك، ستقوم 3 مجموعات رئيسية في برلمان يصعب التحكم به وبالتالي، فإن الفوضى السياسية ستكون سيدة الموقف. وبالمقابل، يشار إلى أن عديداً من المخازن الفاخرة في جادة الشانزليزيه وعدداً من الشوارع الأخرى عمدت إلى «تحصين» واجهاتها؛ تخوفاً من أعمال عنف وشغب قد تتبع إعلان النتائج. وقامت وزارة الداخلية بتعبئة ونشر ما لا يقل عن 30 ألف رجل شرطة ودرك؛ لتدارك أي أعمال عنفية.

يبدو واضحاً، في الساعات القليلة السابقة لصدور النتائج، أن اليمين المتطرف لن يحكم فرنسا في 2024 رغم أنه يكون قد حقق قفزة استثنائية تعقب فوزه غير المنازع في الانتخابات الأوروبية. «التجمع الوطني» سيضاعف عديد نوابه ومن المرجح أن يتحول إلى الحزب الأول في فرنسا ما يفتح له الباب واسعاً للفوز في الاستحقاقات المقبلة وأبرزها الانتخابات الرئاسية في عام 2027 التي تتحضر لها مارين لوبان. وسبق لها أن خاضتها 3 مرات ولكن هذه المرة ستكون من غير ماكرون. وفي أية حال، فإن عائلة جان ماري لوبان، «الأب المؤسس» تُجسّد، منذ سبعينات القرن الماضي، اليمين المتطرف سواء كان تحت مسمى «الجبهة الوطنية» أم «التجمع الوطني». فابنتاه مارين وكارولين ستحتلان مقعدَين في البرلمان الجديد، وحفيدته ماريون مارشال أصبحت نائباً في البرلمان الأوروبي وجوردان بارديلا رئيس الحزب، رفيق درب حفيدته الأخرى نولوين التي هي ابنة كارولين.

إنه، على الأقل ولو من غير رئاسة الجمهورية، مشروع عائلي ناجح بامتياز.


مقالات ذات صلة

ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي يبحثان التطورات الإقليمية والدولية

الخليج الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (الشرق الأوسط)

ولي العهد السعودي والرئيس الفرنسي يبحثان التطورات الإقليمية والدولية

بحث الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، الأحد، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
المشرق العربي صورة جماعية تظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متوسطاً الوزراء وممثلي الدول بمناسبة المؤتمر الخاص بدعم سوريا الذي عقد الخميس في باريس (رويترز)

لبنان كان حاضراً في المؤتمر الدولي لدعم سوريا بضيافة باريس

دعا ماكرون السلطات السورية لمنع تدفق السلاح من أراضيها إلى لبنان وبيروت تراهن على تدخل فرنسي لثني إسرائيل عن مواصلة احتلالها لخمس نقاط لما بعد 18 فبراير (شباط).

ميشال أبونجم (باريس)
شمال افريقيا وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في واشنطن - 10 فبراير 2025 (أ.ب)

مصر تبلور تصوّراً شاملاً لإعادة إعمار غزة «بوجود الفلسطينيين على أرضهم»

قالت وزارة الخارجية المصرية إن القاهرة بصدد بلورة تصوُّر شامل لإعادة إعمار غزة «بوجود الفلسطينيين على أرضهم».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

ماكرون: فرنسا مستعدة لبذل المزيد لمحاربة الجماعات الإرهابية في سوريا

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الخميس، إن فرنسا مستعدة لبذل مزيد من الجهود لمحاربة الجماعات الإرهابية في سوريا.

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يرحب بالعاهل الأردني عبد الله الثاني لدى وصوله لحضور اجتماع في باريس 16 فبراير 2024 (رويترز)

ملك الأردن يؤكد في اتصال مع ماكرون «ضرورة تثبيت الفلسطينيين على أرضهم»

قال الديوان الملكي الأردني إن الملك عبد الله الثاني بحث في اتصال هاتفي، الأربعاء، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التطورات «الخطيرة» في غزة والضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (عمّان)

باريس تحتضن «قمة تشاورية» حول أوكرانيا والأمن الأوروبي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ببروكسيل في يوم 18 ديسمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ببروكسيل في يوم 18 ديسمبر 2024 (رويترز)
TT

باريس تحتضن «قمة تشاورية» حول أوكرانيا والأمن الأوروبي

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ببروكسيل في يوم 18 ديسمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ببروكسيل في يوم 18 ديسمبر 2024 (رويترز)

تحتضن العاصمة الفرنسية، الاثنين، اجتماعاً «تشاورياً» يضم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماورن، ويشارك فيه المستشار الألماني ورؤساء حكومات بريطانيا وإيطاليا وبولندا وإسبانيا وهولندا والدنمارك، إضافة إلى أمين عام الحلف الأطلسي ورئيس المجلس الأوروبي ورئيسة المفوضية الأوروبية، ولكن بغياب ممثل عن أوكرانيا.

وجاء في بيان للرئاسة الفرنسية، الأحد، أن الاجتماع غير الرسمي، على مستوى القادة المشار إليهم، سيتناول نقطتين رئيسيتين: تطورات الوضع في أوكرانيا والتحديات الأمنية التي تواجهها أوروبا. ولأن الاجتماع يستبعد الكثير من القادة الأوروبيين أو الأطلسيين، فقد حرصت الرئاسة الفرنسية على الإشارة إلى أن ما قد ينتج علن الاجتماع يمكن متابعته وفق صيغ أخرى؛ حيث إن الهدف «المرغوب» يكمن في رص صفوف كافة الشركاء المهتمين بالسلام والأمن في أوروبا.

حقيقة الأمر أن ما يدفع الأوروبيين لارتجال قمة وإن كانت غير رسمية مرده إلى التطورات التي شهدتها الأيام القليلة الماضية، حيث يعيش الأوروبيون حالة من القلق بعد الاتصال الهاتفي المطول الذي جرى بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير، والذي أعقبه، سريعاً، اتصال بين وزيري خارجية البلدين ماركو بومبيو وسيرغي لافروف اتصال والبدء بتشكيل وفدين للالتقاء في المملكة السعودية بحضور ممثلين أوكرانيين، ولكن من غير الأوروبيين. وسبق ذلك تصريحات لوزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، في ميونيخ، على هامش أعمال مؤتمر الأمني السنوي، وفيها هدم الأهداف الأوروبية المعلنة والخاصة بالحرب في أوكرانيا. وأكد المسؤول الأميركي 3 أمور: الأول، أنه من غير الواقعي أن تتمكن أوكرانيا من استرجاع كامل أراضيه التي تسيطر عليها روسيا والتي ضمتها رسمياً. والثاني وأد احتمال انضمام أوكرانيا اليوم ولا غداً إلى الحلف الأطلسي، والثالث رفض إرسال قوات أميركية إلى أوكرانيا للإشراف على هدنة ما أو بعد إبرام معاهدة سلام بينها وبين روسيا، وأخيراً تأكيد أن القوات الأوروبية التي قد ترسل إلى أوكرانيا لن تكون تحت راية الحلف الأطلسي، بل تحت الراية الأوروبية أو تحت الراية الوطنية لكل دولة معنية.

وزي الخارجية الفرنسي جان نويل بارو خلال كلمته لمؤتمر الأمن بميونيخ السبت (أ.ف.ب)

لا للحضور الأوروبي

بيد أن المسؤولين الأميركيين الحاضرين بقوة في ميونيخ ومنهم، إلى جانب بيت هيغسيث، نائب الرئيس جيه. دي. فانس ومبعوث ترمب إلى أوكرانيا والجنرال كيث كيلوغ، لم يكتفوا بهذا القدر من أجل إحباط الأوروبيين الذين دأبوا على التشديد، منذ شهور طويلة، خصوصاً منذ أن بدأ الحديث عن احتمال العودة سريعاً إلى طاولة المفاوضات، على ضرورة مشاركتهم فيها ورفضهم القاطع أن تتم صفقة أميركية - روسية ومن غير حضورهم وأيضاً من غير حضور الأوكرانيين. وما كان تخوفاً، بدا في الساعات الأخيرة أنه قد يصبح هو الواقع وبشكل خاص منذ أن كشف الجنرال كيلوغ عن رؤية الإدارة الأميركية لما سيحدث. ذلك أن الأخير استبعد مشاركة الأوروبيين في المفاوضات المرتقبة رغم أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي طالب بقوة بحضور الأوروبيين إلى جانب الأميركيين والروس والأوكرانيين، وهو السيناريو الذي تستبعده واشنطن أقله حتى الوقت الحاضر. وفي لقاء في ميونيخ نظمه أحد كبار الأثرياء الأوكرانيين، قال كيلوغ إن المفاوضات يمكن أن تضم الأوكرانيين والروس والأميركيين. ولما سئل عن الأوروبيين، كان رده: «أنا أنتمي إلى مدرسة الواقعية. أعتقد أن هذا لن يحدث»، حسبما نقلت عنه وكالة «أسوشييتد برس».

غير أن عاملاً آخر يشكل مصدر قلق للأوروبيين وعنوانه احتمال قيام صفقة أميركية - أوكرانية تُستبعد منها أوروبا، ويكون جوهرها إرضاء ترمب من خلال اتفاق حول رغبته في الاستفادة من «الأراضي النادرة» التي يحتوي باطنها على معادن ضرورية نادرة للصناعات المتقدمة والتي تحتكر الصين الجزء الأكبر منها. واللافت أن الأميركيين سارعوا إلى تقديم مسودة اتفاقية بهذا الخصوص ما يعني أنهم راغبون في الإسراع ببتّها. بيد أن زيلينسكي رفض التوقيع عليها لأنها لا تربط بين الجوانب التجارية وبين الضمانات الأمنية التي تريدها أوكرانيا. كذلك، فإن ما يهم الأوروبيين ليس فقط مصير أوكرانيا ولكن أيضاً مستقبل أمن القارة الأوروبية، وعليه فإنهم يريدون صفقة متكاملة تشمل بالطبع اتفاقاً ما مع أوكرانيا وأيضاً مصير الأمن في أوروبا وهم يسعون لضمانات روسية بأن بوتين لن يعمد أو يسعى لتحقيق أطماع جديدة بعد أوكرانيا. بيد أن مشكلة أوروبا الأولى أنها منقسمة على نفسها، وأنها تواجه رئيساً أميركياً يريد أن يحملها مسؤولية أمن القارة والتوقف عن الاعتماد على المظلة الأميركية لتوفير الحماية لها من أطماع روسية. والحال أن دعوات الاستقلالية الاستراتيجية التي يروج لها الرئيس الفرنسي ما زالت تخطو خطواتها الأولى بينما كثير من دول أوروبا الوسطى والشرقية وبلدان البلطيق تفضل المظلة الأميركية على مظلة أوروبية غير موجودة. وعلى أي حال، فإن زيلينسكي يريد خطة مشتركة أميركية - أوروبية - أوكرانية قبل الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل بدء سباق ناسكار دايتونا 500 للسيارات في دايتونا بيتش بفلوريدا في فبراير 2020 (أ.ب)

مصادر القلق الأوروبي

هل يبالغ الأوروبيون في مخاوفهم؟ وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو قال في حديث لإذاعة «فرنس أنتير»، الأحد، إنه «لا يتعين المبالغة في التهويل»، لكن الواضح أن ترمب نجح، منذ عودته إلى البيت الأبيض، في إرباك الأوروبيين يوماً بعد يوم. فمن فرض رسوم باهظة على الألومنيوم والصلب، إلى المطالبة بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، إلى التطلع لضم كندا لتصبح الولاية الأميركية الـ51، وهي طرف في الحلف الأطلسي، فضلاً عن مشاريعه في بنما وغزة، وإسراعه في التواصل مع بوتين، ورغبته في إعادة ضمه إلى مجموعة السبع، كل ذلك يمارس ضغوطاً كبيرة على الأوروبيين الذين استرخوا واستراحوا كثيراً خلال ولاية سلفه جو بايدن. لكنه زمن ولى إلى غير رجعة، وعليهم التعامل مع رئيس لا يتقيد كثيراً بقواعد اللعبة التقليدية، بل يريد فرض قواعده الخاصة.