في أسباب «حرب الاستنزاف» الروسية – الأطلسية على الأرض الأوكرانية

دمار في خاركيف الأوكرانية بعد قصف روسي طال مؤسسة تعليمية (أ.ف.ب)
دمار في خاركيف الأوكرانية بعد قصف روسي طال مؤسسة تعليمية (أ.ف.ب)
TT

في أسباب «حرب الاستنزاف» الروسية – الأطلسية على الأرض الأوكرانية

دمار في خاركيف الأوكرانية بعد قصف روسي طال مؤسسة تعليمية (أ.ف.ب)
دمار في خاركيف الأوكرانية بعد قصف روسي طال مؤسسة تعليمية (أ.ف.ب)

لا شك في أن مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) موضوعة في ثلاجة، لا لأن نظام هذا الحلف العسكري – السياسي يمنع انضمام دولة هي في حالة حرب فحسب، بل لأن النقاش بين دوائر صنع القرار ونخب الفكر السياسي الاستراتيجي في الغرب لم تصل إلى توافق على الأمر.

في النقاش المستمر عبر أورقة الحكومات والمنتديات السياسية، والمراكز الأكاديمية، والصفحات الإعلامية، ثمة من يقول إن أكبر تهديد لأمن أوروبا اليوم هو «الإمبريالية» الروسية. ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن موسكو لا تنظر إلى اتجاه كييف غرباً ورغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو باعتبارهما تهديداً للأمن الروسي، بل ترى أن أوكرانيا يجب ألا تكون موجودة كدولة مستقلة. ويستدل أصحاب هذا الرأي على ذلك بالقول إن مختلف الاستطلاعات تُظهر أن أكثر الروس لا يرغبون في رؤية الأراضي التي احتلها جيشهم تعود إلى أوكرانيا.

ويضيف هؤلاء «الأطلسيون الصقور» أن الناتو لم يخطئ عندما أورد في إعلان قمة بوخارست عام 2008 أن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الحلف، علماً أن ذلك الكلام بقي نظرياً. ويؤكدون أن الطريقة الوحيدة لضمان الأمن والاستقرار في أوروبا هي أن تصير أوكرانيا – قبل سواها - أطلسية.

في معسكر الصقور، يقول أستاذ العلاقات الدولية الأكاديمي الأميركي جيمس غولدغايغر إن أوكرانيا إذا انضمت إلى الناتو (بعد انتهاء الحرب)، ستجعل الحلف يواجه خياراً صعباً عندما تقرر روسيا في المرة المقبلة مهاجمة جارتها: سيكون على الناتو أن يقرر ما إذا كان سيخوض حرباً مع روسيا أو يتغاضى عن المادة 5 من ميثاقه التي تنص على أن أي هجوم على عضو واحد في الحلف يُعتبر هجوماً على الجميع.

راجمة صواريخ أوكرانية على جبهة باخموت (أ.ب)

ويضيف غولدغايغر أنه يجب النظر إلى الاحتمال السابق ذكره من منظار بانورامي واسع على النحو الآتي: «روسيا الإمبريالية ليست راضية عن العيش داخل حدود عام 1991 المعترف بها دولياً. ولو فعلت لكان الغرب مستعداً لمناقشة المصالح الأمنية القومية المشروعة لروسيا في ضمان أمن حدودها».

ويعتبر أن روسيا اختارت عدم مهاجمة عضو في الحلف عسكرياً لأن القيام بذلك سيجعلها تدخل مباشرة في حرب مع الناتو. وبالتالي، لو كانت أوكرانيا عضواً في الناتو لما هاجمتها روسيا. وبالذهاب أبعد في هذا المنطق، تغدو الطريقة الوحيدة للتعامل مع هذا التهديد على المدى الطويل هي ضم أوكرانيا إلى الناتو لمنع اي غزو روسي في المستقبل.

 

*أصل المشكلة

هل يستقيم منطق القول إن روسيا استضعفت أوكرانيا لأنها ليست أطلسية ولو كانت كذلك لما هاجمتها؟!

ربما يصح الاستنتاج بناء على هذا المنطق أن الناتو فكّر في تسريع خطوات ضم أوكرانيا – بعد انقلاب الحكم فيها من ضفة إلى ضفة عام 2014 - لكي يحرج روسيا ويمنعها من التدخل عسكرياً في الأرض المجاورة مخافة إشعال حرب روسية – أطلسية. واستطراداً يجوز القول إن هذه الفكرة – الخطة لم تتحقق لأن سيف روسيا سبق العزل الأطلسي عبر ضم شبه جزيرة القرم وقيام حركة التمرد الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك.

... قد يخبرنا التاريخ يوماً الحقيقة.

ببساطة أكبر، يجدر السؤال: ألم يؤد توسيع حلف شمال الأطلسي من 16 دولة إلى 31 إلى تأجيج التوتر مع روسيا، خصوصاً أن غالبية الدول التي انضمت بعد سقوط الستار الحديدي الشيوعي عام 1990 كانت تدور في فلك موسكو أو مقرّبة منها؟

في مقال نُشر قبل نحو عشرة أشهر، كتب جوزف ناي عالم السياسة المخضرم الذي شغل مناصب حساسة في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وكان وروبرت أوين كيوهاين مؤسسَي نظرية النيوليبرالية في العلاقات الدولية، أن فهم الأسباب التي أدت إلى حرب أوكرانيا يقتضي التمييز بين الأسباب العميقة والوسيطة والفورية للنزاع. ويؤكد أنه حتى مع اجتماع الأنواع الثلاثة لا تكون الحرب أمراً محتماً، بل يمكن دائماً تجنّبها.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (إ.ب.أ)

وأضاف ناي أنه بينما يرى كثر في الغرب أن الحرب التي بدأت في 24 فبراير (شباط) 2022 هي صنيعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يرد آخرون الصراع إلى نهاية الحرب الباردة وفشل الغرب في دعم روسيا بشكل كافٍ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويشرح أن الأنواع الثلاثة من الأسباب تشبه عملية إشعال النار في كومة من الحطب. فالحطب يمثل الأسباب العميقة، والمادة القابلة للاشتعال تمثل الأسباب الوسيطة، وعود الثقاب يمثل الأسباب الفورية المباشرة...

لا خلاف على أن فلاديمير بوتين أشعل عود الثقاب، لكن ماذا عن الطبقتين الأخريين من الأسباب؟

 

*روسيا الكبرى؟

في الأسباب الوسيطة للحرب، يمكن التحدث عن خيبة أمل بوتين، المسؤول السابق في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي)، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضمور النفوذ الروسي في العالم مقابل أحادية القطب التي تمتعت بها الولايات المتحدة أكثر من عقدين من الزمن.

لكنْ مع اشتداد العود الاقتصادي لروسيا بفضل ما منّت به الطبيعة من نفط وغاز، كان استيقاظ الأحلام أمراً طبيعياً. ولعل ضم شبه جزيرة القرم، أو استعادة هذه المنطقة كما يحلو للروس أن يقولوا، كان تجربة لجس نبض اوكرانيا ومن ورائها الغرب وقياس رد الفعل المحتمل على توسع ميداني روسي.

وفي الأسباب الوسيطة أيضاً للحرب، وفق جوزف ناي، أن الولايات المتحدة لم تَصدق عندما طمأنت الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى أن الناتو لن يتوسع، فـ«العائلة الأطلسية» تعاظمت بسرعة وتعاظم معها توجّس موسكو من محاصرتها وخنقها وربما تفجيرها من الداخل. وكان إعلان قمة بوخارست 2008 «القشة الأطلسية» التي قصمت ظهر «البعير الروسي»...

أما في الأسباب العميقة للحرب، فيعود جوزف ناي إلى ما أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي من فوضى في روسيا التي لم تتمكن من تحقيق الانتقال السلس من نظام اقتصادي اشتراكي موجّه وشديد المركزية إلى اقتصاد السوق، فكان أن انتشر الفساد وسوء الإدارة، فيما راحت تتركز القوة الاقتصادية في أيدي استغلاليين من الأوليغارشيين الذين أثروا على حساب مواطن خالَ أن البحبوحة آتية بمجرد سقوط النظام الشيوعي.

في ظل هذا الاهتراء لجأ الرئيس الضعيف يلتسين إلى رجل الاستخبارات القوي فلاديمير بوتين ليعيد فرض النظام ويحمي البلد من شرور الانهيار الوشيك... ولم يكن في الحقيقة صعباً على الرجل الصارم صاحب الرؤية أن يصعد سلالم السلطة بسرعة ليحكم قبضته على البلاد منذ أواخر تسعينات القرن الماضي. (بالمناسبة، الاسم فلاديمير المنتشر في العالم السلافي يعني «الحاكم الحكيم» وكذلك «حاكم العالم»!).

 

جنديان أوكرانيان في عربة «فلاكبانزر غيبارد» ألمانية مجهزة بمدفعين مضادين للطائرات يحرسان أجواء كييف من المسيّرات الروسية (أ.ف.ب)

*خليط متفجّر

أهي الإمبريالية الروسية أم الإمبريالية الأطلسية؟

أيهما أدت إلى حرب أوكرانيا؟

الأرجح أن الآفتين اجتمعتا في خليط متفجّر لتوقعا أوروبا في أخطر صراع منذ الحرب العالمية الثانية. صراع لا يبدو في الأفق ما يبشّر بنهاية قريبة له. فالسلاح يتدفق على أوكرانيا التي فشلت في هجوم مضاد لم يُعِد إلى «سيادتها» إلا بعض البلدات والدساكر، بحيث إذا استمر على هذه الوتيرة سيحتاج إخراج الروس من الأراضي التي غنموها في بداية الحرب إلى سنوات...

وفي المقابل، تبدو روسيا غير قادرة على الحسم ومستعدة لحرب طويلة الأمد لا لمجرّد «عملية عسكرية خاصة» كما سماها بوتين في البداية، موحياً أنها ستكون سريعة ربما على غرار الحرب الروسية – الجورجية التي لم تستغرق أكثر من خمسة أيام في أغسطس (آب) 2008 وانتهت بنصر روسي في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

في الواقع، يبدو أن المواجهة على الأرض الأوكرانية هي حرب استنزاف بين الناتو – بجنود أوكرانيين – وروسيا: اشتباكات وقصف متبادل وهجمات فاشلة، واختراقات بالمسيّرات تروّع المدنيين ولا تغيّر شيئاً في الميدان.

أفراد من أجهزة الإنقاذ بعد إصابة مبنى للمكاتب في موسكو بهجوم شنته مسيّرات أوكرانية (أ.ف.ب)

هي حرب «خنادق» عصرية، تدور في ظل سباقات متعددة على النفوذ العالمي والكسب الاقتصادي، فيما مصانع السلاح تعمل بأقصى سرعة لتغذية الجنون المتمادي، والعالم يئنّ اقتصادياً، والاصطفافات والمحاور تتبلور بحيث يتعاظم خطر اندلاع نزاعات وحروب في بقاع أخرى من عالم يواجه في الوقت نفسه حرباً تشنّها الطبيعة الغاضبة عليه...

عالم تكثر فيه صراعات التحكّم والحكم، فيما يحتاج إنقاذه إلى حسن الحوكمة وعمق الحكمة.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد سبائك ذهبية في مكتب «غولد سيلفر سنترال» في سنغافورة (رويترز)

الذهب يستعد لأفضل أسبوع له في عام

ارتفعت أسعار الذهب 1 في المائة وكانت في طريقها لتسجيل أفضل أسبوع لها في عام، الجمعة، بدعم من الطلب على الملاذ الآمن وسط التصعيد المستمر بين روسيا وأوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ لقطة من فيديو تظهر القصف الذي طال مدينة دنيبرو الأوكرانية بصاروخ بالستي جديد متوسط المدى روسي (أ.ب)

الولايات المتحدة تؤكد أنها «لا تسعى إلى حرب» مع روسيا

أعلنت الولايات المتحدة الخميس أنها "لا تسعى إلى حرب مع روسيا"، متهمة موسكو بـ"إثارة التصعيد" في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)

كييف تتهم موسكو باستهدافها بصاروخ «عابر للقارات»

دوت صافرات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا، فجر أمس (الخميس)، بعدما أفادت السلطات الأوكرانية بأن روسيا أطلقت صاروخاً عابراً للقارات من دون رؤوس نووية على أراضيها

«الشرق الأوسط» (كييف - موسكو)
أوروبا لقطة أرشيفية لصاروخ بالستي روسي أطلق في مارس الماضي خلال تجربة للجيش (أ.ف.ب)

«الناتو»: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

أكّد حلف شمال الأطلسي الخميس أنّ الصاروخ البالستي الفرط صوتي الجديد الذي أطلقته روسيا على أوكرانيا "لن يغيّر مسار الحرب".

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

إخلاء جزئي لمطار غاتويك في لندن بعد اكتشاف «جسم مشبوه»

صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
TT

إخلاء جزئي لمطار غاتويك في لندن بعد اكتشاف «جسم مشبوه»

صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)
صورة أرشيفية لمسافرين في مطار غاتويك (أ.ب)

أخلى مطار غاتويك في لندن، صباح اليوم (الجمعة)، جزءاً من مبنى الركاب الجنوبي كإجراء احترازي، أثناء التحقيق في حادث أمني. وقال المطار، في بيان على منصة «إكس» للتواصل الاجتماعي، إنه لن يتمكن أحد من دخول مبنى الركاب الجنوبي أثناء الحادث. وأضاف المطار في بيان أن «سلامة وأمن ركابنا وموظفينا على رأس أولوياتنا. إننا نعمل جاهدين لحل المشكلة، بأسرع وقت ممكن».

وبينما لم يتضمن البيان مزيداً من التفاصيل عن طبيعة الحادث، أفادت تقارير إعلامية عن توجّه فريق «تفكيك المتفجّرات» إلى المطار بعد اكتشاف جسم مشبوه. كما عُلّقت الرحلات عبر القطار وبعض خطوط الحافلات إلى المطار. وقالت شركة السكك الحديدية الوطنية: «في الوقت الحالي، يتم إخلاء المحطة والمطار، بينما تتعامل الشرطة مع حادث»، وأوصت المسافرين بتأخير رحلاتهم.

وقبل ساعات قليلة، أعلنت السلطات عن حادث أمني منفصل قرب السفارة الأميركية. ونفّذت الشرطة البريطانية «تفجيراً مُحكماً» لجسم مشبوه قرب السفارة الأميركية، في إطار تحقيقات بشأن تقارير عن طرد مشبوه في المنطقة. وتم إغلاق طريق على الجانب الغربي من السفارة.

انتشار أمني خارج السفارة الأميركية في لندن الجمعة (رويترز)

وقالت شرطة العاصمة لندن إنها تواصل التحقيق في الواقعة. من جهتها، ذكرت السفارة، في بيان عبر منصة «إكس»: «تُحقّق السلطات المحلية بشأن طرد مشبوه خارج السفارة الأميركية في لندن». وتابع البيان أن «شرطة العاصمة موجودة وأغلقت طريق بونتون كإجراء احترازي».