بعد مرور نحو شهر على تمرد يفغيني بريغوجين الذي استمر فترة وجيزة، من الواضح أن تداعيات هذا التمرد كانت مختلفة تماماً عما توقعه الكثيرون؛ فلم تتم إعادة هيكلة مجموعة «فاغنر» بشكل جذري، ولم يتم قتل بريغوجين أو سجنه، كما لم تكن هناك عملية تطهير للجيش من المتعاطفين مع «فاغنر»، ولم يتم اتخاذ أي خطوات كبيرة ضد «الوطنيين المتشددين» في البلاد (باستثناء اعتقال القائد الانفصالي السابق في دونباس إيغور جيركين).
وقالت تاتيانا ستانوفايا في تحليل نشره معهد كارنيغي للسلام الدولي، إن روسيا استأنفت الحياة «الطبيعية». ومع ذلك، من الصعب التخلص من الشعور بأن النظام لن يكون كما كان على الإطلاق؛ فقد غير تمرد بريغوجين نظرة النخب الروسية للعالم، وسوف يلقي بظلاله على المسار السياسي للبلاد لسنوات قادمة.
ورداً على سؤال بعد التمرد عن سبب اتخاذه قرار السيطرة على مقر الجيش في مدينة «روستوف أون دون»، وإرسال رتل من القوات صوب موسكو، تردد أن بريغوجين قال: «لقد فقدت السيطرة على نفسي». ويبدو هذا معقولاً.
لقد تم إيقاف ممارسة «فاغنر» المثيرة للجدل للغاية والمتمثلة في تجنيد جنود جدد من سجون روسيا في يناير (كانون الثاني)، وتردد أن الجيش الخاص كان يفتقر بشدة إلى الذخيرة، في حين تم قطع قنوات اتصال بريغوجين مع بوتين. ويبدو أن القشة الأخيرة كانت مطالبة مقاتلي «فاغنر» بالتوقيع على عقد مع وزارة الدفاع.
وقالت ستانوفايا، إن التمرد نفسه حدث بسرعة مذهلة، وهو فعل «فاغنر» ورد فعل بوتين الغاضب وإصابة بريغوجين بالذعر عندما وجد نفسه على وشك السيطرة على موسكو، والاتفاق الذي تم التوصل إليه بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وقرار «فاغنر» بالتراجع. وكان المشهد الأخير هو اجتماع يوم 29 يونيو (حزيران) مع بوتين، والذي يبدو أن قادة «فاغنر» اضطروا خلاله إلى الاعتذار، ووافقوا على الانتقال إلى بيلاروسيا.
وبالنظر إلى الماضي، يبدو أن الأمر كله كان مجرد سوء تفاهم. فمن ناحية، فشل بوتين في فهم مدى التطرف الذي وصل إليه بريغوجين، وسمح للنزاع بأن يتصاعد بتداعيات دموية. ومن ناحية أخرى، بالغ بريغوجين في تقدير أهميته، وأخطـأ باعتقاده أنه يمكن أن يضغط على بوتين لإعادة تغيير القيادة العسكرية وينقذ «فاغنر» من أن يصبح بلا أهمية.
ورأت ستانوفايا، الزميلة البارزة في مركز كارنيغي روسيا أوراسيا، أنه على السطح، يبدو أنه تم حل كل شيء، وأن بريغوجين يفهم أن محاولته لاستخدام القوة كانت خطأ، وقرر بوتين أن بريغوجين كان مجرد رجل وطني نسي نفسه مؤقتاً وسط أهوال الحرب، وليس خائناً خطيراً.
ومع ذلك، خسر بريجوجين أصولاً في أعقاب التمرد (إمبراطوريته الإعلامية وجزء من أعماله التجارية - والأكثر أهمية - سمعته كبطل حرب) وتم نفيه إلى بيلاروسيا. ويبدو أن الكرملين يحاول تحطيم مجموعة «فاغنر». ويتم الضغط على قادة المجموعة للخدمة تحت قيادة قائد جديد هو أليكسي تروشيف، الذي يبدو أنه وقع عقداً مع وزارة الدفاع، ووفقاً لبوتين تم تعيينه خليفة لبريغوجين.
ورأت ستانوفايا أن كيفية انشغال عدة آلاف من جنود «فاغنر» في بيلاروسيا تشكل أزمة بالنسبة لبوتين وصداعاً بالنسبة للوكاشينكو. ولكن يبدو أن الكرملين قد قرر أن المتمردين
السابقين لا يمكن أن يبقوا في روسيا.
وحتى قبل أن يهدأ الغبار، من الواضح أن تمرد بريغوجين كان أهم حدث سياسي محلي في روسيا منذ تولي بوتين السلطة قبل نحو ربع قرن. ويعتقد الكثير من الناس وهو اعتقاد صحيح، أن المستفيد الوحيد هو وزارة الدفاع؛ فقد منح التمرد لوزير الدفاع سيرغي شويغو فرصة لإجراء تحقيق بشأن حلفاء بريغوجين داخل القوات المسلحة (وأهمهم الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي كان الوسيط الرئيسي بين وزارة الدفاع و«فاغنر»). ومع ذلك، فقد أضر التمرد بسمعة قادة الجيش الروسي وكشف عن عدم الرضا الذي تراكم بين صفوف عناصر الجيش.
وبعد خلاف في وقت سابق من شهر يوليو (تموز)، مع رئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف، تمت إقالة الميجور جنرال إيفان بوبوف، قائد جيش الأسلحة الموحد الـ58 الذي يحظى باحترام كبير، من منصبه وإرساله للخدمة في سوريا. كما تنتشر شائعات على القنوات الروسية على تطبيق «تلغرام» بشأن إقالة الميجور جنرال فلاديمير سيليفرستوف، قائد الفرقة 106 المحمولة جواً، والكولونيل جنرال ميخائيل تيبليتسكي، قائد القوات المحمولة جواً في روسيا.
وتبدو هذه التغييرات بمثابة نتيجة للضرر الذي لحق بسلطة كل من غراسيموف وشويغو أكثر منها تطهير للجيش من حلفاء بريغوجين. ومن الممكن أن يحتاج بوتين مع مرور الوقت أن يقوم بتغيير الرجلين.
ورأت الباحثة الروسية أنه على الرغم من أن العديد من الأشخاص ظنوا أن الكرملين سيسعى إلى استعادة احتكار العنف بعد التمرد، يبدو أن العكس هو الذي يحدث، وبالفعل يمكن القول إن هناك عملية تجري حالياً «لتقسيم» الأجهزة الأمنية الروسية. وستتسبب التصدعات المتزايدة في بنية الأمن في البلاد في حدوث صراعات جديدة واشتداد المنافسة بين الأجهزة، وسيكون لهذا عواقب مزعزعة للاستقرار.
وكان المستفيدون الحقيقيون من التمرد هم في الواقع أجهزة الاستخبارت؛ فقد تمكن جهاز الأمن الاتحادي أخيراً من اعتقال جيركين، أحد أكثر «الوطنيين المتطرفين» تشدداً. وفي حين صدر بحقه حكم (غيابي) في الغرب بالسجن مدى الحياة لدوره في إسقاط الطائرة «إم إتش 17» فوق شرق أوكرانيا في عام 2014، والذي أسفر عن مقتل 298 شخصاً، إلا أنه متهم في روسيا بالتشدد، حيث انتقد بوتين بسبب الطريقة التي يتم بها شن الحرب في أوكرانيا.
ورأت تاتيانا ستانوفايا أن الشخص الأكثر معاناة نتيجة للتمرد هو بوتين نفسه. ومهما كانت الثقة التي يشعر بها بعد التمرد، فقد أخفق. لقد خلق وحشاً أفلت من سيطرته، وأثار ذعر النخب. لقد شاهد الجميع كيف أصيب الكرملين بالشلل والعجز عن اتخاذ قرار وكيف أن بريغوجين نجا من أي عقوبة حقيقية. ويتساءل الكثيرون حالياً عما إذا كان بوتين هو الزعيم الذي
تحتاجه روسيا في الأوقات الصعبة.
واختتمت ستانوفايا تحليلها، بالقول إن «القوة الرأسية» التي يعتز بها بوتين قد اختفت. وبدلاً من يد قوية، هناك العشرات من أمثال بريغوجين الأقل شأناً، وفي حين أنه ربما يكون من الممكن التنبؤ بهم بشكل أكبر مقارنة بزعيم «فاغنر»، فهم ليسوا أقل خطورة. وكل منهم يدرك الآن أن مرحلة روسيا ما بعد بوتين، قد بدأت - حتى في ظل استمرار وجود بوتين في السلطة - وأن الوقت قد حان لحمل السلاح والاستعداد لمعركة على السلطة.