أوكرانيا تلجأ إلى التعويض التكتيكي

تستمرّ بجس النبض على طول الجبهة لكنها خفّفت من محاولات الخرق لأنها مُكلفة

جنديتان روسيتان خلال تدريب على استخدام المسيّرات في شبه جزيرة القرم يوم 22 يوليو الحالي (رويترز)
جنديتان روسيتان خلال تدريب على استخدام المسيّرات في شبه جزيرة القرم يوم 22 يوليو الحالي (رويترز)
TT

أوكرانيا تلجأ إلى التعويض التكتيكي

جنديتان روسيتان خلال تدريب على استخدام المسيّرات في شبه جزيرة القرم يوم 22 يوليو الحالي (رويترز)
جنديتان روسيتان خلال تدريب على استخدام المسيّرات في شبه جزيرة القرم يوم 22 يوليو الحالي (رويترز)

عند عدم تكافؤ الفرص بين المتقاتلين، وعندما يكون هناك خلل كبير في موازين القوى، وبحيث لا يمكن التعويض، تلجأ الجيوش عادة إلى الحلول التكتيكيّة كتعويض عن الخلل التقنيّ - العدديّ.

وهذا الأمر ليس حكراً على الفريق الأضعف في معادلة الحرب، بل هو سلوك يتّبعه الأقوى. وهنا، تظهر عبقرية القيادات العسكريّة في ابتكار الحلول التكتيكيّة. وعند الحديث عن القيادات العسكريّة، فهذا لا يعني أنها فقط القيادات في مركز القرار الأعلى تراتبيّاً في هرميّة الجيوش؛ فالحرب كما نعرف لها 3 مستويات: الاستراتيجيّ، العملانيّ والتكتيكي. ومن المفروض، وكي تتحقّق الأهداف العسكريّة، أن تعمل هذه المستويات الثلاثة بطريقة متناغمة، متكاملة. فالمستوى الاستراتيجيّ هو الذي يُحدد خطط الحرب الكبرى، وتنتقل إلى التنفيذ العملانيّ، على مسرح الحرب، أو المعارك، لتصل إلى المستوى التكتيكيّ حيث تدور المعارك الطاحنة، لكن هذه المستويات الثلاثة، ليست منفصلة عن بعضها البعض؛ فالحرب تدور في هذه المستويات كلّها، وفي نفس الوقت. فالقرار ينطلق من المستوى الاستراتيجيّ، نزولاً إلى العملاني، ومنه إلى التكتيكيّ. هذا هو المسار المُحدّد والمنطقيّ من الأعلى إلى الأسفل. وعند وصوله إلى أسفل الترتيب، يعود هذا المسار، لينعكس صعوداً، مُحمّلاً بالبيانات الكثيفة، والكبيرة، والتي تصف وتشرح حال القتال على المستوى الأدنى. إذن هناك ديناميكيّة مستمرّة بين صورة الحرب الصغرى (الميكرو). وبين صورة الحرب الكبرى (الماكرو). وكلّما كان هناك تجانس بين الصورتين، وكلّما كانت البيانات المُحمّلة صعوداً سريعة ودقيقة، كانت القدرة على التأقلم مع مجريات الحرب أدقّ وأسرع.

ألسنة النار تتصاعد من موقع تخزين ذخائر انفجرت في حقل تدريب عسكري بشبه جزيرة القرم يوم 19 يوليو الحالي (أ.ف.ب)

التأقلم في الحرب الأوكرانيّة

لكل مرحلة من الحرب الأوكرانيّة «تأقلمها الخاص بها». في المرحلة الأولى للحرب، ابتكرت أوكرانيا تكتيكاً ضدّ جحافل الجيش الروسيّ عبر استنزافه خلال مساره وتقدّمه العسكريّ إلى العاصمة كييف، فضربت لوجيستيّته، واعتمدت حرب العصابات ضد قوافله.

غيّر الجيش الروسي تكتيكه، وانتقل إلى نقطة القوّة لديه، فذهب إلى إقليم الدونباس حيث له قواعد عسكريّة جاهزة، فحقّق بعض المكاسب في مدينتيْ سيفيردونتسك وليسيشانسك.

غيّر الجيش الأوكرانيّ تكتيكه فاعتمد استراتيجيّة المنع والحرمان من اللوجيستيّة للجيش الروسيّ، وذلك عبر الاستغلال الأقصى لراجمات الهايمارس (مدى 80 كلم)، فحقّق مكاسب في كلّ من إقليم خاركيف، ومدينة خيرسون.

غيّر الجيش الروسيّ تكتيكه، فبدأ يُخزّن ذخيرته، ومراكز الثقل العسكريّة لديه على مسافة تبعد عن الجبهة أكثر من 80 كلم. كان الهدف حرمان الجيش الأوكراني من التفوّق النوعيّ في السلاح، لكن هذا التكتيك عقدّ عمل القوات الروسيّة خصوصاً سلاح المدفعيّة؛ لأن مخازن الذخيرة أصبحت بعيدة عن الجبهة.

بدأ الهجوم الأوكراني المضاد منذ أكثر من شهر، لكنه اصطدم بجيش روسيّ تعلّم من أخطائه السابقة، فاعتمد تكتيكاً جديداً يقوم على: خلق عمق دفاعيّ مرن بعمق 30 كلم، وعلى طول الجبهة الممتدّة على 900 كلم (المساحة 27000 كلم2). في هذا العمق، زرع الجيش الروسيّ الألغام المضادة للدبابات، والأشخاص وبشكل مُكثّف جدّاً. أضاف إلى الألغام، الحفر المضادة للدبابات، كما الخنادق.

وبسبب ذلك، غيّر الجيش الأوكراني تكتيكه. وبدّل تكتيك الخرق في عمق الدفاعات الروسيّة والمُكلفة جدّاً. لكن كيف؟

الاستمرار بجس النبض على طول الجبهة بهدف إيجاد وتحديد نقاط الضعف الروسيّة، العمل عليها، وإحداث الخرق إذا أمكن.

الاستمرار بمحاولة استرجاع مدينة بخموت، لأنها المكان الوحيد حالياً للجيش الأوكرانيّ حيث يمكن تحقيق إنجاز. وهي تعد استمراراً للمعركة مع قوات «فاغنر» التي استولت على المدينة، وانسحبت منها، وسلمتها للجيش الروسي.

بدل استخدام كاسحات الألغام، اعتمد الجيش الأوكراني سلاح الهندسة لنزع الألغام، إما يدويّاً، وإما عبر استخدام الشحنات الطوليّة المُتفجّرة. تعمل هذه الشحنات الطوليّة على الشكل التالي (باختصار): إنها كوابل معبأة بالمتفجرات، تُرمى على مسافة 100م أمام القوى المتقدّمة لتنفجر. وعند انفجارها، تُفجّر معها كل الألغام المزروعة، فتفتح طريقاً بطول (100م وعرض X 7 أمتار)، لكن حجم وعدد الألغام الروسيّة المزروعة، يُشكّل عبئاً كبيراً على القوات الاوكرانيّة.

جسر كيرش في شبه جزيرة القرم تعرض لهجوم يُعتقد أن أوكرانيا وراءه يوم 17 يوليو الحالي (رويترز)

تكتيك الحرمان والمنع

تستمرّ القوات الأوكرانيّة بجس النبض على طول الجبهة، لكنها خفّفت من محاولات الخرق بالقوّة لأنها مُكلفة. وعادت إلى اعتماد تكتيك «الحرمان والمنع» للقوات الروسية المنتشرة على طول الـ900 كلم، خصوصاً في الجنوب. هذا مع البدء باستعمال القنابل العنقوديّة التي أتت من أميركا. لكن كيف؟

ضرب طرق المواصلات واللوجيستيّة، مؤخّراً جسر كيرش المهمّ جداّ.

مهاجمة القواعد العسكريّة الروسيّة خصوصاً في القرم، لأن شبه الجزيرة تعد العمق الاستراتيجي الأهم للقوات الروسيّة في أوكرانيا.

آخر محاولة كانت الحريق الذي شبّ في قاعدة عسكريّة مهمّة هي قاعدة «كيروفسكي». وسواء كان هذا الحريق مفتعلاً، أو بسبب خطأ بشري، فالمستفيد الأوّل هو الجيش الأوكرانيّ؛ إذ يكفي أن نلقي نظرة على الموقع الجغرافيّ لهذه القاعدة لنتبيّن الأمور التالية: إنها على الطريق الذي يصل جسر كيرش بداخل القرم حتى قاعدة سيفاستوبول غرباً. وهي على طريق الذي يذهب شمالاً إلى العقدة - المحور الأهم في القرم وهي مدينة «دزانكوي» (استُهدفت المدينة سابقاً). من دزانكوي، يمكن الذهاب الى زابوريجيا شمالاً عبر جسر «شونهار» والذي استهدف سابقاً أيضاً. كما يمكن من دزانكوي الاتجاه إلى إقليم خيرسون عبر مدينة أرميانسك (استهدفت سابقاً).

تزامنت هذه العمليات مع انسحاب روسيا من اتفاق تصدير القمح. خلق هذا الانسحاب ديناميكيّة جديدة للحرب في البحر الأسود. لكن التركيز الأوكراني اليوم مُنصبّ على شبه جزيرة القرم.


مقالات ذات صلة

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أوروبا أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

قرر الاشتراكيون الديمقراطيون دعم أولاف شولتس رغم عدم تحسن حظوظ الحزب، الذي تظهر استطلاعات الرأي حصوله على نحو 15 في المائة فقط من نوايا التصويت.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا تعيد للواجهة المبادرة العراقية للتطبيع مع سوريا بعد موقف روسيا

أعادت تركيا إلى الواجهة مبادرة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني للوساطة مع سوريا بعد التصريحات الأخيرة لروسيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا المرشح المؤيّد لروسيا كالين جورجيسكو يتحدث للإعلام بعدما ترشح بوصفه مستقلاً للانتخابات الرئاسية في بوخارست 21 أكتوبر 2024 (أ.ب)

رومانيا: مفاجأة روسية في الانتخابات الرئاسية

تُعد نتيجة الانتخابات بمثابة زلزال سياسي في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 19 مليون نسمة، وبقي إلى الآن في منأى عن المواقف القومية على عكس المجر أو سلوفاكيا.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)
أوروبا أوكراني في منطقة دمّرها هجوم صاروخي في أوديسا الاثنين (رويترز) play-circle 01:26

الكرملين: دائرة ترمب تتحدّث عن سلام وبايدن يسعى للتصعيد

أكد الكرملين أن الرئيس فلاديمير بوتين أشار مراراً إلى أن روسيا مستعدة للحوار بشأن أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (موسكو - كييف)
شؤون إقليمية إردوغان خلال استقباله الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته بالقصر الرئاسي في أنقرة الاثنين (الرئاسة التركية)

إردوغان بحث مع روته القضايا الأمنية والإقليمية المهمة لـ«الناتو»

بحث الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته عدداً من الملفات الأمنية والقضايا التي تهم الحلف.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
TT

شولتس مرشح حزبه للانتخابات المبكرة في ألمانيا

أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)
أولاف شولتس يتحدث بعد اختياره مرشحاً للانتخابات المبكرة في برلين الاثنين (رويترز)

اختار الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا رسمياً، الاثنين، المستشار أولاف شولتس مرشحاً له للانتخابات المبكرة المقررة في فبراير (شباط) على رغم تراجع شعبيته إلى مستويات غير مسبوقة بعد انهيار ائتلافه الحكومي.

وقال مصدر مقرب من الحزب اليساري الوسطي لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن قيادته عبّرت «بالإجماع» عن تأييدها شولتس. وسيصادق أعضاء الحزب على الترشيح خلال مؤتمر في 11 يناير (كانون الثاني).

وكان شولتس (66 عاماً) قد أعلن رغبته في الترشح عن حزبه بعد انهيار ائتلافه الحكومي مع حزب الخضر والليبراليين في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني)، وواجه ضغوطاً داخل حزبه لترك منصبه لوزير الدفاع بوريس بيستوريوس الذي يتمتع بشعبية.

وزير الدفاع بوريس بيستوريوس الذي يتمتع بشعبية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (أ.ف.ب)

وقرر الاشتراكيون الديمقراطيون دعم أولاف شولتس رغم عدم تحسن حظوظ الحزب، الذي تظهر استطلاعات الرأي حصوله على نحو 15 في المائة فقط من نوايا التصويت.

وحصل ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي المعارض المحافظ على أكثر من ضعف هذه النسبة (33 في المائة)، كما يتقدم «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف على حزب شولتس حاصداً 18 في المائة من نوايا التصويت.

وكتبت مجلة «دير شبيغل» الألمانية أن أولاف شولتس هو «على الأرجح المرشح الأكثر ضعفاً وأقل شخصية مناسبة لتولي منصب المستشار رشحها الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الإطلاق».

انهار الائتلاف الحكومي الألماني بزعامة شولتس، الذي تولى السلطة منذ نهاية عام 2021، بعد إقالة المستشار وزير المال الليبرالي كريستيان ليندنر إثر خلافات عميقة حول الميزانية والسياسة الاقتصادية التي يجب اتباعها، في خضم معاناة أكبر اقتصاد في أوروبا من أزمة صناعية.

«مستشار السلام»

ويكرر شولتس الهادئ الطباع قناعته بقيادة حزبه إلى النصر مرة أخرى، مذكراً بفوزه في انتخابات عام 2021 بخلاف كل التوقعات؛ إذ استفاد إلى حد كبير من انقسامات في المعسكر المحافظ.

المستشار أولاف شولتس ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس بعد إعلان فوز الأول بترشيح الحزب ببرلين الاثنين (رويترز)

وتتمثل استراتيجيته هذه المرة، في تقديم نفسه على أنه رجل ضبط النفس في الدعم العسكري لأوكرانيا على أمل الاستفادة من النزعة إلى السلام المتجذرة لدى الألمان منذ الفظائع النازية، ومن أصوات المؤيدين لروسيا.

وأشار استطلاع حديث أجراه التلفزيون العام «آي آر دي» ARD، إلى أن 61 في المائة ممن شملهم يؤيدون قرار شولتس بعدم تزويد أوكرانيا بصواريخ «توروس» القادرة على ضرب عمق الأراضي الروسية.

ويتناقض هذا الموقف مع موقف حلفاء ألمانيا الرئيسين، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.

وفي السياق نفسه، أثار الاتصال الهاتفي الذي أجراه شولتس مؤخراً مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الاستياء خصوصاً في كييف.

كما اتهمته المعارضة في ألمانيا، بالمساهمة في الـ«دعاية» الروسية وبالقيام بمناورة انتخابية تقدمه على أنه «مستشار السلام» قبل انتخابات خطيرة.

«خبرة كبيرة»

ولا يخفي المحافظون ارتياحهم لترشيح المستشار. وقال النائب ماتياس ميدلبرغ إن القرار «جيد بالنسبة لنا»، مضيفاً أن «بيستوريوس كان سيسبب إزعاجاً أكبر لائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي والاتحاد الاجتماعي المسيحي» المعارض المحافظ.

لكن أظهر شولتس مرات عدة قدرته على تحدي التوقعات، وهو سياسي مخضرم شغل منصب رئيس بلدية مدينة هامبورغ (شمال)، ونائب المستشارة أنجيلا ميركل (2005 - 2021) في حكومتها الأخيرة متولياً حقيبة المال.

وفي 2021، فاز من خلال تقديم نفسه على أنه الوريث الحقيقي للمستشارة المحافظة.

وينوي هذه المرة أيضاً أن يطمئن الناخبين من خلال تجربته، في خضم سياق جيوسياسي عالمي متوتر وغارق في المجهول بعد انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة.

وشددت رئيسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي ساسكيا إسكين في تصريحات للإذاعة البافارية، الاثنين، على أن شولتس يتمتع بـ«خبرة كبيرة جداً، وبقدرة على المناورة، لا سيما على المستوى الدولي».