الحرب الأوكرانية والتماهي بين التكتيكي والاستراتيجي

صورة من شريط فيديو وزّعته وزارة الدفاع الروسية لجنود يقصفون مواقع أوكرانية (أ.ف.ب)
صورة من شريط فيديو وزّعته وزارة الدفاع الروسية لجنود يقصفون مواقع أوكرانية (أ.ف.ب)
TT

الحرب الأوكرانية والتماهي بين التكتيكي والاستراتيجي

صورة من شريط فيديو وزّعته وزارة الدفاع الروسية لجنود يقصفون مواقع أوكرانية (أ.ف.ب)
صورة من شريط فيديو وزّعته وزارة الدفاع الروسية لجنود يقصفون مواقع أوكرانية (أ.ف.ب)

لا تتضّح صورة عالم اليوم، إلا من خلال النظر وفهم ديناميكيّة التفاعلات بين المستويات التاليّة: المستوى الجيو - سياسيّ، المستوى الاستراتيجيّ، المستوى العملانيّ، ومن ثمّ المستوى التكتيكي.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يحدث تكتيكياً في مدينة باخموت في شرق أوكرانيا، وما قد ينتج من المعركة الضارية هناك، هو مرتبط مباشرة بالمستوى العملانيّ على المسرح الأوكراني، كما يرتبط بالمستوى الاستراتيجيّ، ومن ثمّ المستوى الجيو - سياسيّ.

تعتقد القيادة العسكريّة الأميركية، أن عناد أوكرانيا للقتال في باخموت (القتال التكتيكي) حتى آخر رمق، أدّى إلى استنفاد مخزون ذخيرة مدفعيّة الميدان. كما أدّى إلى استنزاف القوى العسكريّة المتمرّسة وذات الخبرات العالية. وأخيراً وليس آخراً، تعتقد القيادة الأميركية أن القتال في باخموت أعطى القوات الروسيّة الوقت الكافي لتحضير خط دفاع سُمّي «خطّ سيروفيكين»؛ تيمناً باسم الجنرال الروسيّ صاحب فكرّة خطّ الدفاع، سيرغي سيروفيكين؛ الأمر الذي عقّد الهجوم الأوكراني المُضاد.

تردّ القيادة العسكريّة الأوكرانية، بأن القتال في باخموت أدّى إلى تثبيت القوات الروسيّة هناك، ومن ثمّ استنزافها (20 ألف قتيل من قوات «فاغنر»). وهذا التثبيت لقوات النخبة الروسيّة من وحدات المظلاّت للقتال في باخموت، بشرق أوكرانيا، حرم القيادة الروسيّة من تشكيل قوّة الاحتياط العملانيّة للدعم حيث يجب. كما ألزم القوات الروسيّة المحمولة جواً، على القتال وكأنها وحدات مشاة عاديّة؛ الأمر الذي أدّى إلى استنزافها وخفض مستوى جهوزيّتها.

يقول المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي الراحل كولن. إس غراي ما معناه: «إن لكلّ سلاح تكتيكي مفاعيل استراتيجيّة».

وإذا كنا قد تحدّثنا عن ثلاثة مستويات للحرب: الاستراتيجيّ والعملانيّ والتكتيكيّ، فهذا الأمر لا يعني أنها منفصلة بعضها عن بعض. فهي تشكّل بوتقة واحدة، تتفاعل خلال سير المعارك. وما التصنيف لهذه المستويات، إلا عبارة ووسيلة لمحاولة فهم ديناميكيّة التفاعل بينها. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك من نجاحات تكتيكيّة متراكمة، لكن من ضمن استراتيجيّة خاطئة، فإن الهزيمة الجيو - سياسيّة أمر مؤكّد. أما إذا كانت هناك هزائم تكتيكيّة لكن من ضمن استراتيجيّة صحيحة، فقد يكون النصر أكثر احتمالاً من الهزيمة.

المدفعيّة الروسيّة vs المدفعية الأوكرانية

وصف الزعيم السوفياتيّ الراحل جوزف ستالين المدفعيّة بأنها «آلهة المعركة». فهي التي كانت تحسم الحرب ضد النازيّة، حتى ولو على حساب الكثير من القتلى من الجيش الروسيّ.

روسيّا تؤلّه المدفعية منذ أيّام القيصر بطرس الأكبر. فبعد معركة خاسرة للقيصر ضد الملك السويديّ، دُمّر سلاح المدفعيّة الروسيّ بشكل كامل. عندها، جُمعت أجراس الكنائس لتذويب معدنها وصنع المدافع منها. من هنا صفة القداسة عليها.

لم تعد المدفعيّة الروسيّة كما كانت. فهي اليوم في سباق مع التقدّم التكنولوجيّ. والمسيّرة أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من سلاح المدفعيّة. فالمسيّرة تعمل أحياناً على جمع المعلومات عن الأهداف. كما تساهم في تصحيح رمايات المدفعيّة. وأخيراً، وليس آخراً، أصبحت تُشكّل بحدّ ذاتها سلاحاً مدفعيّاً بعد الاستعمال الكثيف للمسيّرات الانتحاريّة. يقول بعض الخبراء: إن العقيدة المدفعية الروسيّة ترتكز على المسار التاليّ: «تناور القوى أولاً؛ بهدف التحضير للقصف المدفعيّ» (Maneuver First). في المقابل، يعتمد الغرب عكس هذا المسار. فالعقيدة الغربيّة تقوم على «القصف أوّلاً، وبعده المناورة».

في حرب أوكرانيا، لم تعد المدفعيّة الروسيّة كما رآها ستالين. فالتكنولوجيا الحديثة، إلى جانب الابتكار التكتيكيّ الذي شهدناه لدى القوات الأوكرانية المدعومة من الغرب، خفّفا من حدّة وتأثير المدفع الروسيّ. فالتكنولوجيا الغربيّة الحديثة، أدّت إلى فصل المدفع عن غذائه الأساسيّ (الذخيرة)، وذلك عبر قصف الخلفيّة اللوجيستيّة (بواسطة الهايمارس). هذا من جهة التكنولوجيا. لكن من جهّة التكتيك المُبتكر، يمكن القول إن الانتشار (Dispersion) والتشتت للقوى العسكريّة الأوكرانية على مساحة أوسع، جعلا التأثير المدفعيّ الروسيّ اقلّ بكثير مما كان عليه سابقاً. هذا مع التذكير، أن كلّاً من روسيا وأوكرانيا، يخوض اليوم حرب استنزاف متبادلة بكلّ ما للكلمة من معنى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقول العقيدة المدفعيّة الروسيّة، إنه لقصف وتدمير مساحة تبلغ 0.33 كلم2، يستلزم الأمر، 12 مدفعاً من عيار 122ملم. كما يستلزم ما يُقارب 600 قذيفة. هنا يتظهّر تأثير الانتشار للقوى.

في الختام، أظهرت الحرب الأوكرانية، أن الفوارق بين مستويات الصراع لم تعد كما كانت. فقد يمكن القول أن التماهي بين التكتيكي والاستراتيجي، أصبح أكثر بكثير مما كان عليه سابقاً. كما قد يمكن القول: إن نمط تغيير العقيدة العسكريّة أصبح متسارعاً وليست خطّياً (Exponential not Linear). وإذا كانت التكنولوجيا من أهمّ الأسباب التي أنتجت هذا النمط المُتسارع، يمكن إضافة عامل آخر هو آنيّة نقل المعلومة (Instantaneity)، من مسرح المعركة إلى مركز القرار، وذلك بسبب التقدّم في تكنولوجيا الاتصالات. أدّى هذا الأمر، إلى تقصير عمليّة التغذية الاسترجاعيّة (Feedback) بشكل لم يشهده تاريخ الحروب السابقة. وعليه، يمكن القول: إن ما يُسمّى الصبر التكتيكي أو الاستراتيجيّ قد ولّى إلى غير رجعة.


مقالات ذات صلة

تصاعد الهجمات الإلكترونية على كوريا الجنوبية من مجموعات موالية لروسيا

آسيا استهدفت الهجمات الأخيرة بعض المواقع الحكومية والخاصة (رويترز)

تصاعد الهجمات الإلكترونية على كوريا الجنوبية من مجموعات موالية لروسيا

أعلن المكتب الرئاسي في سيول أن الهجمات الإلكترونية التي تشنها مجموعات قرصنة موالية لروسيا ضد كوريا الجنوبية ازدادت في أعقاب إرسال كوريا الشمالية قوات إلى روسيا.

«الشرق الأوسط» (سيول)
أوروبا عناصر من قوات الشرطة الروسية بالقرب من مركز الاعتقال الذي شهد حادث احتجاز رهينتين في روستوف أون دون 16 يونيو (حزيران) 2024 (أ.ب)

السجن مدى الحياة لجنديين روسيين قتلا عائلة أوكرانية

قضت محكمة روسية بسجن جنديين مدى الحياة بعد إدانتهما بتهمة قتل عائلة مكونة من تسعة أشخاص في منزلها في إحدى المناطق المحتلة من أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جنود أوكرانيون يطلقون قذيفة مدفعية باتجاه القوات الروسية على الجبهة قرب دونيتسك (رويترز)

«البنتاغون» يجيز إرسال متعاقدين لأوكرانيا لإصلاح أسلحة أميركية

قررت إدارة الرئيس جو بايدن السماح لمتعاقدين دفاعيين أميركيين بالعمل في أوكرانيا لصيانة وإصلاح الأسلحة المقدمة لها من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يراجع إحدى الخطط القتالية خلال زيارته لأحد معسكرات الجيش (وكالة أنباء كوريا الشمالية)

«الناتو» يدين التدخل الكوري الشمالي في أوكرانيا

أدان حلف شمال الأطلسي (ناتو) وشركاؤه في آسيا (كوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا) «بشدة» تدخُّل كوريا الشمالية إلى جانب روسيا في حربها.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس دونالد ترمب خلال لقاء في اليابان (أ.ب)

أوكرانيا تتصدر جدول أعمال قمة الاتحاد الأوروبي في بودابست

بودابست تستضيف قمة أوروبية، وترى في انتخاب دونالد ترمب رئيساً خسارة أوكرانيا للحرب ضد روسيا، ونهاية الدعم العسكري والمالي الأميركي.

«الشرق الأوسط» (بودابست) «الشرق الأوسط» (موسكو)

يهود يمنعون رئيس البرلمان النمسوي من تكريم ضحايا الهولوكوست

رئيس البرلمان النمسوي فالتر روزنكرانتس (أ.ف.ب)
رئيس البرلمان النمسوي فالتر روزنكرانتس (أ.ف.ب)
TT

يهود يمنعون رئيس البرلمان النمسوي من تكريم ضحايا الهولوكوست

رئيس البرلمان النمسوي فالتر روزنكرانتس (أ.ف.ب)
رئيس البرلمان النمسوي فالتر روزنكرانتس (أ.ف.ب)

منع طلاب يهود، اليوم (الجمعة)، أول رئيس للبرلمان النمسوي من اليمين المتطرف، من وضع إكليل من الزهور على نصب تذكاري لضحايا الهولوكوست، واتهموه بـ«البصق في وجوه أسلافنا»، وفق ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.

وانتخب البرلمان النائب عن حزب الحرية، فالتر روزنكرانتس، رئيساً بعد أن تصدر حزبه اليميني المتطرف الانتخابات العامة في سبتمبر (أيلول) لأول مرة في تاريخه. ويواجه روزنكرانتس انتقادات واسعة، كونه كان ينتمي إلى نادٍ طلابي يميني متطرف معروف بقوميته الألمانية. وأعلنت المنظمة اليهودية الرئيسية في البلاد امتناعها عن المشاركة في أي مناسبات بحضوره.

وبينما أحيت النمسا، الجمعة، الذكرى الـ86 لمجزرة كريستال ناخت، أو ليلة الزجاج المكسور ضد اليهود، منع كثير من المتظاهرين اليهود روزنكرانتس من وضع إكليل على النصب التذكاري الرئيسي للمحرقة اليهودية في فيينا. وحمل الطلاب لافتة تحمل شعار اتحاد الطلاب اليهود النمسويين، كُتب عليها: «كلام كل من يكرم النازيين لا قيمة له»، متوجهين لروزنكرانتس بالقول إنهم لا يريدون إحياء ذكرى المجزرة معه.

ووفقاً لمقطع فيديو بثّته هيئة الإذاعة العامة (أو آر إف)، قال أحدهم: «لا نريدك أن تبصق في وجوهنا ووجوه أسلافنا».

وبعد أن رفضوا السماح له بالمرور، غادر روزنكرانتس الذي بدا عليه الانزعاج بشكل واضح. ولم تتم دعوته إلى حفل التأبين الرسمي الذي أقامته المنظمة اليهودية الرئيسية في النمسا، وقال رئيسها: «من المستحيل تذكر الضحايا مع مثل هذا الشخص».

وبعد انتخابه رئيساً للبرلمان، تعهد روزنكرانتس مواصلة نضال البلاد ضد معاداة السامية، ورفض اتهامه بأنه يشكل تهديداً للمجتمع اليهودي، ووصف ذلك بأنه «كذبة». وواجه حزب الحرية النمسوي، الذي أسّسه نازيون سابقون، اتهامات متكررة بمعاداة السامية، وهو ما ينفيه الحزب.