بعد مرور أكثر من أسبوعين وسط زحام مروري في البحر الأسود حيث تنتظر سفن الشحن دورها للدخول إلى دلتا نهر الدانوب لتحميل الحبوب الأوكرانية، وصل البحارة المصريون في النهاية إلى أرض صلبة نهاية الأسبوع الماضي، وجددوا مخزونهم المتناقص من المياه العذبة والأغذية.
لكن ابتهاجهم بامتلاك ما يكفي من الطعام والشراب اختلط بالانزعاج، إذ إنهم بعد وقفتهم القصيرة لتحميل المؤن في ميناء سولينا الروماني المطل على البحر الأسود، سوف يتوجهون إلى قناة سولينا، أحد فروع نهر الدانوب داخل أراضي حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ثم إلى امتداد من النهر حيث هاجمت روسيا في الأسابيع الأخيرة مرفأين نهريين أوكرانيين.
قال أحد أفراد الطاقم المصري، وهو من الإسكندرية، ولم يذكر سوى اسمه الأول، إسماعيل: «الوضع خطير للغاية هناك الآن، انفجارات في كل مكان».
عندما انسحبت روسيا من اتفاق الشهر الماضي لتوفير ممر آمن للسفن التي تحمل الحبوب في أوديسا وغيرها من الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، بدا أن دلتا الدانوب تقدّم بديلاً خالياً من المخاطر نسبياً، وإن كانت مزدحمة للغاية. لكن روسيا سعت منذ ذلك الوقت إلى نسف هذه الفكرة بقصف مرافق شحن الحبوب الأوكرانية هناك أيضاً. كما تأججت المخاوف بين البحارة يوم الأحد عندما أطلقت سفينة دورية روسية طلقات تحذيرية على سفينة شحن تبحر عبر البحر الأسود، وصعدت القوات الروسية مؤقتاً على متنها، ما يؤكد تهديد موسكو السابق بالتعامل مع أي سفن تحاول الوصول إلى أوكرانيا على أنها معادية.
كانت سفينة الشحن في طريقها إلى سولينا ثم إلى الدلتا في «إيزميل»، أحد ميناءين أوكرانيين على نهر الدانوب هاجمتهما روسيا منذ يوليو (تموز) الماضي. كما عملت أوكرانيا على تضخيم المخاوف بشأن التهديدات الموجهة إلى سفن الشحن بمهاجمة السفن الروسية في البحر الأسود.
لكن مع تزايد المخاطر في الممرات المائية في أوكرانيا وما حولها، حافظت قناة سولينا - وهي امتداد يبلغ 40 ميلاً من المياه يمتد من البحر الأسود إلى الموانئ الرومانية والأوكرانية والمولدوفية في دلتا نهر الدانوب - على تدفق الحبوب، لتصبح من الممرات الحيوية. وبفضل مظلة الحماية التي يوفرها حلف شمال الأطلسي، فهي شريان حياة آمن حتى الآن بالنسبة لأوكرانيا.
كانت هذه القناة معروفة جيداً خارج دوائر الشحن البحري كنقطة جذب لمراقبي الطيور وغيرهم من محبي الطبيعة، لكنها صارت الآن تحظى باهتمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كنقطة اختناق استراتيجية وحاسمة لتصدير الحبوب الأوكرانية.
بعد اجتماع عُقد يوم الجمعة بين مسؤولين أوروبيين وأميركيين في مدينة غالاتي الساحلية في رومانيا، قال جيمس أوبراين، منسق العقوبات في إدارة بايدن، إن حجم الحبوب الأوكرانية المصدّرة عبر نهر الدانوب «سوف يزيد على الضعف». لم يُحدد إطاراً زمنياً. غير أن المسؤولين ناقشوا إجراءات تهدف ليس فقط إلى إبقاء قناة سولينا مفتوحة، وإنما إلى توسيع دورها كذلك، بما في ذلك تركيب معدات ملاحية جديدة بحيث يمكن للسفن استخدامها على مدار الساعة، وليس فقط خلال ساعات النهار.
قال أوبراين إنه قبل الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا العام الماضي، كانت شحنات الدانوب تحمل 100 ألف طن من الحبوب الأوكرانية شهرياً. وفي الأشهر الـ 18 التي تلت ذلك، زاد هذا الرقم بمقدار عشرة أضعاف، ليصل إلى ما مجموعه أكثر من 20 مليون طن.
يشير المشهد الذي جرى مؤخراً على شاطئ قرب سولينا إلى أن الجهود الروسية الرامية إلى قطع طرق الشحن في دلتا نهر الدانوب - تماماً كما فعلت مع حركة المرور إلى موانئ البحر الأسود في أوكرانيا - قد فشلت في الوقت الراهن. بجانب المصطافين على الشاطئ، تنتظر مجموعة من السفن في البحر للحصول على فرصة لدخول قناة سولينا. وفي يوم الاثنين، كانت أكثر من 80 سفينة قيد الانتظار.
ولتسريع حركة المرور وتخفيف الازدحام، شرعت رومانيا في تجنيد مرشدين بحريين من الجيش يعرفون الطريق ومخاطرها لاستكمال قائمة المرشدين المدنيين الذين يرشدون السفن إلى وجهاتها من سولينا.
قالت ماجدة كوبتشينسكا، كبيرة مسؤولي النقل بالمفوضية الأوروبية، في غالاتي يوم الجمعة إنه يجري النظر أيضاً في إمكانية تصدير الحبوب الأوكرانية عبر الموانئ البولندية وموانئ بحر البلطيق والبحر الأدرياتيكي، ولكن «ثبت أن وصلة الدانوب هي الأكثر كفاءة».
مع ذلك، يقول سورين غرينديانو، وزير النقل الروماني، إنه لكي تعمل هذه الطريق بكامل طاقتها تحتاج أوكرانيا إلى تقليل اعتمادها على موانئها النهرية والبدء في شحن المزيد من الحبوب من الموانئ الرومانية على نهر الدانوب. واستشهد بميناءي غالاتي وبريلا، القريبين من الحدود الأوكرانية، ولكنهما محميان بعضوية رومانيا في حلف شمال الأطلسي. وقال الوزير غريندانو إن رومانيا «لا تحاول جني المال» من آلام أوكرانيا. لكن بعد أن استثمرت رومانيا بكثافة في البنية الأساسية لميناء الدانوب - أحد التغييرات هو خط سكة حديد في غالاتي يستخدم نفس المسارات واسعة النطاق مثل أوكرانيا - تشعر رومانيا بالحيرة لأن حركة المرور إلى موانئها عن طريق السفن التي تجمع الحبوب الأوكرانية كانت متواضعة للغاية. قال غريندانو في مقابلة في بوخارست: «لقد استثمرنا الكثير من المال في غالاتي. لكنهم لا يستخدمونها. ولا أعرف لماذا لا يستخدمونها».
لقد استثمرنا الكثير من المال في غالاتي. لكنهم لا يستخدمونها. ولا أعرف لماذا لا يستخدمونها
سورين غرينديانو، وزير النقل الروماني
من جهته، قال وزير البنية التحتية الأوكراني، أوليكسندر كوبراكوف، في حديث أدلى به يوم الجمعة بعد اجتماعه مع مسؤولين أوروبيين وأميركيين، إن الموانئ الرومانية يمكن أن تشهد «زيادة في كميات» الحبوب من بلاده في المستقبل، لكنه أضاف أن ذلك سيعتمد على المزيد من العمل لتحسين خطوط السكك الحديدية. والانتقال إلى الموانئ الرومانية يعني أن أوكرانيا سوف تخسر رسوم تحميل كبيرة وغير ذلك من العائدات.
مع ازدحام الدخول إلى قناة سولينا، سعت أوكرانيا إلى فتح طريق ثانية إلى الشمال عن طريق تجريف قناة بيستروي، وهو ممر مائي أوكراني متصل بفرع آخر من نهر الدانوب. لكن القناة المجروفة ضحلة للغاية وخطرة للغاية لأنها تمر عبر الأراضي الأوكرانية و«يمكن قصفها في أي لحظة»، على حد تعبير الوزير غريندانو. كما أن استخدامها، من وجهة نظر رومانيا، ينتهك أيضاً اتفاق عام 1948 بشأن إدارة المرور عبر الدلتا وحماية «الحقوق السيادية للدول المطلة على نهر الدانوب». أضاف غريندانو أن الموانئ النهرية الأوكرانية ليست عرضة للهجوم فحسب، وإنما لا تمتلك القدرة على تحميل كميات كبيرة من الحبوب.
كانت موانئ الأنهار في أوكرانيا تلعب بالفعل دوراً متزايد الأهمية حتى قبل أن تصبح مياه البحر الأسود القريبة من أوكرانيا بالغة الخطورة. وفي النصف الأول من العام الحالي، شُحن ما يقرب من 11 مليون طن من المنتجات الزراعية الأوكرانية، وهو ما يقرب من 11.5 مليون طن جرى التعامل معها عام 2022 بالكامل، الأمر الذي جذب الانتباه الروسي.
قال المؤرخ الروماني قسطنطين أرديليانو إن الجهود المبذولة لإبقاء دلتا الدانوب مفتوحة تعيد مُجريات الدراما التي ظهرت للمرة الأولى بين روسيا والغرب قبل نحو 200 سنة. عندما ضمت الإمبراطورية الروسية الدلتا عام 1829، وأنشأت محطة للحجر الصحي في سولينا، وأغضبت بريطانيا والدول الغربية الأخرى المتعطشة للحبوب المنتجة في الأراضي الزراعية الغنية في المنطقة، وذلك باستحداث الفحوصات الصحية لعرقلة حركة الشحن. انتهى التعطيل بهزيمة روسيا في حرب القرم عام 1856، والتي أرغمتها على التخلي عن السيطرة على الدلتا إلى ائتلاف من البلدان الأوروبية التي شرع مهندسوها بشق قناة سولينا وتقويمها.
تقول سورين نيكولا، المديرة البارزة في هيئة نهر الدانوب السفلى، وهي وكالة حكومية رومانية مسؤولة عن إدارة حركة المرور داخل قناة سولينا وخارجها «إن سولينا أشبه بالطريق السريعة». وعلى النقيض من مياه البحر الأسود على طول الساحل الأوكراني، كانت منطقة البحر قُبالة ساحل رومانيا بالقرب من سولينا آمنة حتى الآن. وتخرج معظم السفن التي تحمل الحبوب على طول نهر الدانوب من قناة سولينا وتسافر إلى «كونستانتا»، أكبر ميناء روماني على البحر الأسود، على بعد 85 ميلاً فقط من الساحل. في كونستانتا، تُنقل شحناتها إلى سفن أكبر، تخرج بعد ذلك من البحر الأسود عبر مضيق البوسفور، ثم تُبحر إلى موانئ بعيدة.
قالت وزارة الدفاع الرومانية في رد مكتوب على أسئلة إن كونستانتا «برزت كطريق رئيسية بديلة للحبوب منذ انسحاب موسكو من صفقة الحبوب في البحر الأسود». وأضافت الوزارة أنه بُغية الحفاظ على سلامتها، فإن قدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع - التي يُطلق عليها اسم «عيون السماء» التابعة لحلف شمال الأطلسي، «تنتشر على مدار الساعة فوق رومانيا ومياهها الإقليمية في البحر الأسود» في الوقت الحالي. كما أن الشواطئ المزدحمة بالقرب من الميناء، لا تدل على الذعر في سولينا، حيث هز قصف روسيا جزيرة «سنيك» (جزيرة الثعبان) الأوكرانية، التي لا تبعد سوى 25 ميلاً، نوافذ المنازل في العام الماضي.
قالت إيوانا توميسكو، وهي مديرة متجر على رصيف الميناء يخدم السياح المهتمين بالحياة البرية والنباتية في الدلتا، إن «الناس اعتادوا هنا على الحرب كما اعتادوا على كورونا تماماً».
* خدمة «نيويورك تايمز»