تهديدات ترمب تعيد إلى الواجهة سعي أوروبا لتحقيق «الاستقلالية الاستراتيجية»

«الانقسامات الأوروبية» و«قدراتها العسكرية» تجعلان تحقيقها بعيد المنال

تهديدات ترمب أمام لوبي السلاح في بنسيلفانيا يوم 9 فبراير تشكل كابوساً للأوروبيين في حال عودته إلى البيت الأبيض (رويترز)
تهديدات ترمب أمام لوبي السلاح في بنسيلفانيا يوم 9 فبراير تشكل كابوساً للأوروبيين في حال عودته إلى البيت الأبيض (رويترز)
TT

تهديدات ترمب تعيد إلى الواجهة سعي أوروبا لتحقيق «الاستقلالية الاستراتيجية»

تهديدات ترمب أمام لوبي السلاح في بنسيلفانيا يوم 9 فبراير تشكل كابوساً للأوروبيين في حال عودته إلى البيت الأبيض (رويترز)
تهديدات ترمب أمام لوبي السلاح في بنسيلفانيا يوم 9 فبراير تشكل كابوساً للأوروبيين في حال عودته إلى البيت الأبيض (رويترز)

لم يكن محض صدفة أن تعلن ألمانيا الأربعاء أنها نجحت في تخصيص 2 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي للمسائل الدفاعية، بل إنها تجاوزت هذا السقف لتصل إلى 2.1 بالمائة، ما يعادل 73.41 مليار دولار للعام الحالي. وهذه النسبة تعد «تاريخية» بالنسبة لبرلين. كذلك، لم تكن الصدفة وحدها هي التي دفعت أمين عام الحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ إلى الإعلان من بروكسل، الأربعاء أيضا، أن 18 دولة (من دول الحلف الـ31) ستخصص اثنين بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، وأن الدول الأوروبية كافة ستستثمر ما لا يقل عن 380 مليار دولار للدفاع العام الحالي، وهو أيضا رقم استثنائي في تاريخ مساهمات الأوروبيين في المجهود الدفاعي العام في إطار الحلف الأطلسي.

وفي الحالتين، ثمّة سببان رئيسيان يدفعان في هذا الاتجاه. الأول، اجتماع وزراء دفاع الحلف الخميس في مقرّه في العاصمة البلجيكية، والثاني (وهو الأهم) الرد على تهديدات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي قال الأسبوع الماضي إن الولايات المتحدة لن تسارع إلى توفير الحماية لأعضاء الحلف الأوروبيين الذين لا ينفقون ما يكفي على المسائل الدفاعية، لا، بل إنه سيشجع روسيا لتفعل بهم ما تشاء.

أمين عام الحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ في مؤتمر صحافي يسبق اجتماع وزراء دفاع الحلف في بروكسل الخميس (أ.ف.ب)

وفي عام 2014، بمناسبة حرب أوكرانيا الأولى، التزم أعضاء الحلف بالوصول سريعا إلى عتبة اثنين بالمائة من الناتج المحلي. وخلال ولايته الأولى، دأب ترمب على مهاجمة الأوروبيين وعلى رأسهم ألمانيا لعدم وفائهم بتعهداتهم. وذهب إلى اتهام المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بأن بلادها تطلب الحماية من القوات الأميركية، بينما تغذي الميزانية الروسية بآلاف المليارات التي تصرفها على الغاز والبترول. وأكثر من مرة، هدّد ترمب بإخراج بلاده من الحلف الذي أنشئ في عام 1949.

تنديد واسع

لم تتأخر الردود المنددة بتصريحات ترمب من الشركاء الأوروبيين وقد أصبحت معروفة. بيد أن السؤال الرئيسي، بعد أن أصبحت عودة ترمب بداية العام المقبل إلى البيت الأبيض احتمالا ممكنا، يتناول ردة فعل الأوروبيين للتعاطي مع رئيس أميركي يقول سلفا إنه لا يلتزم بالبند الخامس من معاهدة «الأطلسي»، الذي ينص على أن «أي هجوم أو عدوان مسلح ضد عضو من أعضاء الحلف يعدّ عدوانا عليهم جميعا. وبناء عليه، فإنهم متفقون على حق الدفاع الذاتي عن أنفسهم المعترف به في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، بشكل فردي أو جماعي وتقديم المساعدة والعون إلى العضو أو الأعضاء الذين يتعرضون للهجوم». ولم يتم العمل بهذه المادة سوى مرة واحدة خلال 75 عاما من عمر الحلف. وكان ذلك في عام 2011، عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، حيث نشرت قوات للحلف في أفغانستان، أي خارج أراضيه.

الاستقلالية الاستراتيجية

في ربيع عام 2017، وصل إيمانويل ماكرون إلى رئاسة الجمهورية. وكان أحد أهم خطاباته ذلك الذي ألقاه في جامعة سوربون في باريس، في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وتناول فيه ما سماه «الاستقلالية الاستراتيجية» التي يتعين على الاتحاد الأوروبي السعي إليها، حتى لا يبقى رهينة للحلف الأطلسي والهيمنة الأميركية.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء والى جانبه رئيسا الحكومة ومجلس الشيوخ بمناسبة تكريم وزير العدل الأسبق روبيرت بادنتير وسط باريس (إ.ب.أ)

وخلال سنوات ولايته الأولى، بقي ماكرون يدفع باتجاه هذه «الاستراتيجية» مع تنويعات في الطرح بالنظر للفتور الذي قوبلت به مبادرته، خصوصا من ألمانيا ودول شرق ووسط أوروبا المنضمة حديثا إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، والتي لم ترد أن تتخلى عن المظلة الأميركية لتحتمي بمظلة أوروبية غير موجودة.

وجاءت الحرب التي أطلقتها روسيا في شهر فبراير (شباط) من عام 2022، لتثبت أن هذه الدول بحاجة للحماية الأطلسية، حيث إن البند الخامس من معاهدة الحلف يعد بمثابة «بوليصة تأمين» لها، حيث يضمن لها أنها لن تكون بعد أذربيجان ومولدافيا وأوكرانيا هدفا لعدوان روسي. وهذه «البوليصة» سعى إليها بلدان محايدان، هما السويد وفنلندا.

وحتى اليوم، لعب الحلف هذا الدور، وكان بمثابة «القوة الرادعة» التي تحمي أعضاءه. والدليل على ذلك أن أيا من دول «الطوق الأوكراني» لم تكن هدفا لروسيا. أما إذا زرعت الشكوك بتخلي الحلف عن التزاماته إزاء أعضائه، فإنه حكما سيخسر قوته الرادعة، وسيشرع الباب أمام الاحتمالات كافة. وبحسب تييري تاردي، الباحث في معهد «جاك ديلور» والمختص بالشؤون الأمنية، فإن ما هو حاصل «ليس فقط مسألة مالية، بل إنه يهدد مصداقية الحلف ووجوده نفسه». ونبّه تاردي من «الثقافة السياسيةّ التي يعمل ترمب بوحيها والتي تجعله يقرر منفردا إنهاء الحلف من غير النظر بالتبعات المترتبة على ذلك لجهة فقدان أوروبا للاستقرار وتأثيرها على الأمن الأميركي».

غير أن تهديدات ترمب، رغم أنها أقرب إلى مزحة ثقيلة في ما خص «تشجيع» موسكو على مهاجمة أعضاء في الحلف، نظر إليها بجدية قياسا إلى ما فعله خلال وجوده في البيت الأبيض وتكليفه اثنين من مساعديه بإعداد خطة لخروج الولايات المتحدة من الحلف كما خرجت من منظمات دولية عدّة.

مقترح فرنسي معدّل

لذا، عادت إلى الواجهة الدعوة إلى تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك بصيغة فرنسية معدلة هذه المرة، وهي تقول إن المطلوب تطوير القدرات الدفاعية الأوروبية «ليس للحلول محل الحلف الأطلسي، بل لتكون إلى جانبه». وترى تارا فارما، الباحثة في معهد «بوكينغ إنستيتيوشن» إن «نسبة تعريض ترمب الأوروبيين للخطر تعد فضيحة حقيقية، وبالتالي يتعين عليهم أن يكونوا متمكنين من الدفاع عن أنفسهم وأن يعملوا بجدية من أجل التوصل إلى الاستقلالية الاستراتيجية، أي بناء قدراتهم الدفاعية وتنويع شراكاتهم».

المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك في مؤتمر صحافي مشترك الاثنين في برلين بمناسبة زيارة الأخير إلى ألمانيا (إ.ب.أ)

وجاء الرد الأول من فرنسا وألمانيا وبولندا، بمناسبة اجتماع وزراء خارجيتهم في باريس الاثنين في إطار ما يسمى «مجموعة ويمار»، إذ نص البيان الختامي على أن «هدفنا هو تعزيز وحدة الاتحاد الأوروبي وجعله أقوى، وتمكينه من أن يكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الأمنية عن طريق تعزيز الوحدة في مجالي الأمن والدفاع».

من جانبه، شدد ماكرون لدى اجتماعه برئيس وزراء بولندا في الإليزيه، الاثنين الماضي، على أهمية تعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية. وقال إن من شأنها تمكين أوروبا من أن تكون «قوة أمنية ودفاعية مكملة للحلف الأطلسي وجناحه الأوروبي». وقال وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه عقب لقاء الوزراء الثلاثة إن الأوروبيين «يحتاجون لبوليصة تأمين ثانية ليس لتحل محل الأولى، الأطلسية، لكن لتكملها»، مضيفا أن «لا شيء يتعين أن يمنعنا، نحن الأوروبيين، من أن نتهيأ لاستيعاب صدمة السيناريو الذي يشير إليه دونالد ترمب».

حقيقة الأمر أن الكلام شيء، والواقع شيء آخر. فالحلف الأطلسي، في تركيبته الحالية، يضم ثلاث دول نووية هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. والمظلة النووية الأميركية هي التي تحمي أعضاءه بصفتها الأكبر في العالم. وخروج واشنطن من الحلف، إذا حصل وهو مستبعد، سيعد بمثابة زلزال جيو ـ استراتيجي وسيغير صورة العالم الأمنية وتوازن القوى.

ويشرح الباحث كميل غران، من المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، أن ما توفره واشنطن لأمن أوروبا يشمل الدفاعات الجوية، والنقل الاستراتيجي، وقوات جاهزة للقتال، واستعلامات، والقدرة على نشر قوات كبيرة سريعا جدا. وباختصار، فإن التخلي الأوروبي عن الحلف ليس ممكنا فيما التهديد الروسي قائم أكثر من أي وقت مضى. ولذا، فإن ما يأمله الأوروبيون أن يبقى ترمب خارج البيت الأبيض لتجنب كابوس أخذ يقض مضاجعهم.


مقالات ذات صلة

موسكو حذرت واشنطن قبل 30 دقيقة من إطلاق صاروخ «أوريشنيك» متوسط ​​المدى

أوروبا سكان أمام منزل متضرر بهجوم طائرة مسيّرة في منطقة أوديسا جنوب أوكرانيا (أ.ف.ب)

موسكو حذرت واشنطن قبل 30 دقيقة من إطلاق صاروخ «أوريشنيك» متوسط ​​المدى

قالت وزارة الدفاع الروسية إنها استخدمت صاروخاً «باليستياً» متوسط ​​المدى من طراز «أوريشنيك» لأول مرة في أعمال قتالية.

«الشرق الأوسط» (موسكو) «الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا لقطة أرشيفية لصاروخ بالستي روسي أطلق في مارس الماضي خلال تجربة للجيش (أ.ف.ب)

«الناتو»: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

أكّد حلف شمال الأطلسي الخميس أنّ الصاروخ البالستي الفرط صوتي الجديد الذي أطلقته روسيا على أوكرانيا "لن يغيّر مسار الحرب".

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في سوتشي بروسيا 18 مايو 2018 (رويترز)

ماذا قالت ميركل في مذكراتها عن بوتين وترمب وأوكرانيا؟

بعد ثلاثة أعوام على تقاعدها عادت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل إلى الأضواء بكتاب مذكرات عن حياتها تحدثت فيه عن أوكرانيا وعلاقتها ببوتين وترمب

راغدة بهنام (برلين)
الولايات المتحدة​ يدلي القائم بأعمال المدعي العام آنذاك مات ويتاكر بشهادته أمام لجنة القضاء في مجلس النواب الأميركي بشأن الرقابة على وزارة العدل في مبنى الكابيتول في العاصمة الأميركية واشنطن 8 فبراير 2019 (أ.ف.ب)

ترمب يختار مات ويتاكر سفيراً لأميركا لدى حلف الناتو

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، اليوم (الأربعاء)، مات ويتاكر، القائم بالأعمال السابق بمنصب المدعى العام، سفيراً لبلاده لدى حلف شمال الأطلسي (ناتو).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا نظام مدفعية آرتشر من فوج المدفعية الملكية التاسع عشر التابع للقوات المسلحة البريطانية يطلق النار أثناء تدريب على إطلاق النار الحي في 18 نوفمبر 2024 في لابلاند الفنلندية (أ.ف.ب)

الجيش البريطاني يطلق مدفعاً جديداً للمرة الأولى خلال مناورة للناتو

قام جنود الجيش البريطاني بإطلاق مدفع جديد، يستخدم لأول مرة، وذلك خلال مناورة تكتيكية لحلف الناتو بفنلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)

خطة هولندية لمكافحة «معاداة السامية»

اشتباكات في أمستردام بعد مباراة كرة قدم بين مكابي تل أبيب وأياكس بالقرب من محطة أمستردام سنترال (رويترز)
اشتباكات في أمستردام بعد مباراة كرة قدم بين مكابي تل أبيب وأياكس بالقرب من محطة أمستردام سنترال (رويترز)
TT

خطة هولندية لمكافحة «معاداة السامية»

اشتباكات في أمستردام بعد مباراة كرة قدم بين مكابي تل أبيب وأياكس بالقرب من محطة أمستردام سنترال (رويترز)
اشتباكات في أمستردام بعد مباراة كرة قدم بين مكابي تل أبيب وأياكس بالقرب من محطة أمستردام سنترال (رويترز)

أعلنت الحكومة الهولندية، اليوم الجمعة، إطلاق خطة جديدة لمكافحة «معاداة السامية»، بعد أسبوعين من صدامات بين مشجعي كرة قدم إسرائيليين وشبان، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية».

وخصص مجلس الوزراء مبلغاً إضافياً قدره 4.5 مليون يورو سنوياً لهذه الخطة، سيجري استخدام جزء منه لتعزيز أمن المؤسسات اليهودية والكنس.

وقال وزير العدل ديفيد فان ويل: «للأسف، ازدادت معاداة السامية في هولندا، خلال العام الماضي، كما أظهرت الأحداث التي وقعت في أمستردام قبل أسبوعين».

بعد مباراة في الدوري الأوروبي «يوروبا ليغ» بين أياكس أمستردام وفريق مكابي تل أبيب الإسرائيلي، في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، تعرّض مشجعون للأخير إلى الملاحقة والضرب في شوارع العاصمة الهولندية، ما أدى إلى إصابة عدد من الأشخاص بجروح، وإثارة سخط في كثير من العواصم الغربية.

واندلعت حوادث متفرقة قبل المباراة، شملت هتافات معادية للعرب رددها مشجعو مكابي وحرق علم فلسطيني في ساحة دام المركزية، قبل أن يتعرض أنصار الفريق الإسرائيلي لأعمال عنف.

وعَدَّت إسرائيل والسلطات الهولندية أن هذه الأحداث «معادية للسامية».

ونُقل خمسة من مشجعي مكابي إلى المستشفى لفترة وجيزة؛ لتلقي العلاج بعد إصابتهم في أعمال العنف التي أثارت غضب قادة غربيين.

وتشمل استراتيجية الحكومة أيضاً تشكيل فريق عمل معنيّ بمعاداة السامية، وإصدار قوانين أكثر صرامة بشأن «تمجيد الإرهاب» والتحقيق في أعمال العنف المرتكبة خلال الاحتجاجات.

كما سيجري استهداف مشجعي كرة القدم من أجل القضاء على الهتافات المعادية للسامية في الملاعب.

وقال رئيس الوزراء ديك شوف، للصحافيين: «إنه مزيج من القمع والوقاية».