إذا كانت القاعدة العامة تقول بصعوبة عرض مضمون كتاب، خصوصاً إذا كان تحليلياً ويُراد منه أن يكون شاملاً، فإن الصعوبة مضاعفة في حالة كتاب الدكتور غسان سلامة الأخير الصادر عن دار «فايار» الفرنسية قبل بضعة أيام. فكتاب سلامة يستند إلى تجربة أكاديمية رائدة وانخراط في العمل السياسي، وأخيراً في العمل الدبلوماسي في إطار الأمم المتحدة، فضلاً عن شبكة علاقات عالية المستوى نسجها عبر العالم.
ولتبيان جدية الكتاب والكمية الاستثنائية من المعلومات والتحليلات والنوافذ التي يفتحها، تكفي الإشارة إلى الخمسين صفحة من المراجع التي يعود إليها، وللمعلومات التي يستقيها لبناء شبكة قراءاته الخاصة لتطورات العالم. ولا شك أن بعض طموحه يظهر في العنوان الفرعي: «الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين»، وأن كتابه سيشكل مرجعاً رئيسياً للعقود اللاحقة.
في ستة فصول ومقدمة مستفيضة وخاتمة من أكثر من ثلاثين صفحة، يجول غسان سلامة على أحداث وأزمات العالم شرقاً وغرباً. ولعل الأبرز من فصول الكتاب ذاك الذي خصصه لدراسة «انتفاء استخدام قواعد اللجوء إلى القوة»، ليبين للقارئ كيفية تفلّت العالم وتكاثر الحروب والنزاعات والصراعات.
لذلك، كان من الضروري الانطلاق من مضمون الكتاب لإجراء مقابلة مع الكاتب تلقي مزيداً من الضوء على عدد من الملفات التي تستحوذ على الاهتمام الدولي في الزمن الراهن.
سألنا الكاتب عن سبب تسمية الكتاب «إغراء القوة» (بالفرنسية: La Tentation de Mars) بالإشارة إلى «مارس» إله القوة والحرب في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، وجوابه أن ما أراد الإيحاء به أن دولاً كثيرة أخذت تقع تحت إغراء القوة والحروب، ومنها دول صغيرة، وبالتالي، فإن الحروب الراهنة ليست الوحيدة؛ إذ إن إغراء القوة أصبح كونياً.
أما العنوان الفرعي «الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين» فإنه يستعيد في جزء منه عنوان رواية تولستوي «الحرب والسلم» وكتاب عالم الاجتماع والكاتب السياسي الفرنسي ريمون أرون الذي يحمل أيضاً عنوان «السلم والحرب». وفيما يلي نص المقابلة:
* أين يكمن الخيط الجامع لهذا الكتاب الجديد؟
- نقطة الانطلاق تكمن في السؤال التالي: لماذا تسمى مرحلة ما بعد 1990 وحتى اليوم، أي مرحلة من ثلث قرن، «مرحلة ما بعد الحرب الباردة»، وذلك في الأدبيات الغربية الأميركية والأوروبية والروسية وغيرها؟ ولماذا ليس لها اسم أو تعبير كما حصل في المراحل السابقة؟
الخلاصة التي توصلت إليها أن التطورات التي حصلت منذ عام 1990 جاءت متنافرة، ولذا يصعب إيجازها بتعبير. وقد حاول كثيرون، منهم فرنسيس فوكوياما الذي أسماها «نهاية التاريخ»، وصامويل هنتنغتون صاحب «صراع الحضارات»، وآخرون اختاروا «انتهاء الاستقطاب الدولي»، لكن هذه التوصيفات كافة غير كافية.
وبعد تأمل وتفكير وبحث، وجدت أن المرحلة الزمنية الممتدة من عام 1990 وحتى عام 2024، هي في الواقع مرحلتان متناقضتان تماماً: الأولى أسميها «مرحلة الأماني»، وتمتد ما بين 1990 ونحو 2006، والثانية «مرحلة الخيبة» وهي من عام 2006 وحتى اليوم.
ولإبراز هذا الواقع، ارتكزت إلى ستة معايير تبين بوضوح هذا الانقسام وهي التالية: انتشار الديمقراطية والعولمة والثورة التكنولوجية والثقافة وانتفاء قواعد استخدام القوة، وأخيراً المعيار النووي. وتبين المقاربة الشاملة أن الجزء الأول من ثلث القرن المشار إليه غلبت عليه الإيجابيات، ولكنها تراجعت في جزئه الثاني.
انفلات القوة
* هل يمكن توضيح معيار انتفاء قواعد اللجوء إلى القوة والمعيار النووي؛ كونهما الأكثر بروزاً في الوقت الراهن؟
- أعني بهذا المعيار أنه في الفترة الأولى من ثلث القرن الذي نتحدث عنه، رأينا مثلاً أن حرب الكويت عام 1991 قامت على أساس 12 قراراً لمجلس الأمن الدولي ما سمح لـ65 دولة بالمشاركة في حرب تحرير هذا البلد. وعندما سُئل جورج بوش الأب آنذاك: لماذا لا تذهب حتى بغداد؟ رد بأن قرارات مجلس الأمن «تعطيني الحق باستعادة سيادة الكويت وليس لتدمير سيادة العراق».
الحرب الثانية التي قام بها جورج بوش الابن على العراق عام 2003، جاءت مختلفة تماماً عن الأولى؛ لأنها لم تستند إلى قاعدة قانونية وتمت من غير قرار من مجلس الأمن، ولم تؤد إلى قيام تحالف دولي واسع، فضلاً عن أهدافها المتذبذبة. بداية كان الهدف تدمير أسلحة الدمار الشامل وتبعه القضاء على ديكتاتور خطير ثم نشر الديمقراطية. وما عابها لاحقاً أنها فشلت في استيلاد كيان سياسي مستقر.
واعتقادي أن «الخطيئة الأصلية» في الهجوم الأميركي - البريطاني على العراق، أنه أسس لممارسات مشابهة من الدول الأخرى، فرأينا مثلاً أن روسيا استخدمت هذه الحجة للهجوم على جورجيا سنة 2008 كما استخدمها الرئيس بوتين مجدداً لمهاجمة أوكرانيا سنة 2014 ومرة أخرى عام 2022. ورأينا أن دولاً أخرى كإيران وتركيا، وأيضاً إسرائيل، لا تتردد بتاتاً في استخدام القوة. لا بل إن دولاً صغيرة مثل رواندا تقوم بعمليات عسكرية شبه مستمرة في عدد كبير من الدول الأفريقية من غير مسوغ قانوني.
إذن هناك انفلات، في الفترة الزمنية التي ندرسها، لقواعد استعمال السلاح. وتبين المتابعة وجود قدر كبير من احترام المعاهدات والقوانين الدولية في المرحلة الأولى من ثلث القرن المنصرم، وتجاهل لها بدءاً من سنة 2003، أي مع حرب العراق.
تفتيت «المُحرَّم» النووي
أما فيما يخص المعيار النووي، فقد وجدنا في المرحلة الأولى من ثلث القرن المنصرم عدداً كبيراً من الاتفاقيات المطمئنة. فسنة 1995، تم تمديد اتفاق الامتناع عن نشر الأسلحة النووية إلى ما لا نهاية، بعد أن كان محدداً زمنياً. ثم إن دولاً كثيرة قبلت خفض ترساناتها النووية وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا. وتعاون هذان البلدان لمعالجة موضوع كارثة «تشيرنوبل» النووية؛ كي لا تتكرر الكوارث.
وأشدد على أهمية الاتفاق الذي حصل بخصوص نقل أسلحة نووية كانت موجودة في عدد من مكونات الاتحاد السوفياتي السابق كما في كازاخستان وأوكرانيا وبيلاروسيا لكي تكون تحت رقابة روسية. وأبعد من ذلك، وجدنا سبباً حقيقياً للحلم إلى درجة أن أربعة وزراء خارجية أميركيين سابقين بينهم جورج شولتس وهنري كيسينغر دعوا إلى «صفر سلاح نووي»، أي إلى نزع كامل للسلاح النووي.
لكن ماذا نرى اليوم؟ نرى أن بريطانيا تنفق مئات الملايين لتجديد سلاحها النووي. والشيء نفسه يحصل في فرنسا. ونرى أن الصين تريد الانتقال قبل عام 2030 من 1500 رأس نووي إلى 3 آلاف رأس نووي، فيما بوتين لا يتراجع عن التهديد باستعمال السلاح النووي.
ومن جانبها، تريد الولايات المتحدة زيادة رؤوسها النووية وتجديدها، وحتى دول صغيرة كإسرائيل لا يتردد أحد وزرائها بالتهديد بإلقاء قنبلة نووية على غزة. إذن ما يسمى «المُحرَّم» النووي بدأ تفتيته تدريجياً في السنوات العشر الأخيرة. وإذا أخذت هذه المعايير الستة معاً، فسنرى أنها كانت كلها إيجابية إلى حد كبير حتى عامي 2005 و2006 وأصبحت تميل، منذ ذلك الحين، إلى السلبية.
أقطاب متعددة وتوازن غائب
* ثمة جدل كبير لا يتوقف لجهة توصيف حالة العالم اليوم: أحادي القطبية، ثنائيها، متعدد الأقطاب أو عديم القطبية... ما قراءتك؟
- قراءتي كالتالي: هناك تعدد في مصادر القوة ومراكزها بمعنى وجود تعدد أقطاب لكنها غير متوازنة. ثمة دول بدأت تتحول إلى أقطاب حقيقية مثل الصين أو الهند أو غيرها من الدول، ولكن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بفارق متقدم. أميركا، على الورق، هي من دون أي شك القطب الأكبر والأول، ولكن ليس الوحيد.
بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا القطب يعاني من مكامن ضعف. وما زال الأول بفضل إمكانياته المادية والعسكرية الكبيرة جداً، حيث إن ميزانيته العسكرية تتفوق على الـ12 دولة التي تليه في حجمه. لكن الولايات المتحدة، القطب الأول، تعاني من ارتباك شديد في صنع القرار. هو ارتباك داخلي.
يُضاف إلى ذلك انعدام الرغبة لدى أميركا بالدخول في حروب طويلة، وبالتالي هذا يضغط على القرار ويجعلها، عندما تبدأ بخسارة رجالها أو تبذل الكثير من الأموال، تواجه ضغوطاً من الرأي العام فتميل إلى الانسحاب من أجل إرضائه، كما حصل في أفغانستان أو العراق. ونقاط الضعف تحجم تفوقها المادي في النظام العالمي.
أما الصين، المنافس الأول، فقد حققت في السنوات الثلاثين الماضية انتقالاً كبيراً في قوتها العسكرية؛ إنْ لجهة عدد الرؤوس النووية أو في سلاحها البحري؛ إذ أصبحت لديها قطع تتفوق بها عددياً على الولايات المتحدة. بيد أن نوعيتها وأداءها لا يضاهيان النوعية الغربية.
ومن جانبها، ضاعفت الهند ميزانيتها العسكرية أربع مرات خلال عشرين سنة، بحيث زادت من 14 ملياراً في عام 2002 إلى 81 مليار دولار. وطبعاً هناك الآن صحوة متأخرة في أوروبا حيث نرى عدداً من الدول غير الملتزمة بمعايير «الناتو»، لا سيما ألمانيا وإيطاليا، تذهب باتجاه زيادة كبيرة في ميزانياتها العسكرية. وهناك دول مثل بولندا تنفق 4 في المائة من الناتج القومي على الميزانية العسكرية.
ولا ننسى كوريا الشمالية التي تنفق الكثير على تعزيز قواتها. إذن، ثمة لاعبون كُثر يطمحون إلى أن يكون لهم تأثير في النظام العالمي فيما الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض رأيها باستثناء حالات محددة.
يتعين علينا التنبيه إلى مشاكل الولايات المتحدة مع حلفائها. أما مع خصومها فالأمور واضحة: هي تخاف من قيام الصين وهي تقوم بكل ما تستطيع لكي تطوق إمكانية بزوغ الصين بوصفها قوة عالمية من خلال مجموعات مثل «أوكوس» و«كواد» أو تسليح الهند أو الوجود الكثيف العسكري المباشر في محيط تايوان، وحتى تشجيع الفلبين على تحدي البحرية الصينية، أو التقارب مع فيتنام، وهي تستخدم حالة العلاقات المتوترة بين بكين وعدد كبير من جيرانها، لا سيما مع الهند وفيتنام.
والظاهرة الجديدة أن خريطة مبيعات السلاح تتغير. فالكوريتان تصدّران السلاح طبعاً لدول مختلفة: كوريا الجنوبية تبيعه لبولندا، وكوريا الشمالية تبيع لروسيا. والأرقام هائلة: كوريا الجنوبية تكاد تتفوق على فرنسا بوصفها مصدراً للسلاح. ولننظر إلى تركيا التي أخذت تصدر المسيّرات إلى خمسين دولة في العالم، بما فيها أوكرانيا، بينما إيران تصدر المسيرات إلى روسيا وليس العكس.
معنى ذلك أن سوق السلاح العالمي يتغير بسرعة كبيرة جداً. أستنتج من ذلك أن المرحلة التي تسمى مرحلة ما بعد الحرب الباردة لم تتكامل فصولاً بعد. ما زالت لم ترس على أمر ثابت ودائم. ولكن الاتجاه الطاغي أن الولايات المتحدة تبقى القوة الأكبر أو الأولى في العالم، مع ضعف متنامٍ بقدرتها على ضبط حلفائها وعلى تطويق خصومها.
تناقضات «البريكس»
* أين موقع الجنوب الشامل في هذا العالم المتغير؟ في كتابك ترى أنه سيبقى هامشياً وتتحدث عن «نشاز» فيما يصدر عنه.
- في العلاقات الدولية، تحديد عدو مشترك شرط أساسي لإقامة تحالف، لكنه غير كافٍ على الإطلاق. لنأخذ حالة دول «البريكس» (5 سابقاً واليوم 11): هي تجتمع على عدد من الأمور، منها رفض عمل المؤسسات المالية والاقتصادية الراهنة، ورفض النفوذ الأميركي في العالم إذا كان ينحو نحو الهيمنة. بالمقابل، التنافس الهندي - الصيني داخلها في غاية القوة، بل هناك اشتباكات دورية على الحدود بينهما وقد تتطور. ولا ننسى أن حروباً جرت بينهما في الستينات، والصين دخلت إلى عمق الهند التي أصيبت بصدمة كبيرة لم تخرج منها إلا بهزيمة باكستان بعد عشر سنوات.
ثم لننظر إلى السوق النفطية الموازية، حيث هناك تنافس شديد بين روسيا وإيران على تزويد بلدان مثل الهند أو الصين بالنفط من السوق الموازية. وثالثاً ثمة فوارق هائلة في وضع عملات هذه الدول فبعضها غير قابل للصرف. ورابعاً، ثمة عامل يكشف الشقاق بينها عندما تدخل هذه الدول في إطار المأسسة حيث تحمى التنافسية بينها.
الخلاصة أن هناك حاجة لمواصفات مشتركة بين أطراف «البريكس». فقوة حلف شمال الأطلسي وسبب بقائه حتى بعد انهيار خصمه «حلف وارسو» يكمنان في التشابه الكبير في الأنظمة السياسية والاقتصادية المعمول بها في هذه البلدان. بالمقابل، نرى أن الهند ديمقراطية فيما الصين بلد الحزب الواحد. إذاً، لا تشابه بين الدول المهمة في إطار «البريكس» حتى تتمكن من منافسة أميركا والحلف الأطلسي.
* ما هو إذن مستقبل «البريكس»؟ هل ستبقى دول التحالف ومعها الجنوب الشامل عاجزة عن التأثير على سير النظام العالمي؟
- اعتقادي أن صوت الجنوب سيعلو، وما رأيناه من قيام جنوب أفريقيا بتقديم شكوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية سنرى مثله في المراحل المقبلة. كذلك سنرى تزايداً في التجارة بين دول الجنوب.
يضاف إلى ذلك أن الوزن الديموغرافي للجنوب في تصاعد. فحيز الرجل الأبيض تقلص كثيراً خلال القرن الماضي. فبعد الحرب العالمية الأولى، كان الرجل الأبيض يمثل 30 في المائة من سكان العالم، وكان يسيطر على 80 في المائة من اليابسة وعلى المحيطات كافة. اليوم، تراجعت نسبته ديموغرافياً إلى 16 في المائة، وسيطرته على اليابسة لا تتعدى 30 في المائة.
الجنوب تحول إلى قوة ضاغطة. بيد أن تحوله إلى مؤسسة وتكوين كتلة متراصة تناهض الحلف الأطلسي كما كان حلف «وارسو» يناهضه، أمر صعب لأسباب ذكرنا بعضها. وما يفاقمها أن الحلفين المذكورين كانت على رأس كل منهما قاطرة تقود: أميركا من جهة، والاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، بينما في حالة «البريكس» هناك «تعدد رؤوس»، والرأسان الرئيسيان (الصين والهند) متنافسان.
قلعة الرجل الأبيض
* تقول في كتابك إن التحالفات أصبحت أقل جاذبية في الوقت الراهن، ولكن هناك استثناء يتمثل بالحلف الأطلسي وانضمام عضوين جديدين إليه.
- ما يوفر للحلف الأطلسي القدرة على الاجتذاب، إضافة إلى ما ذكر سابق، هو الطموحات عند مجموعة من الدول التي كانت في السابق إمبراطوريات مثل روسيا والصين وتركيا وإيران التي تتماوج راهناً ما بين كونها «دولة قومية» و«دولة إمبراطورية». واليوم، مع تفكك النظام العالمي، فإن الميول الإمبراطورية تعود بقوة، وروسيا تحل على رأس اللائحة مما يثير الخوف في أوروبا. حلم عودة الإمبراطورية في روسيا يدفع الأوروبيين إلى رص الصفوف، ما يفسر استشعار الحاجة لحلف عسكري يحمي.
ثمة شعور عبر عنه هنتنغتون بوضوح في أجزاء من كتاباته، حين كان يؤكد أن الغرب بعد خمسة قرون من التوسع والانتشار، دخل مرحلة الدفاع عن النفس، ولذا هو بحاجة إلى قلعة من أجل الانكفاء داخلها. وهذه القلعة هي الحلف الأطلسي التي يتعنى تعزيها. وكان يدعو إلى عدم التدخل في شؤون العالم. ولأنه أدخل «العنصر الثقافوي» في مقاربته، فقد دعا إلى إخراج تركيا من الحلف المذكور لتبرير بقائه قلعة دفاعية، وليس مركزاً للإشعاع أو نشر قيم العالم الحر.
سذاجة أميركية في المنطقة
* كيف يمكن اليوم توصيف مصالح أميركا في الشرق الأوسط ومدى استدامتها؟
- ثمة سذاجة تغلف أحياناً السياسة الأميركية في المنطقة. قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، كان يسود شعور بالارتياح لما عليه المنطقة، فيما نعرف أنها على فوهة بركان. الأميركيون كانوا يرون أنها لا تعرف عنفاً مثيراً للقلق. والثابت أن المصالح الأميركية تتبدل وفق مسلك الخصوم. فأيام الحرب الباردة، كانت الأهداف واضحة: منع الاتحاد السوفياتي من السيطرة عليها، والمحافظة على مصادر النفط، والدفاع عن إسرائيل.
اليوم، الهدف الأول اندثر عملياً رغم وجود روسيا في سوريا و«فاغنر» في أفريقيا ومنطقة الساحل، لكن بالإجمال الخطر الروسي تقلص. أما المحافظة على آبار النفط، فإن واشنطن تعدّها خدمة تسديها لحلفائها الأوروبيين؛ لأنها لم تعد بحاجة لنفط المنطقة. يبقى العنصر الإسرائيلي وقد وجدنا، مع السابع من أكتوبر، أنه حي كما لم يكن في يوم من الأيام.
لذلك، إذا كانت لأميركا مصلحة، فهي أولاً الدفاع عن إسرائيل ودعمها. ولا أعتقد أن هناك رئيساً أميركياً واحداً أعطى إسرائيل ما أعطاها إياه بايدن، وتماهى معها بقدر تماهي الرئيس الحالي. ورغم كل التوحش الإسرائيلي في غزة، فإن سيل السلاح الأميركي لإسرائيل لم يتوقف يوماً. والمصلحة الأميركية الأخرى في المنطقة عنوانها منع إيران من الحصول على السلاح النووي، ثم توفير خدمة لحلفائها في شرق آسيا (اليابان، كوريا الجنوبية...) من خلال تأمين إمدادات النفط من الخليج.
بالإجمال، ثمة ميل بدأ مع جورج بوش الابن، وتعاظم مع باراك أوباما وعاد بقوة مع جو بايدن، لرؤية الشرق الأوسط ساحة ثانوية للولايات المتحدة، والنظر إلى أوروبا أيضاً على أنها ساحة ثانوية. لكن الحرب في أوكرانيا، ثم في غزة، فرضت على أميركا أمراً مقيتاً؛ إذ إن رغبتها الأولى التركيز على الصين وتطويقها ومنعها من التحول إلى دولة عظمى، وإبقاؤها قوة إقليمية.
بين «نووي» إيران وإسرائيل
* تقول في كتابك إن اتفاقاً حصل بين غولدا مائير والرئيس ريتشارد نيكسون في عام 1969 يلزم الولايات المتحدة بحماية المنظومة النووية الإسرائيلية والدفاع عنها. هل ما زال قائماً حتى اليوم؟
- نعم هو اتفاق وقّعته الولايات المتحدة بمبادرة من هنري كيسنجر الذي كان وقتها مستشار الرئيس نيكسون للأمن القومي. ورغم أن إسرائيل أصبحت اليوم قوة نووية، وتمتلك عدداً كبيراً من الرؤوس النووية (ما بين 60 و100 رأس نووي)، فإن الاتفاق المذكور ما زال قائماً.
* هل نستطيع التوسع في قراءة الملف النووي الإيراني ومقاربته أميركياً؟
- أعتقد أن هناك استعداداً أميركياً للتفاهم مع إيران حول ملفات عدة، منها الاعتراف لها بدور إقليمي في المنطقة؛ إذ لدى واشنطن استسهال للنفوذ الإقليمي الإيراني. وكذلك، فإن واشنطن ليست رافضة بالمطلق حيازةَ إيران السلاح النووي بل هي «متحفظة»؛ لسبيين: الأول، الرفض الإسرائيلي المطلق (ولا أقول الرفض الأميركي المطلق)، وعلى واشنطن أن تأخذه بعين الاعتبار بسبب نفوذ إسرائيل في الولايات المتحدة. ولو سُئل الأميركيون: ما هو مصدر خوفكم النووي؟ لكان الجواب: باكستان. وعليّ التذكير بأن البرنامج النووي الباكستاني نشأ برضا أميركي عندما كانت واشنطن بحاجة لإسلام آباد زمن مواجهة السوفيات في أفغانستان.
السبب الثاني للرفض هو رؤية واشنطن أن امتلاك إيران السلاح النووي سيساعد على ردع أي اعتداء خارجي، وسيجعل من أي هجوم عليها بالغ الصعوبة. أما التنبيه من أن إيران نووية ستثير سباقاً نووياً في المنطقة فليس السبب الأساسي، بل الرغبة في منع إيران من الحصول على قوة دفاع وردع مطلقة.
* في اجتماعات الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الأشهر الأخيرة، وجدنا نوعاً من التساهل الأميركي والغربي مع طهران. هل يمكن التعمق في هذا الأمر؟
- حقيقة الأمر أن بايدن، في برنامجه الانتخابي السابق، دعا إلى عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 الذي خرج منه دونالد ترمب. لكن عقب انتخابه، لم يُبد بايدن حماسة لتطبيق ما وعد به. وفي واشنطن، وخلال زياراتي لها، كنت أتفاجأ بغياب هذه الحماسة، بل قيل لي إن بايدن عندما كان نائباً لأوباما، لم يكن محبذاً توقيعَ الاتفاق مع طهران.
قرأت مقالاً للباحث إدوارد لوتفاك، وهو من عتاة المتطرفين في الحزب الجمهوري، يقول فيه: علينا أن نقبل أن تصبح إيران دولة نووية، وعلينا أن ننظر في كيفية تطويق آثار ذلك؛ إذ عندما تسعى دولة وتواظب على صرف المليارات من أجل برنامجها النووي، فمن الصعب إيقافها وستصبح، في يوم من الأيام، دولة نووية.
لذلك فإن القول بأن أميركا مجندة تجنيداً كاملاً لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية رأي لا أتبناه.
* ما المتغيرات التي يمكن رصدها منذ اليوم في حال عودة ترمب إلى البيت الأبيض؟
- إذا عاد إلى البيت الأبيض، ستكون سياسته الخارجية شبيهة إلى حد كبير بسياسات اليمين المتطرف في أوروبا، وستقوم على دعامتين: الأولى إعادة شأن الرجل الأبيض الذي أنهكته العولمة، وبالتالي إبطاؤها، والثانية البحث عن المصلحة القومية الأميركية بأي ثمن، بحيث تكون ديدن سياسته الخارجية. وأعني أنه سيتبع مبدأ السياسة التعاقدية حيث لا يكون الدور الأول للمبادئ.
وأذكر أن ترمب سعى لصفقة مع زعيم كوريا الشمالية، ولديه الاستعداد لصفقات مع أي كان ضمن التعريف الحرفي للمصلحة الأميركية وما يخدمها. لذلك فمن الصعب معرفة من سيكون صديقه أو خصمه في الشرق الأوسط بسبب استعداده للانفتاح على أي كان، ولذا أقول إن من صافح كيم جونغ أون قد يصافح أي رئيس في العالم، بمن فيهم المرشد الإيراني.
* تقول في كتابك إن قوات أميركية خاصة موجودة في نحو مائة دولة في العالم. هل هذا مؤكد؟
- هل تعلم أن قوات خاصة أميركية موجودة في ليبيا؟ أنا شخصياً لم أكن أعلم ذلك، واكتشفته عندما كنت في مهمة أممية في هذا البلد. وقيل لي وقتها إن هذه القوة تعمل في إطار محاربة الإرهاب، واكتشفت أن لها قاعدة ومرفأ خاصين بها، وأنها جزء مما يسمى «أفريكا كوربس».
كذلك علمت أن عدداً كبيراً من الدول الأفريقية تحتضن قوات خاصة أميركية. وعملياً، إذا سمعت أن هناك مجموعة تابعة لـ«داعش» أو «القاعدة» أو «بوكو حرام» أو أي مجموعة إرهابية في أي بلد، فعليك الافتراض فوراً أن هناك قوات خاصة أميركية تعمل ضدها.
إيران وحرب غزة
* قرأت في كتابك أن إيران هي المستفيدة من حرب غزة.
- نعم، إيران تمكنت من إظهار أن السياسة التي تتبعها منذ ثلاثين عاماً قد أثبتت نجاعتها من حيث التركيز على التعاون مع القوى «غير الدولتية» (الحركات والميليشيات)، فعندما يتوافر التأثير والقدرة على التنسيق مع «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الحشد الشعبي» العراقي و«حزب الله» و«الحوثيين»، فهذا يبين أن إيران فهمت أن الدخول إلى النزاع العربي - الإسرائيلي من باب القوى غير النظامية أفضل من الولوج إليه عبر القوى النظامية.
كما فهمت أيضاً أن الحروب بين الجيوش العربية وإسرائيل انتهت إلى غير رجعة منذ عام 1973. فمنذ 51 عاماً لم تحصل أي حرب نظامية ضد إسرائيل، بينما اندلعت خمس حروب بين إسرائيل و«حماس»، وعدد من الحروب بينها وبين «حزب الله». واليوم، «الحشد الشعبي» يتحرش بإسرائيل، وكذلك يفعل «الحوثيون» وغيرهم. وفائدة الاعتماد على قوى غير نظامية أنه لا ينطبق عليها القانون الدولي، وبالتالي تستطيع تحمل مسؤولية أعمالها أو أن تتبناها طهران وفق مصلحتها.
بيد أنه تتعين إضافة أن الغاية من هذه المجموعات حماية إيران نفسها. المعروف أن إيران تعتمد إجمالاً سياسة الصبر والاستفادة من الفرص. بإسقاطها النظام العراقي قدمت الولايات المتحدة العراق لإيران على طبق من فضة. وطهران استفادت من ذلك وهذا معروف. ولكن ما هو غير شائع أنه ساهم في تقوية ساعد المتشددين، وفي عودة التجذر إلى السياسة الإيرانية (بعد مرحلة الرئيسين «الإصلاحيي» هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي) والدفع باتجاه الاستفادة من أخطاء الآخرين.
تهديدات روسيا النووية
* هل التهديدات الروسية باللجوء إلى السلاح النووي في الحرب ضد أوكرانيا، تهويل أم ابتزاز، أم أن أمراً كهذا قد يحصل فعلاً؟
- بداية، علينا الإشارة إلى أن هناك أسلحة نووية مصغرة تسمى «أسلحة الميدان»، وإمكانية استخدامها أمر قائم. وأعود مرة أخرى إلى ريمون آرون الذي كان يركز على أهمية الحصول على السلاح النووي، وأهمية التلويح باستخدامه وتأثيره على مجريات الحرب.
وأذكّر هنا بما حصل إبان حرب أكتوبر 1973 على الجبهة المصرية عندما هدد (الزعيم السوفياتي) ليونيد بريجنيف بإرسال قوات إلى مصر للفصل بين الجيشين المصري والإسرائيلي بعد عبور الأخير قناة السويس ووصوله إلى مسافة 100 كلم من القاهرة. وقتها رفعت واشنطن درجة التأهب إلى الثالثة من أصل خمسة، ما حمل الزعيم السوفياتي على التراجع عن خطته.
وخلال الحرب الباردة، حصلت 14 حالة استنفار نووية، منها مرتان بخصوص برلين، ومرتان في كوبا، ومرة في لبنان، ومرتان في حربي 1967 و1973. وأريد الإشارة إلى أن البرلمان الأوكراني رفض المصادقة على تخلي كييف عن رؤوسها النووية لصالح روسيا رغم أن مفاتيح هذه الرؤوس كانت في موسكو، ولم يتم التوافق إلا بفضل ضغوط وإغراءات أميركية.
قناعتي اليوم أن الطرف الروسي أصبح مرتاحاً لسير المعارك والأرجح التوجه لاحقاً إلى تجميد النزاع. وما دامت الحرب لا تحمل تهديداً جدياً للأراضي الروسية وللنظام الروسي، فإن اللجوء إلى السلاح النووي أمر مستبعد، والتلويح به يبقى حتى اليوم في باب التحذير.