سيناريوهات توسيع الاشتباك الروسي - الغربي

تسليح «أعداء» واشنطن واستهداف ناقلات السلاح وطائرات التجسس و«النووي» آخر الخيارات

بوتين خلال لقائه مع مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية (إ.ب.أ)
بوتين خلال لقائه مع مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية (إ.ب.أ)
TT

سيناريوهات توسيع الاشتباك الروسي - الغربي

بوتين خلال لقائه مع مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية (إ.ب.أ)
بوتين خلال لقائه مع مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية (إ.ب.أ)

أثار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأربعاء، جدلاً واسعاً بحديثه عن خطوات محددة قد تقوم بها بلاده رداً على التحرك الغربي بمنح كييف «الضوء الأخضر» لاستخدام أسلحة فتاكة لضرب مواقع في العمق الروسي.

جاء تلويح بوتين باحتمال تزويد «أعداء» واشنطن بتقنيات صاروخية وأسلحة تعزز قدراتهم في مهاجمة مصالح الولايات المتحدة، ليشكل نقلة خطرة للغاية في آليات إدارة المواجهة بين روسيا والغرب، وليضع سيناريو الانزلاق نحو توسيع الاشتباك الروسي الغربي على سكة التنفيذ العملي، مع كل ما يمكن أن يحمل ذلك من تداعيات.

جانب من لقاء بوتين مع مندوبي وكالات الأنباء الأجنبية (أ.ب)

هذا التلويح هو الثاني لبوتين خلال أسبوعين، الذي حمل استعداداً مباشراً لتوسيع نطاق المعركة الدائرة على الأراضي الأوكرانية، بعدما كان الرئيس الروسي لوح إلى قدرات بلاده النووية التكتيكية، وأمر بإجراء تدريبات على استخدام طارئ للأسلحة التكتيكية في حال تعرضت البلاد لخطر داهم، أو تهديد على مستوى سيادتها وسلامة أراضيها.

بهذا المعنى فإن بوتين حدد قواعد الاشتباك الجديدة، إلى جانب تبني تدابير أخرى، مثل تعزيز منظومات الدفاع الجوي، وتكثيف نشر التقنيات الحربية في المناطق الحدودية. ما يطلق العنان لتكهنات حول السيناريوهات المحتملة لتطور الحرب واحتمالات اتساع نطاقها الجغرافي.

خلال لقاء مع بعض وسائل الإعلام الأجنبية، على هامش مشاركته في أعمال «منتدى بطرسبرغ الاقتصادي»، قال بوتين إن روسيا «يمكنها الرد بشكل متماثل على توريد الدول الغربية أسلحة بعيدة المدى إلى أوكرانيا عبر نقل مثل هذه الصواريخ إلى دول أخرى لمهاجمة أهداف غربية».

وأوضح الرئيس الروسي فكرته بأنه «إذا كان هناك من يعتقد بأنه من الممكن توريد مثل هذه الأسلحة (بعيدة المدى) إلى منطقة قتال لضرب أراضينا وخلق مشاكل لنا، فلماذا لا يكون لدينا الحق في نقل أسلحتنا ومن الفئات نفسها لتلك المناطق من العالم، حيث سيتم تنفيذ الهجمات على أهداف حساسة لتلك البلدان التي تفعل ذلك ضد روسيا؟».

في السياق ذاته، أعاد بوتين التذكير بقدرة بلاده على استخدام أسلحة فتاكة، وحدد لذلك الشرط الذي تنص عليه العقيدة النووية الروسية بوضوح، وهو يقوم على احتمال «توجيه ضربات استباقية في حال تعرض أمن روسيا وسيادتها وسلامة أراضيها لتهديد مباشر».

طائرة مقاتلة خلال تدريبات «الناتو» (إ.ب.أ)

كان الرئيس قال في وقت سابق إن على البلدان الأوروبية الصغيرة نسبياً بمساحتها، وذات الكثافة السكانية العالية أن تفكر ملياً في مدى قدرة روسيا على الرد والتأثير إذا تعرضت لخطر. وكان هذا الإنذار الأقوى والأكثر وضوحاً لجهة التلويح بالقدرات النووية.

توضح المداخل التي استخدمها بوتين خلال الأسبوعين الأخيرين، التي كررها أكثر من مرة مسؤولون مقربون منه، سيناريوهات توسيع الاشتباك.

ووفقاً لخبراء عسكريين بارزين، فإن الأولوية الروسية ميدانياً، تتجه لتخفيف آثار الضربات المحتملة باستخدام الأسلحة الغربية في العمق الروسي. وهذا يتطلب مع زيادة فاعلية المظلات الجوية، تكثيف الضغط العسكري المباشر على خطوط التماس، وفي مناطق العمق الأوكراني، لضمان الانشغال الدائم بتطوير القدرات الدفاعية عن المناطق التي تتقدم فيها موسكو تدريجياً، مثل مناطق دونباس في الجنوب، وخاركيف شرقا، وزاباروجيا وخيرسون في وسط البلاد.

نصب صواريخ كروز في معرض أسلحة بالقرب من برلين (أ.ف.ب)

وهذا التكتيك يشتمل أيضاً على تكثيف الضغط العسكري على منشآت تزويد الطاقة والمياه، ومحطات ومستودعات الوقود، ومخازن السلاح الغربي على الأراضي الأوكرانية.

على صعيد أوسع من ميدان المعارك المباشرة، يتحدث الخبراء على تطوير عمليات روسيا الهجومية على ممرات عبور الأسلحة الغربية، (الممرات المائية والمعابر الحدودية البرية مع بولندا ورومانيا ومناطق أخرى). وكذلك البدء باستهداف المسيرات التجسسية التي تطلقها الولايات المتحدة وبلدان حلف الأطلسي على مقربة من الأجواء الروسية. وكان لافتاً أن موسكو زادت في اليومين الماضيين من إعلاناتها حول رصد طائرات تجسس غربية قرب أجواء روسيا.

أما الإجراء الثالث الذي يدخل ضمن مجالات توسيع نطاق الاشتباك، فهو يتعلق بالشروع في استهداف ناقلات السلاح الغربي، خصوصاً أثناء مرورها في ممرات مائية خطرة بالنسبة إلى روسيا مثل البحر الأسود، فضلاً عن تكثيف مراقبة تحركات سفن الأطلسي في بحر البلطيق.

وكان لافتاً، خلال الأسابيع الأخيرة ازدياد حدة لهجة المسؤولين الروس في الحديث عن احتمالات توجيه ضربات مباشرة إلى الناقلات الغربية (السفن والطائرات)، فضلاً عن أن «مناطق انطلاق هذه الناقلات أو الصواريخ التي تستخدم لضرب العمق الروسي ستكون بدورها أهدافاً مشروعة». والحديث هنا كما قال ديمتري ميدفيديف أحد أبرز «الصقور» في فريق بوتين يدور مباشرة عن استهداف مواقع في بلدان تنتقل منها الأسلحة إلى أوكرانيا، مثل بولندا ورومانيا، وربما جمهوريات حوض البلطيق.

صورة وزعتها كوريا الشمالية (حليفة موسكو) لعملية إطلاق صواريخ من منطقة غير محددة (أ.ف.ب)

ورغم أن الخبراء يضعون هذا السيناريو ضمن التحركات المؤجلة حالياً بهدف تقليص مخاطر الصدام المباشر والواسع مع الحلف الغربي في هذه المرحلة على الأقل، لكن التلويح المتكرر بذلك يؤكد أن هذه الخطوة موضوعة على طاولة قرار الرئيس إذا دعت الحاجة.

العنصر الرابع والأكثر خطورة في السيناريوهات المحتملة، هو ما هدد به بوتين أخيراً؛ إذ يدور الحديث عن توسيع مساحة المواجهة بتأجيج الوضع في مناطق ساخنة وبؤر توتر متعددة توجد فيها قوات أميركية وغربية. ويضع الخبراء هذا السيناريو بوصفه بديلاً أكثر واقعية وإمكانية للتنفيذ من الانزلاق نحو مواجهة مباشرة مع الحلف الغربي. بهذا المعنى فإن روسيا لديها القدرات الفنية والتقنية اللازمة لتوسيع صادرات الأسلحة إلى مناطق عدة تواجه الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات فيها أوضاعاً معقدة، مثل سوريا والعراق وعدد من البلدان الأفريقية، ومناطق ساخنة أخرى.

وكان لافتاً على هذا الصعيد أن موسكو أعلنت أول من أمس عن انطلاق مناورات عسكرية روسية سورية هي الأوسع منذ التدخل العسكري المباشر في سوريا في نهاية سبتمبر (أيلول) 2015. وحملت المناورات هدفاً مباشراً معلناً هو «مواجهة التهديدات على سيادة سوريا وسلامة أراضيها». بهذا الشكل لا يستبعد خبراء تأجيج معدلات ونوعية الهجمات على المواقع الأميركية في سوريا، وكذلك على مصالح حلفاء واشنطن في مناطق عدة.

بهذا المعنى تماماً قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما (النواب) أندريه كارتابولوف إن روسيا «بالطبع، لن تضرب دول الناتو التي تتخذ مثل هذه القرارات في الوقت الحالي، لكن على هذه الدول أن تتذكر أن كل شيء يمكن أن يتغير إذا شعرت روسيا بالخطر».

جنود من الجيش الروسي يقودون دبابة في أحد شوارع دونيتسك (رويترز)

بالمعنى نفسه قال الجنرال السابق في القوات الخاصة، أناتولي ماتفيتشوك: «لا يمكننا، الآن، ببساطة توجيه مدافعنا وصواريخنا والبدء في إطلاق النار على أهداف عسكرية، على سبيل المثال، في أراضي بولندا أو رومانيا أو ألمانيا. ولكن يمكننا في الواقع تنفيذ إجراءات بالوكالة».

وأوضح: «لدينا كثير من الحلفاء حول العالم يكرهون الولايات المتحدة والغرب، ويشنون هجمات عليهما. بالدرجة الأولى، في العراق وسوريا، حيث توجد قواعد ومرافق عسكرية أميركية. ويمكننا تزويد الحوثيين، على سبيل المثال، بأنظمة صواريخ ساحلية، مثل (بال) أو (باستيون)، يمكنها ضرب السفن التابعة للبحرية البريطانية والأميركية، وغيرها من القوات البحرية التابعة لحلف شمال الأطلسي».

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارة لأحد مستودعات تجميع الصواريخ بروسيا في 13 سبتمبر 2023 (أ.ب)

أيضاً رأى بعض الخبراء العسكريين أن الخطوة الأولى سوف تتجه نحو إسقاط طائرات الاستطلاع الأميركية المسيّرة التي تحلق فوق البحر الأسود، على اعتبار أنها تتحول إلى «أهداف مشروعة». وكشفت أوساط عسكرية روسية أن موسكو وجهت تحذيراً مباشراً بهذا المعنى على مستوى القنوات الدبلوماسية العسكرية، وأنها أبلغت واشنطن ولندن بأن «القوات الروسية سوف تستخدم الأسلحة لتدمير طائرات التجسس إذا لم تتوقف هذه الطلعات الجوية».

في المقابل يرى خبراء أن موسكو لن تتجه في المرحلة الراهنة إلى استهداف الأقمار الاصطناعية الغربية «لأن ذلك يعني إعلان حرب»، لكن ستعمل على تعزيز أنظمة التشويش عليها بشكل واسع وممنهج.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ في الذكرى الـ75 لتأسيس علاقات دبلوماسية بين البلدين (إ.ب.أ)

تحمل كل العناصر السابقة تصوراً للحرب غير المباشرة أو المباشرة أحياناً بين روسيا والغرب، وهي تشكل بديلاً «مقبولاً» عن اندلاع صراع عسكري مباشر ومفتوح. لكن هذا لا يعني أن روسيا قد تتردد في استخدام أخطر ما في جعبتها في حال دعتها الحاجة لذلك، ويقول خبراء إن السلاح النووي التكتيكي وضع على أهبة الاستعداد، لكن كبس الزر النووي سيكون آخر الخيارات في حال شعر بوتين بخطر داهم وجدي، وبعدم فاعلية التدابير الأخرى.

يبقى أن المعضلة السياسية - القانونية التي تؤجج احتمالات تدهور الوضع نحو استخدام السيناريوهات المعدة، تكمن في الخلاف الروسي الغربي على تحديد المساحة الجغرافية للاشتباك «المنضبط». حتى الآن كانت الأراضي الأوكرانية هي ساحة المعركة الرئيسية، بمعدلات تدخل مباشر متفاوتة من جانب الغرب. لكن سماح نحو عشرة بلدان غربية على رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بتوجيه ضربات بأسلحتها إلى العمق الروسي يفتح على سجال حول حدود المعركة المعترف بها من جانب الطرفين.

الرئيس الأوكراني في قمة سنغافورة (أ.ب)

لأن موسكو ترى في ضربات على القرم ودونباس هجوماً مباشراً في «العمق الروسي» يضع الرئيس الروسي في دائرة الحرج الداخلي إذا لم يتخذ قرارات فورية برد حازم عليه. وهو قد قال الأربعاء إن «دماء الروسي في دونباس ليست مياهاً». في المقابل فإن قرارات الغرب بدعم توجيه ضربات أوكرانية إلى منشآت عسكرية روسية أقيمت على «أراض محتلة» تستند بدورها إلى موقف لا يمكن التراجع عنه حالياً، وإلا فإن كل مبررات مساعدة أوكرانيا في الحرب الجارية سيتم تقويضها. هذا الخلاف في تحديد مساحة المعركة المتفاقمة لا يوجد حل سياسي له حالياً، وبالتالي فهو يؤجج احتمالات الانزلاق إلى سيناريوهات المواجهة المتسعة.


مقالات ذات صلة

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» وإنزعاج أوروبي

أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في الكرملين (أ.ب)

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» وإنزعاج أوروبي

أقام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استقبالاً حافلاً في الكرملين، أمس، لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، القائد الشعبوي اليميني والأوروبي المشاكس، بعدّه الأقرب إلى

رائد جبر (موسكو)
أوروبا منظر يظهر المباني السكنية المتضررة في بلدة توريتسك الأوكرانية (رويترز)

7 قتلى بضربات روسية في شرق أوكرانيا

قُتل سبعة أشخاص على الأقل وأصيب أكثر من 20 الجمعة في قصف روسي استهدف منطقة دونيتسك الواقعة في شرق أوكرانيا، وفق ما أعلن مسؤولون.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
تحليل إخباري جنود مشاركون بمناورات لحلف «الناتو» في لاتفيا (أرشيفية - إ.ب.أ)

تحليل إخباري من أخطر على مستقبل أميركا و«الناتو»... ترمب أم بايدن؟

مَن الرئيس الأميركي الذي قد يشكّل خطراً على مستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)؟

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين في حديث مع قادة أوروبيين بمناسبة انعقاد قمة غير رسمية في بروكسل الاثنين (إ.ب.أ)

بوتين وأوربان يجريان «محادثات صريحة» في الكرملين

أثارت زيارة رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، إلى موسكو ولقاؤه مع بوتين عاصفة من السجالات في الأوساط الأوروبية.

رائد جبر (موسكو) «الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في الكرملين (أ.ب)

بوتين لرئيس وزراء المجر: مستعد لمناقشة «الفروق الدقيقة» حول الأزمة الأوكرانية

التقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، في الكرملين لمناقشة آفاق تطور أكبر أزمة أوروبية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

كير ستارمر: عمّالي «براغماتي» على رأس الحكومة البريطانية

زعيم حزب العمال كير ستارمر يلوح بيده للمؤيدين خلال تجمع جماهيري بعد فوز الحزب بالانتخابات التشريعية ببريطانيا... الصورة في تيت مودرن في لندن الجمعة 5 يوليو 2024 (أ.ب)
زعيم حزب العمال كير ستارمر يلوح بيده للمؤيدين خلال تجمع جماهيري بعد فوز الحزب بالانتخابات التشريعية ببريطانيا... الصورة في تيت مودرن في لندن الجمعة 5 يوليو 2024 (أ.ب)
TT

كير ستارمر: عمّالي «براغماتي» على رأس الحكومة البريطانية

زعيم حزب العمال كير ستارمر يلوح بيده للمؤيدين خلال تجمع جماهيري بعد فوز الحزب بالانتخابات التشريعية ببريطانيا... الصورة في تيت مودرن في لندن الجمعة 5 يوليو 2024 (أ.ب)
زعيم حزب العمال كير ستارمر يلوح بيده للمؤيدين خلال تجمع جماهيري بعد فوز الحزب بالانتخابات التشريعية ببريطانيا... الصورة في تيت مودرن في لندن الجمعة 5 يوليو 2024 (أ.ب)

تعهّد رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر «إعادة بناء» البلاد و«توحيدها»، بعد تحقيق حزب العمال الذي يتزعّمه فوزاً ساحقاً في الانتخابات التشريعية. وهذه هي المرة الأولى منذ عام 2010 التي يحكم فيها العمّال (يسار الوسط) البلاد، في تطوّر يطوي صفحة حكم المحافظين، الذي استمر 14 عاماً، وشهد في السنوات الأخيرة سلسلة من الأزمات؛ من بريكست إلى «كوفيد 19»، والتضخم والتغيير المتكرر لرؤساء الحكومة. وكلّف الملك تشارلز الثالث رسمياً، الجمعة، كير ستارمر تشكيل الحكومة في المملكة المتحدة. ووفق العرف المتّبع، نشر قصر باكينغهام صورة للملك مستقبلاً الرئيس الجديد للحكومة. وغادر قصر باكينغهام متوجّهاً إلى مقر رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت، حيث قال: «سنعيد بناء» المملكة المتحدة. وأشار إلى عملية «إعادة بناء للبنية التحتية للفرص»، مشدداً على التعليم والإسكان بأسعار معقولة، وعلى مبدأ «الخدمة» في السياسة. كما وعد بالسعي مع الحكومة ليستعيد البريطانيون إيمانهم بمستقبل أفضل لأطفالهم و«توحيد بلدنا». وكان قد أشار لدى إعلان فوز حزبه فجراً إلى أن الأمور «لن تكون سهلة»، ولا تتغير بـ«كبسة زر».

فمن هو رئيس وزراء بريطانيا الجديد؟

محامٍ ومدعٍ عام

تولى ستارمر كثيراً من المسؤوليات، بدءاً من محامٍ في مجال حقوق الإنسان، إلى مدعٍ عام للدولة، واليوم عليه أن يركز عمله الدؤوب وذهنه المنهجي على التجديد وإعادة البناء. ويعدّ الزعيم، البالغ 61 عاماً، الشخصية الكبرى سناً التي تتولى المنصب منذ أكثر من نصف قرن، علماً بأنه عضو منتخب في البرلمان منذ 9 سنوات فقط. ستارمر متزوج وله ولدان، وعلى العكس من غالبية السياسيين الجدد، خاض مسيرة مهنية طويلة ومتميزة، قبل أن يصبح عضواً في البرلمان، كما أن المقربين منه يعدّون أفكاره «براغماتية» أكثر منها آيديولوجية، كما ذكرت وكالة الصحافة الفرنسية. وقال ستارمر، في خطاب ألقاه مؤخراً خلال حملته الانتخابية، إن «السياسة يجب أن يكون محورها خدمة» المواطنين، مكرراً شعاره المتمثل في وضع «البلد أولاً، والحزب ثانياً» بعد 14 عاماً من حكم المحافظين في ظل 5 رؤساء وزراء. يتناغم هذا الشعار مع إشادة المؤيدين به باعتباره خياراً آمناً لإدارة الأمور في 10 داونينغ ستريت، على غرار ما فعل خلال مسيرته القانونية؛ بجدية وتأنٍ.

اتهامات بـ«الانتهازية»

في المقابل، يصفه منتقدون بأنه انتهازي، غالباً ما يبدّل مواقفه، ويشددون على أنه لا يملك رؤية واضحة للبلاد. في بعض الأحيان، يبدو مشجع فريق آرسنال، الذي جاء إلى السياسة في وقت متأخر من حياته، غير مرتاح أمام الكاميرات، ويكافح من أجل التخلص من صورته العامة باعتباره شخصية مملة. يعترف أنصاره بأنه يفتقر إلى الكاريزما التي كان يتمتع بها أسلافه الأكثر جذباً للأضواء، على غرار بوريس جونسون، لكنهم يقولون إن نقطة قوته تكمن في أن حضوره يوحي بالاطمئنان في أعقاب سنوات مضطربة من حكم المحافظين. بشعره الأشيب ونظارتيه ذاتي الإطار الأسود، يعدّ كير ستارمر، الذي سمي على اسم مؤسس حزب العمال كير هاردي، وفق وكالة الصحافة الفرنسية، أحد أبرز المنتمين إلى الطبقة العاملة، من بين الذين تعاقبوا على رئاسة الحزب المعارض منذ عقود. وقال ستارمر للناخبين مراراً خلال جولاته الانتخابية: «والدي كان يعمل في مصنع للأدوات، وأمي كانت ممرضة»، رافضاً تصوير منافسيه له أنه ينتمي إلى نخبة لندن. ويسلط فصله يساريين من الحزب خلال زعامته الضوء على جانب قاسٍ من شخصيته، دفعه إلى أعلى منصب سياسي في بريطانيا، لكن يقال إنه طريف في مجالسه الخاصة ومخلص لأصدقائه. تعهد ستارمر في حال انتخابه بالحفاظ على عادته المتمثلة بمحاولة عدم العمل بعد الساعة السادسة مساء من أيام الجمعة، وتمضية هذا الوقت مع عائلته، ولا سيما زوجته فيكتوريا، التي تعمل في الخدمة الصحية الوطنية، وله منها فتى وفتاة في سن المراهقة، لا يتحدث عنهما في العلن. وكتب معدّ سيرة ستارمر، توم بولدوين، في صحيفة الغارديان: «المذهل فيه هو أنه لا يزال تماماً على طبيعته».

نشأة صعبة

وُلِد كير رودني ستارمر في 2 سبتمبر (أيلول) 1962، ونشأ في منزل ضيق في ضواحي لندن برعاية أم تعاني من مرض خطير، وأب صارم. لديه 3 أشقاء، أحدهم يعاني من صعوبات في التعلم. تعلم ستارمر في المدرسة العزف على الكمان على يد نورمان كوك، عازف الغيتار السابق الذي اشتهر لاحقاً.

بعد دراسة القانون في جامعتي ليدز وأكسفورد، حوّل ستارمر انتباهه إلى القضايا اليسارية، ودافع عن النقابات العمالية والناشطين المناهضين لماكدونالدز والسجناء المحكوم عليهم بالإعدام في الخارج. وهو صديق للمحامية في مجال حقوق الإنسان أمل كلوني، التي تدرب معها على ممارسة المحاماة، وروى أنه تناول وجبة غداء معها ومع زوجها الممثل جورج كلوني ذات مرة. وفي عام 2003، بدأ يقترب من المؤسسة السياسية ما سبّب صدمة لأصدقائه وزملائه. وفي البداية، تولى وظيفة تضمن امتثال الشرطة في آيرلندا الشمالية لتشريعات حقوق الإنسان. وبعد 5 سنوات، تم تعيينه مديراً للنيابة العامة في إنجلترا وويلز، عندما كان زعيم حزب العمال غوردون براون رئيساً للوزراء. وبين عامي 2008 و2013، أشرف على محاكمة أعضاء برلمان بتهمة استغلال نفقاتهم، وصحافيين بتهمة التنصت على الهواتف، ومثيري شغب شبان شاركوا في الاضطرابات في جميع أنحاء إنجلترا. وحصل على لقب سير من الملكة إليزابيث الثانية، لكنه نادراً ما استخدم هذا اللقب. وعام 2015، تم انتخابه عضواً في البرلمان عن منطقة في شمال لندن، تغلب على ناخبيها الميول اليسارية. وقبل أسابيع فقط من انتخابه، توفيت والدته بسبب مرض نادر في المفاصل، جعلها غير قادرة على المشي لسنوات كثيرة.

الانقلاب على كوربين

بعد عام من انتخابه عضواً في البرلمان، انضم ستارمر إلى مجموعة من النواب المتمردين في حزب العمال ضد اليساري جيريمي كوربن، متهمين إياه بالافتقار إلى القيادة خلال حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فشل التمرد في وقت لاحق من ذلك العام، لكن ستارمر انضم مجدداً إلى قيادة حزب العمال بصفته متحدثاً عن الحزب في ما يخص بريكست، وبقي يؤدي هذا الدور حتى خلافته كوربن، الذي قاد الحزب إلى أسوأ هزيمة له في الانتخابات منذ عام 1935. ومنذ ذلك الحين، أظهر ستارمر تصميماً من خلال إعادة الحزب إلى موقع الوسط وقيادته حملة «تطهير» لإرث كوربن، وقام بحملة لاجتثاث «معاداة السامية» داخل الحزب. وقال المحافظ دومينيك غريف، الذي عمل معه عندما كان مدعياً عاماً، إن ستارمر «يوحي بالولاء لأنه يبدو مستقيماً وعقلانياً».

وفي تصريح لصحيفة «تايمز»، قال غريف: «إنها ميزات مهمة للغاية حتى لو اختلفت معه في السياسة. يبدو لك أنه شخص معتدل». في المقابل، اتهم اليسار ستارمر بالخيانة لإسقاطه عدداً من التعهدات التي قطعها خلال حملته الانتخابية، بما في ذلك إلغاء الرسوم الجامعية. لكن نجاحه في استعادة المكانة الاستراتيجية لحزب العمال، ووضعه مرة أخرى على سكة السلطة، يدل على أن النجاح أمر ثابت في حياة ستارمر. وقال ستارمر مرة: «إذا ولدت من دون امتيازات، فلن يكون لديك وقت للعبث... لا يمكنك الدوران حول المشكلات من دون حلّها».