هل غيّر تمرد زعيم «فاغنر» بريغوجين فعلاً كل شيء في روسيا؟

تعتقد المحللة الروسية تاتيانا ستانوفايا أنه كان أهم حدث سياسي محلي في روسيا منذ تولي بوتين السلطة قبل نحو ربع قرن

بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
TT

هل غيّر تمرد زعيم «فاغنر» بريغوجين فعلاً كل شيء في روسيا؟

بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)
بريغوجين يقدّم الطعام لبوتين في مطعم خارج موسكو عام 2011 (أ.ب)

بعد مرور نحو شهر على تمرد يفغيني بريغوجين الذي استمر فترة وجيزة، من الواضح أن تداعيات هذا التمرد كانت مختلفة تماماً عما توقعه الكثيرون؛ فلم تتم إعادة هيكلة مجموعة «فاغنر» بشكل جذري، ولم يتم قتل بريغوجين أو سجنه، كما لم تكن هناك عملية تطهير للجيش من المتعاطفين مع «فاغنر»، ولم يتم اتخاذ أي خطوات كبيرة ضد «الوطنيين المتشددين» في البلاد (باستثناء اعتقال القائد الانفصالي السابق في دونباس إيغور جيركين).

زعيم «فاغنر» يفغيني بريغوجين في مايو الماضي (أ.ب)

وقالت تاتيانا ستانوفايا في تحليل نشره معهد كارنيغي للسلام الدولي، إن روسيا استأنفت الحياة «الطبيعية». ومع ذلك، من الصعب التخلص من الشعور بأن النظام لن يكون كما كان على الإطلاق؛ فقد غير تمرد بريغوجين نظرة النخب الروسية للعالم، وسوف يلقي بظلاله على المسار السياسي للبلاد لسنوات قادمة.

ورداً على سؤال بعد التمرد عن سبب اتخاذه قرار السيطرة على مقر الجيش في مدينة «روستوف أون دون»، وإرسال رتل من القوات صوب موسكو، تردد أن بريغوجين قال: «لقد فقدت السيطرة على نفسي». ويبدو هذا معقولاً.

لقد تم إيقاف ممارسة «فاغنر» المثيرة للجدل للغاية والمتمثلة في تجنيد جنود جدد من سجون روسيا في يناير (كانون الثاني)، وتردد أن الجيش الخاص كان يفتقر بشدة إلى الذخيرة، في حين تم قطع قنوات اتصال بريغوجين مع بوتين. ويبدو أن القشة الأخيرة كانت مطالبة مقاتلي «فاغنر» بالتوقيع على عقد مع وزارة الدفاع.

قوات «فاغنر» تنسحب من منطقة تابعة للجيش الروسي في روستوف (رويترز)

وقالت ستانوفايا، إن التمرد نفسه حدث بسرعة مذهلة، وهو فعل «فاغنر» ورد فعل بوتين الغاضب وإصابة بريغوجين بالذعر عندما وجد نفسه على وشك السيطرة على موسكو، والاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وقرار «فاغنر» بالتراجع. وكان المشهد الأخير هو اجتماع يوم 29 يونيو (حزيران) مع بوتين، والذي يبدو أن قادة «فاغنر» اضطروا خلاله إلى الاعتذار، ووافقوا على الانتقال إلى بيلاروسيا.

وبالنظر إلى الماضي، يبدو أن الأمر كله كان مجرد سوء تفاهم. فمن ناحية، فشل بوتين في فهم مدى التطرف الذي وصل إليه بريغوجين، وسمح للنزاع بأن يتصاعد بتداعيات دموية. ومن ناحية أخرى، بالغ بريغوجين في تقدير أهميته، وأخطـأ باعتقاده أنه يمكن أن يضغط على بوتين لإعادة تغيير القيادة العسكرية وينقذ «فاغنر» من أن يصبح بلا أهمية.

ورأت ستانوفايا، الزميلة البارزة في مركز كارنيغي روسيا أوراسيا، أنه على السطح، يبدو أنه تم حل كل شيء، وأن بريغوجين يفهم أن محاولته لاستخدام القوة كانت خطأ، وقرر بوتين أن بريغوجين كان مجرد رجل وطني نسي نفسه مؤقتاً وسط أهوال الحرب، وليس خائناً خطيراً.

بوتين مع المتحدث الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف (أ.ب)

ومع ذلك، خسر بريجوجين أصولاً في أعقاب التمرد (إمبراطوريته الإعلامية وجزء من أعماله التجارية - والأكثر أهمية - سمعته كبطل حرب) وتم نفيه إلى بيلاروسيا. ويبدو أن الكرملين يحاول تحطيم مجموعة «فاغنر». ويتم الضغط على قادة المجموعة للخدمة تحت قيادة قائد جديد هو أليكسي تروشيف، الذي يبدو أنه وقع عقداً مع وزارة الدفاع، ووفقاً لبوتين تم تعيينه خليفة لبريغوجين.

ورأت ستانوفايا أن كيفية انشغال عدة آلاف من جنود «فاغنر» في بيلاروسيا تشكل أزمة بالنسبة لبوتين وصداعاً بالنسبة للوكاشينكو. ولكن يبدو أن الكرملين قد قرر أن المتمردين

السابقين لا يمكن أن يبقوا في روسيا.

وحتى قبل أن يهدأ الغبار، من الواضح أن تمرد بريغوجين كان أهم حدث سياسي محلي في روسيا منذ تولي بوتين السلطة قبل نحو ربع قرن. ويعتقد الكثير من الناس وهو اعتقاد صحيح، أن المستفيد الوحيد هو وزارة الدفاع؛ فقد منح التمرد لوزير الدفاع سيرغي شويغو فرصة لإجراء تحقيق بشأن حلفاء بريغوجين داخل القوات المسلحة (وأهمهم الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي كان الوسيط الرئيسي بين وزارة الدفاع و«فاغنر»). ومع ذلك، فقد أضر التمرد بسمعة قادة الجيش الروسي وكشف عن عدم الرضا الذي تراكم بين صفوف عناصر الجيش.

وبعد خلاف في وقت سابق من شهر يوليو (تموز)، مع رئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف، تمت إقالة الميجور جنرال إيفان بوبوف، قائد جيش الأسلحة الموحد الـ58 الذي يحظى باحترام كبير، من منصبه وإرساله للخدمة في سوريا. كما تنتشر شائعات على القنوات الروسية على تطبيق «تلغرام» بشأن إقالة الميجور جنرال فلاديمير سيليفرستوف، قائد الفرقة 106 المحمولة جواً، والكولونيل جنرال ميخائيل تيبليتسكي، قائد القوات المحمولة جواً في روسيا.

بوتين يتوسط رئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف (يسار) ووزير الدفاع سيرغي شويغو (أ.ب)

وتبدو هذه التغييرات بمثابة نتيجة للضرر الذي لحق بسلطة كل من غراسيموف وشويغو أكثر منها تطهير للجيش من حلفاء بريغوجين. ومن الممكن أن يحتاج بوتين مع مرور الوقت أن يقوم بتغيير الرجلين.

ورأت الباحثة الروسية أنه على الرغم من أن العديد من الأشخاص ظنوا أن الكرملين سيسعى إلى استعادة احتكار العنف بعد التمرد، يبدو أن العكس هو الذي يحدث، وبالفعل يمكن القول إن هناك عملية تجري حالياً «لتقسيم» الأجهزة الأمنية الروسية. وستتسبب التصدعات المتزايدة في بنية الأمن في البلاد في حدوث صراعات جديدة واشتداد المنافسة بين الأجهزة، وسيكون لهذا عواقب مزعزعة للاستقرار.

وكان المستفيدون الحقيقيون من التمرد هم في الواقع أجهزة الاستخبارت؛ فقد تمكن جهاز الأمن الاتحادي أخيراً من اعتقال جيركين، أحد أكثر «الوطنيين المتطرفين» تشدداً. وفي حين صدر بحقه حكم (غيابي) في الغرب بالسجن مدى الحياة لدوره في إسقاط الطائرة «إم إتش 17» فوق شرق أوكرانيا في عام 2014، والذي أسفر عن مقتل 298 شخصاً، إلا أنه متهم في روسيا بالتشدد، حيث انتقد بوتين بسبب الطريقة التي يتم بها شن الحرب في أوكرانيا.

اللفتنانت جنرال فلاديمير ألكسييف (يمين) مع بريغوجين في مقطع الفيديو من روستوف يناشد رئيس «فاغنر» في مقطع مصور سابق إعادة النظر في أفعاله (أ.ف.ب)

ورأت تاتيانا ستانوفايا أن الشخص الأكثر معاناة نتيجة للتمرد هو بوتين نفسه. ومهما كانت الثقة التي يشعر بها بعد التمرد، فقد أخفق. لقد خلق وحشاً أفلت من سيطرته، وأثار ذعر النخب. لقد شاهد الجميع كيف أصيب الكرملين بالشلل والعجز عن اتخاذ قرار وكيف أن بريغوجين نجا من أي عقوبة حقيقية. ويتساءل الكثيرون حالياً عما إذا كان بوتين هو الزعيم الذي

تحتاجه روسيا في الأوقات الصعبة.

واختتمت ستانوفايا تحليلها، بالقول إن «القوة الرأسية» التي يعتز بها بوتين قد اختفت. وبدلاً من يد قوية، هناك العشرات من أمثال بريغوجين الأقل شأناً، وفي حين أنه ربما يكون من الممكن التنبؤ بهم بشكل أكبر مقارنة بزعيم «فاغنر»، فهم ليسوا أقل خطورة. وكل منهم يدرك الآن أن مرحلة روسيا ما بعد بوتين، قد بدأت - حتى في ظل استمرار وجود بوتين في السلطة - وأن الوقت قد حان لحمل السلاح والاستعداد لمعركة على السلطة.


مقالات ذات صلة

إصرار إدارة بايدن على إنفاق كل مساعدات أوكرانيا قبل تسلم ترمب السلطة

أوروبا وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيان خلال مؤتمر صحافي في كوريا الجنوبية (أ.ف.ب)

إصرار إدارة بايدن على إنفاق كل مساعدات أوكرانيا قبل تسلم ترمب السلطة

قال وزيرا الدفاع الأميركي والأوكراني إنهما ناقشا إطلاق روسيا صواريخ باليستية جديدة والاستعدادات للاجتماع المقبل لمجموعة الاتصال الداعمة لأوكرانيا.

إيلي يوسف (واشنطن)
أوروبا يقف أفراد من الخدمة الروسية على دبابات «T-72» خلال تدريبات عسكرية أجريت في ميدان رماية وسط الصراع بين روسيا وأوكرانيا (رويترز)

أوكرانيا «تصد» محاولة تقدّم روسية في الشرق

أعلنت أوكرانيا اليوم (الثلاثاء)، أن قواتها صدّت محاولة روسية لعبور نهر أوسكيل الذي لطالما عُدّ خط مواجهة في شرق أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا وسائط دفاع جوي أوكرانية من طراز «زد يو 23» المضادة للطائرات تتصدى للمسيرات الروسية (رويترز)

هجوم روسي يترك مدينة تيرنوبل الأوكرانية من دون كهرباء

قالت أوكرانيا اليوم الثلاثاء إن هجوما روسيا بطائرات مسيرة خلال الليل ترك مدينة تيرنوبل في غربها من دون كهرباء.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)

وزيرا دفاع أميركا وأوكرانيا يناقشان «التخطيط الاستراتيجي» للحرب مع روسيا

قال وزيرا الدفاع الأميركي والأوكراني إنهما ناقشا إطلاق روسيا صواريخ باليستية جديدة والاستعدادات للاجتماع المقبل للدول المانحة للأسلحة وخطط المساعدات العسكرية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي في أثينا 26 أكتوبر 2020 (رويترز)

لافروف يتهم الغرب بالسعي إلى وقف إطلاق النار لإعادة تسليح أوكرانيا

اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدول الغربية، الاثنين، بالسعي إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا بهدف إعادة تسليح كييف بأسلحة متطورة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

فرنسا تواجه أزمة سياسية حادة وأصوات تطالب برحيل ماكرون عن الإليزيه

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة
رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة
TT

فرنسا تواجه أزمة سياسية حادة وأصوات تطالب برحيل ماكرون عن الإليزيه

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة
رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة

عندما غادر الرئيس إيمانويل ماكرون باريس متوجهاً إلى المملكة السعودية يوم الاثنين، ترك وراءه حكومة تحكم. وعندما سيعود إلى بلاده سيجد أنها أصبحت بلا حكومة بسبب التصويت على الثقة بها في البرلمان. فقد سارع رئيسها ميشال بارنييه إلى طرح الثقة بحكومته يوم الاثنين، ليستطيع تمرير ميزانية الضمان الاجتماعي من غير مناقشة. إلا أن اليمين المتطرف، ممثلاً بالتجمع الوطني، واتحاد أحزاب اليسار والخضر (الذي يضم الاشتراكيين والشيوعيين وحزب فرنسا الأبية والخضر) سارعا، كلّ من جانبه، إلى طلب التصويت على الثقة. الأمر الذي سيحصل في الرابعة من بعد ظهر الأربعاء.

إيمانويل ماكرون (إلى اليمين) يحيي عن بعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري بمناسبة مؤتمر اقتصادي في الرياض الثلاثاء (أ.ف.ب)

ورغم أنه لا شيء يجمع بين هذين التشكيلين اللذين يقعان على طرفي الخريطة السياسية الفرنسية، فإنهما اجتمعا على إسقاط ميشال بارنييه وحكومته لأسباب متضاربة. والمعروف أن إسقاط الحكومة يفترض الحصول على 289 صوتاً من أصوات النواب، فيما الجمع بين أصوات المجموعتين يوفر ما لا يقل عن 314 صوتاً. وأكدت مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، أن نواب حزبها سيصوتون مع تحالف اليسار لإسقاط بارنييه، ما يعني أن الأخير قضي عليه.

الرئيس ماكرون ينزل مساء الاثنين من الطائرة الرئاسية التي نقلته إلى السعودية التي يزورها لـ3 أيام (أ.ف.ب)

إذا تحقق هذا السيناريو، وهو الأكثر ترجيحاً، يكون بارنييه، المفوض الأوروبي السابق الذي تفاوض مع البريطانيين من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) قد حقّق رقمين قياسيين: الأول، أن عمر حكومته هو الأقصر من بين كافة حكومات الجمهورية الخامسة التي أرسى دعائمها الجنرال شارل ديغول عام 1958. والثاني أنها الحكومة الوحيدة التي تسقط في البرلمان بسبب عجزها عن تجديد الثقة بها منذ ستينات القرن الماضي.

رئيس الحكومة الفرنسية ميشال بارنييه (وسط الصورة) في البرلمان الثلاثاء محاطاً بوزراء حكومته (رويترز)

بارنييه: رهينة لوبن

لا يعني سقوط بارنييه أن الرجل السبعيني الذي يجرّ وراءه تاريخاً سياسياً حافلاً، لم يكن رجل المهمة الشاقة التي أسندها إليه ماكرون. وحقيقة الأمر أن ما يحصل حالياً ليس سوى أحد تداعيات حلّ المجلس النيابي السابق الذي أقدم عليه ماكرون دون سبب واضح.

وأفضت نتيجة الانتخابات النيابية في يونيو (حزيران) الماضي إلى قيام 3 مجموعات نيابية لا تمتلك أي منها الأكثرية المطلقة التي تمكنها من تسلم زمام الحكومة. وبعد أسابيع من المماحكات والتردد، أوكل ماكرون المهمة لبارنييه الذي ينتمي إلى حزب سياسي (اليمين الجمهوري أو الجمهوريون سابقاً) حلّ في المرتبة الرابعة ولم يحصل إلا على 47 نائباً، بينما حصل تحالف اليسار على 193 نائباً، وتحالف الأحزاب الداعمة للرئيس ماكرون على 164 نائباً، واليمين المتطرف على 141 نائباً. ولأن التقليد يقضي بتكليف الحزب أو التجمع الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، فإن ماكرون ناور لأسابيع لاستبعاد اليسار عن السلطة، ونجح في ربط نواب «اليمين الجمهوري» بعربة حزبه من خلال اختيار شخصية تنتمي إلى صفوفه، وحصل على تعهد من زعيمة اليمين المتطرف بألا تطيح سريعاً بالحكومة الجديدة.

مارين لوبن رئيسة المجموعة النيابية لحزب التجمع الوطني وزعيمة اليمين المتطرف داخل قاعة مجلس النواب الثلاثاء (رويترز)

هكذا ولدت الحكومة الجديدة مع لاعبين متلاصقين: الأول، أنها لا تمتلك الأكثرية النيابية، والثاني أنها رهينة ما ستقرره زعيمة اليمين المتطرف. ولأن الوعود في السياسة لا تلزم إلا من يتلقاها، فقد انقلبت لوبن على بارنييه وعلى تعهداتها واتهمت الأخير بأنه صمّ أذنيه عن مطالب حزبها، بينما الحقيقة مغايرة تماماً، إذ تجاوب مع اثنين من 3 طلبات، بل سعى، في ربع الساعة الأخير، إلى الاتصال بها ليعلمها بالتراجع عن رفضه آخر طلباتها الذي يتناول الربط بين مؤشر الغلاء وبين المعاشات التقاعدية.

وقبل ذلك، خضع بارنييه لمطالب القاعدة التي مبدئياً تدعم حكومته. وباختصار، فإن الأخير وجد نفسه في وضع يستحيل معه الاستمرار والمحافظة على ماء الوجه سياسياً، ما دفعه لخيار طرح الثقة، علماً بأن ميزان القوى في البرلمان لا يميل إلى صالحه.

كتلة اليسار في البرلمان (رويترز)

في آخر كلمة له في البرلمان، أطلق بارنييه آخر رصاصاته ساعياً إلى وضع النواب أمام مسؤولياتهم. وقال: «لقد وصلنا إلى ساعة الحقيقة التي تضع كلاً منا أمام مسؤولياته. والآن، تعود إليكم، أنتم نواب الأمة، أن تقرروا ما إذا كان بلدنا بحاجة إلى هذه النصوص المالية الضرورية (ميزانية الرعاية الاجتماعية) المفيدة لمواطنينا أو أنكم تفضلون ولوج أرض مجهولة». وأضاف مقرعاً النواب: «لن يسامحكم الفرنسيون لأنكم فضلتم مصالحكم الشخصية على مصلحة مستقبل الأمة». وكان متوقعاً أن يكرر الأمر نفسه في كلمة له متلفزة، مساء الثلاثاء.

المطالبة باستقالة ماكرون

حقيقة الأمر أن فرنسا، كما ألمانيا، ولجت مرحلة من المطبات الهوائية الحادة. والرئيس ماكرون الذي احتاج لأسابيع طويلة قبل تكليف بارنييه تشكيل الحكومة، سيجد نفسه بمواجهة الصعوبات نفسها، بل إنه في طريق مسدود. فالتوازنات السياسية في البرلمان لن تتغير، ومواقف الكتل الثلاث الرئيسية ثابتة، بمعنى أن أياً منها لا يمكن أن يقبل بالتعاون مع الكتلتين الأخريين.

أعضاء في البرلمان يتوسطهم رئيس الوزراء السابق (إ.ب.أ)

ثم إن تجربة إرضاء لوبن، التي راهن عليها ماكرون وبارنييه، لم تعد متوفرة، إذ «المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين». من هنا، فإن ماكرون الذي لا شيء يمنعه من إعادة تكليف رئيس الحكومة الحالي، قد لا يجد أمامه سوى مخرج ضيق، عنوانه تشكيل «حكومة تكنوقراطية»، بمعنى أن يكون رئيسها وأعضاؤها غير منتمين إلى أي تيار سياسي.

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة إلى الحكومة في الجمعية الوطنية (رويترز)

وليس سراً أن حكومة من هذا النوع ستكون بالغة الضعف وستعمل «بالقطعة» بمعنى أنه سيكون عليها أن تسعى، إزاء أي قرار أو إجراء أو قانون، إلى البحث عن أكثرية أو عن شيء ليس بالضرورة الإجماع أو الموافقة العلنية، بل القبول الضمني فقط. والمعلوم أن حكومات من هذا النوع لا تعمر طويلاً، وليس بمستطاع ماكرون أن يحل البرمان مجدداً إلا في شهر يونيو المقبل، إذ يمنع الدستور رئيس الجمهورية من حلّه للمرة الثانية قبل مرور عام كامل بين الإجراءين، حتى إن وصل إلى قصر الإليزيه رئيس جمهورية آخر.

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبن (إ.ب.أ)

الجديد اليوم أن أصواتاً أكثر فأكثر أخذت تطالب باستقالة ماكرون كمخرج من الأزمة. وحتى اليوم، كانت المطالبة تأتي من جان لوك ميلونشون، زعيم اليسار المتطرف، ومن حزبه «فرنسا الأبية». والحال أن زعيمة اليمين المتطرف انضمت إلى المطالبين بالاستقالة. ويعزو المحللون والمراقبون ذلك للصعوبات التي تواجهها مع القضاء والمحاكم بسبب فضيحة استغلال حزبها، لسنوات، الأموال الممنوحة لنوابه في البرلمان الأوروبي، لأغراض حزبية، وليس لتسهيل عملهم وأنشطتهم كنواب أوروبيين. وطلب الادعاء الفرنسي بإرسالها إلى السجن 5 سنوات، منها سنتان فعليتان يمكن تحويلهما إلى ارتداء السوار الإلكتروني وحرمانها من الترشح 5 سنوات نافذة، ما يعني القضاء على مستقبلها السياسي.