المرآة الاستراتيجيّة بين الأعداء

رجل يسير أمام سيارة مدمَّرة في ساحة بناية متضررة بفعل القصف في أوديسا (أ.ف.ب)
رجل يسير أمام سيارة مدمَّرة في ساحة بناية متضررة بفعل القصف في أوديسا (أ.ف.ب)
TT

المرآة الاستراتيجيّة بين الأعداء

رجل يسير أمام سيارة مدمَّرة في ساحة بناية متضررة بفعل القصف في أوديسا (أ.ف.ب)
رجل يسير أمام سيارة مدمَّرة في ساحة بناية متضررة بفعل القصف في أوديسا (أ.ف.ب)

من المعروف أن استراتيجيّات الأطراف المتقاتلة في أي حرب، هي خدمة مجّانيّة يقدّمها فريق إلى فريق آخر.

بكلام آخر، العدو (أ) يرسم استراتيجيّة العدو (ب)، والعكس بالعكس. يندرج هذا الوضع على المراحل الأولى للحرب، وحتى قبل إطلاق الرصاصة الأولى. فالفريق (أ) يتجسس على الفرق (ب)، ويُتابع دراسة المُسلّمات الجيوسياسيّة التي يضعها (ب)، ويُحضّر الوسائل اللازمة للتنفيذ، كما يُتابع المواقف السياسيّة للفريق (ب). يُتابع أيضاً النشاطات العسكريّة من مناورات عسكريّة وغيرها.

وأخيراً وليس آخراً، يدرس المتقاتلون تاريخهم بعمق، ليستنتجوا منه الدروس والعبر، كما الأنماط التاريخيّة التي تتكرّر مع الوقت لكن بظروف مختلفة.

باختصار، قد يمكن القول إن الفريق (أ) هو المرآة الاستراتيجيّة المُستدامة للفريق (ب)، خصوصاً إذا كان القَدَر الجغرافي يجمع الاثنين. هذا هو حال روسيا مع أوكرانيا؛ يجمعهما التاريخ، والدين، والتجربة العسكريّة، كما الجغرافيا. وهذا بغضّ النظر عمّن هو أقدم في التاريخ، حتى ولو كانت كييف قد تأسست قبل موسكو بـ665 سنة، فللقوّة مفعولها في العلاقات الدوليّة. لكنْ يبقى السؤال: هل كان من المتوقّع أن يجتاح بوتين أوكرانيا؟ بالطبع نعم. فهو كان قد أعلن في خطاب له في مؤتمر ميونيخ للأمن في عام 2007 أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان أكبر خطأ جيوسياسيّ. كما نُشرت دراسة له قُبيل بدء الحرب على أوكرانيا، يشرح فيها أنه لا وجود لما تُسمّى دولة أوكرانيا، وأن الخطأ الأكبر كان من فلاديمير لينين عندما أعطى أوكرانيا استقلالها عام 1921.

بكلام آخر، تعد أوكرانيا حيويّة للأمن القومي الروسيّ. فهي المدخل إلى أوروبا، كما هي المدخل الأوروبي إلى روسيا. أكد هذا الأمر مستشار الأمن القومي الراحل زبيغنيو بريجنسكي عندما قال ما معناه، إن روسيا مع أوكرانيا هي لاعب استراتيجي خطير، ودونها لاعب عاديّ.

ناورَ الرئيس بوتين بجيوشه الجرّارة حول أوكرانيا عدّة مرّات قبل الانقضاض عليها. فضحت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة (سي آي إيه) الخطط العسكريّة الروسيّة قبل بدء الهجوم، مخالفةً بذلك مبدأ السريّة في ميدان الاستخبارات. فبدل الاحتفاظ بالمعلومة ذات القيمة الاستراتيجيّة لصنّاع القرار، أصبحت المعلومة هي الدبلوماسيّة والقرار.

مع اقتراب دخول الحرب عامها الثالث يمكن استنتاج ما يلي:

• لم يستطع بوتين السيطرة على كلّ أوكرانيا، الأمر الذي يعني عدم التهديد المباشر لعمق دول الناتو.

• استُنزف الجيش الروسي في العديد والعتاد، وتظهّرت نقاط ضعف هذا الجيش خصوصاً في مجال التكنولوجيا الغربيّة المتقدّمة.

• عُزلت روسيا عن العالم الغربيّ، وأصبحت اللاعب الجونيور في الصراع العالمي إلى جانب الصين ضدّ الهيمنة الأميركيّة.

• حاربت أميركا روسيا بالواسطة، وبحيث قدّمت أوكرانيا أهمّ خدمة جيوسياسيّة للعمّ سام.

• وصلت الحرب إلى مرحلة الجمود الميداني (Stalemate) بين الأفرقاء.

• شكّلت الحرب مسرحاً مهمّاً لتجربة الأسلحة، واختبار المبادئ التكتيكيّة، خصوصاً بعد دخول المُسيّرات إلى حرب تعد حديثة، وقديمة في نفس الوقت.

• ظهّرت الحرب الأوكرانيّة عجز الدول ككلّ، خصوصاً الدول الغربيّة في مجال التصنيع العسكريّ، ومجال تأمين الذخيرة. كما خاب ظنّ المفكّرين الذي كانوا قد بشّروا بأن حروب المستقبل ستكون سريعة، ومن بُعد، ومع خسائر بشريّة قليلة مقارنةً مع الحروب الكبرى.

• وأخيراً وليس آخراً، لا تزال الحرب الأوكرانيّة تؤثّر سلباً في الأمن الغذائي العالميّ، كما في أمن الطاقة. هذا عدا انقسام دول العالم بين مؤيّد ومعارض لها.


مقالات ذات صلة

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

العالم نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

عبر جعل التهديد النووي عادياً، وإعلانه اعتزامه تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، نجح بوتين في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية حول العالم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يتحدث خلال لقاء تلفزيوني (رويترز)

لمن سينصت ترمب... روبيو أم ماسك؟

قال موقع «بولتيكو» إن كبار المسؤولين الأوروبيين المجتمعين في هاليفاكس للأمن الدولي قلقون بشأن الأشخاص في الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا خبراء أوكرانيون يتفقدون الأضرار في موقع الهجوم الصاروخي الذي ضرب وسط خاركيف شمال شرقي أوكرانيا في 25 نوفمبر 2024 وسط الغزو الروسي للبلاد (إ.ب.أ) play-circle 01:26

روسيا تعلن إسقاط 8 «صواريخ باليستية» أطلقتها أوكرانيا

قالت موسكو إن دفاعاتها الجوية أسقطت 8 صواريخ باليستية أطلقتها أوكرانيا وسط تصاعد التوتر مع استخدام كييف صواريخ بعيدة المدى زودها بها الغرب ضد روسيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا مدنيون أوكرانيون يرتدون زياً عسكرياً خلال تدريبات عسكرية نظمها الجيش الأوكراني في كييف (أ.ف.ب)

القوات الروسية تعتقل رجلاً بريطانياً يقاتل مع أوكرانيا في كورسك

قال مصدر أمني لوكالة الإعلام الروسية إن القوات الروسية ألقت القبض على بريطاني يقاتل مع الجيش الأوكراني في منطقة كورسك.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا المرشح لمنصب الرئيس كالين جورجيسكو يتحدّث لوسائل الإعلام في بوخارست (أ.ب)

مرشح مُوالٍ لروسيا يتصدّر الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في رومانيا

أثار مرشح مؤيّد لروسيا مفاجأة في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية برومانيا، بحصوله على نتيجة متقاربة مع تلك التي حقّقها رئيس الوزراء المؤيّد لأوروبا.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)

ما مدى احتمال استخدام روسيا أسلحتها النووية؟

جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)
جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

ما مدى احتمال استخدام روسيا أسلحتها النووية؟

جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)
جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)

وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطاباً متلفزاً في 24 فبراير (شباط) 2022 أعلن فيه تضمن الإعلان عن الغزو الروسي لأوكرانيا، ما تم تفسيره بأنه تهديد باستخدام الأسلحة النووية ضد الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) إذا ما تدخلت. وقال إن روسيا سترد على الفور، وستكون العواقب منقطعة النظير على نحو لم تشهده هذه الدول طيلة تاريخها. ثم في 27 فبراير 2022 أمر بوتين روسيا بنقل قوات نووية إلى «وضع خاص للمهام القتالية»، وهذا له معنى مهم من حيث البروتوكولات المتعلقة بإطلاق أسلحة نووية من روسيا.

وقالت باتريشيا لويس، مديرة الأبحاث ومديرة برنامج الأمن الدولي في «معهد تشاتام هاوس» (المعروف رسمياً باسم المعهد الملكي للشؤون الدولية) إنه وفقاً لخبراء متخصصين في الأسلحة النووية الروسية، لا يستطيع نظام القيادة والتحكم الروسي نقل أوامر الإطلاق في وقت السلم، ولذلك فإن رفع الوضع إلى «المهام القتالية» يسمح بتمرير أمر الإطلاق وتنفيذه.

أضافت باتريشيا، في تقرير نشره «تشاتام هاوس»، وبثته «وكالة الأنباء الألمانية»، أن بوتين وجه تهديدات نووية أشد في سبتمبر (أيلول) 2022 عقب أشهر من الصراع العنيف والمكاسب التي حققها هجوم مضاد أوكراني. وأشار إلى توسيع في العقيدة النووية الروسية، مخفضاً عتبة استخدام الأسلحة النووية من تهديد وجودي لروسيا إلى تهديد لسلامة أراضيها.

بوتين مجتمعاً مع كبار مسؤولي وزارة الدفاع في الكرملين (أرشيفية - إ.ب.أ)

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 وفقاً لتقارير كثيرة ترددت لاحقاً، رصدت الولايات المتحدة وحلفاؤها مناورات أشارت إلى أنه كان يتم تعبئة القوات النووية الروسية. وبعد موجة من النشاط الدبلوماسي، تدخل الرئيس الصيني شي جينبينغ لتهدئة الموقف، وأعلن معارضته لاستخدام الأسلحة النووية.

وفي سبتمبر 2024 أعلن بوتين تحديثاً للعقيدة النووية الروسية لعام 2020، وتم نشر التحديث في 19 نوفمبر، وخفض رسمياً عتبة استخدام الأسلحة النووية.

وتشير المبادئ الأساسية الجديدة للاتحاد الروسي بشأن الردع النووي بدلاً من ذلك إلى عدوان ضد روسيا أو بيلاروسيا «باستخدام أسلحة تقليدية من شأنها أن تُشكل تهديداً خطيراً لسيادتهما أو سلامة أراضيهما».

وفي 21 نوفمبر الحالي هاجمت روسيا دنيبرو في أوكرانيا باستخدام صاروخ باليستي جديد للمرة الأولى، وأعلن الرئيس بوتين أنه تم إطلاق اسم أوريشنيك على الصاروخ، الذي يفهم أنه صاروخ باليستي متوسط المدى وقادر على حمل أسلحة نووية، وله مدى نظري أقل من 5500 كيلومتر.

وأطلقت روسيا صواريخ مسلحة تقليدية قادرة على حمل أسلحة نووية على أوكرانيا طوال الحرب، ولكن أوريشنيك أسرع بكثير ومن الصعب التصدي له، ويشير إلى نيات روسيا للتصعيد.

الردع النووي في الحرب الباردة

وتم تطوير ردع الأسلحة النووية خلال حقبة الحرب الباردة في المقام الأول على أساس ما تم وصفه بالتدمير المتبادل المؤكد. والفكرة وراء التدمير المتبادل المؤكد هي أن الرعب من الأسلحة النووية أمر كاف لردع أي عمل عدواني وحرب.

نظام صاروخي باليستي عابر للقارات روسي من طراز «يارس» يمر أمام حرس الشرف خلال عرض عسكري في موسكو (أرشيفية - رويترز)

ولكن تطبيق نظرية الردع على حقائق ما بعد حقبة الحرب الباردة أكثر تعقيداً في عصر الهجمات السيبرانية والذكاء الاصطناعي، حيث يمكن أن يتداخل ذلك مع القيادة والتحكم بشأن الأسلحة النووية.

وعلى ضوء هذه المخاطر، أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الصيني شي جينبينغ بياناً مشتركاً من قمة «مجموعة العشرين» الشهر الحالي في البرازيل، يؤكد على السيطرة البشرية على القرار الخاص باستخدام الأسلحة النووية.

وتتبادل الولايات المتحدة وروسيا معلومات بشأن صواريخهما النووية طويلة المدى الاستراتيجية، بموجب معاهدة «ستارت» الجديدة، وهي معاهدة بين الدولتين تهدف إلى الحد من الأسلحة النووية ومراقبتها، والتي من المقرر أن ينتهي العمل بها في فبراير 2026.

ولكن مع قرار الولايات المتحدة الانسحاب من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى في عام 2019 لم تعد هناك أي اتفاقية بين الولايات المتحدة وروسيا تنظم عدد أو نشر الصواريخ النووية، التي يتم إطلاقها من الأرض. وتم سحب الأسلحة النووية قصيرة المدى ووضعها في المخازن نتيجة للمبادرة النووية الرئاسية لعام 1991، ولكنها لا تخضع لأي قيود قانونية.

وتم عقد المؤتمر العاشر لمراجعة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في عام 2022 في نيويورك، وكانت قضية تهديدات الأسلحة النووية واستهداف محطات الطاقة النووية في أوكرانيا محور المناقشات.

وتمت بعناية صياغة وثيقة لإحداث توازن بشكل دقيق بشأن الركائز الرئيسية للمعاهدة، وهي عدم الانتشار ونزع السلاح النووي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية. ولكن روسيا سحبت موافقتها في اليوم الأخير للمؤتمر، مما عرقل إحراز تقدم.

وقالت باتريشيا إنه كان يعتقد بأنه إذا كانت روسيا ستستخدم أسلحة نووية، فإن من المرجح أن يكون ذلك في أوكرانيا، باستخدام أسلحة نووية ذات قوة منخفضة في ميدان القتال. ويعتقد بأن روسيا لديها احتياطي من هذه الأسلحة يبلغ أكثر من ألف.

وتشير البيانات الصادرة من روسيا على نحو زائد، إلى أن التهديدات النووية موجهة بشكل مباشر أكثر إلى حلف «الناتو»، وليس أوكرانيا فقط، وكانت تشير إلى أسلحة نووية طويلة المدى ذات قوة أعلى.

وعلى سبيل المثال في خطابه بتاريخ 21 سبتمبر 2022، اتهم بوتين دول «الناتو» بالابتزاز النووي، مشيراً إلى بيانات أدلى بها ممثلون رفيعو المستوى للدول الرئيسة في «الناتو» بشأن احتمال قبول استخدام أسلحة الدمار الشامل (أسلحة نووية) ضد روسيا. وقال بوتين: «في حالة وجود تهديد لسلامة أراضي بلادنا، وللدفاع عن روسيا وشعبنا، فمن المؤكد أننا سوف نستخدم كل نظم الأسلحة المتاحة لنا».

ولم تكن هناك تهديدات صريحة باستخدام الأسلحة النووية أطلقتها دول «الناتو». ولا يعتمد «الناتو» على الأسلحة النووية بوصفها شكلا من أشكال الردع، والتزم مؤخراً بأن يعزز بشكل كبير وضعه الخاص بالردع، والدفاع على المدى الأطول رداً على غزو روسيا لأوكرانيا.

وسيتم رصد ومراقبة أي تحرك لتجهيز ونشر أسلحة نووية روسية بواسطة الأقمار الاصطناعية، التابعة للولايات المتحدة ولدول أخرى، والتي يمكنها الرصد عبر غطاء من السحب وفي الليل، كما يبدو أنه حدث بالفعل في أواخر عام 2022.

واختتمت باتريشيا تقريرها بالقول إنه اعتمادا على المعلومات الاستخباراتية الأخرى والتحليل، وفشل كل المحاولات الدبلوماسية لإثناء روسيا عن موقفها، فإنه ربما تقرر دول «الناتو» التدخل لمنع عملية إطلاق من خلال قصف مواقع التخزين ومواقع نشر الصواريخ مسبقاً.