من بين كل رؤساء الجمهورية الخامسة التي أرسى دعائمها الجنرال شارل ديغول في عام 1958، وحده نيكولا ساركوزي، رئيسها السادس يعرف هذا الكم من الملاحقات القضائية والدعاوى والتحقيقات الخاصة به.
صحيح أن جاك شيراك، الرئيس الخامس، صدر بحقه حكم بالسجن مع وقف التنفيذ، بعد نهاية ولايته، إلا أن القضية تعود لمرحلة لم يكن خلالها رئيسا للجمهورية. أما ما صدر صباح الأربعاء عن محكمة الاستئناف في باريس بحق ساركوزي فإنه غير مسبوق، إذ إنها قضت بسجنه لثلاث سنوات منها اثنتان مع وقف التنفيذ والثالثة نافذة بعد إدانته بالفساد واستغلال النفوذ.
إلا أن المحكمة لم تطلب إرساله إلى السجن؛ نظراً لكونه رئيس جمهورية سابق. ولذا، يتحتم عليه أن يوضع تحت الرقابة الدائمة عن طريق سوار إلكتروني. وكان الرئيس الأسبق يأمل أن تنقض محكمة الاستئناف حكما مشابها صدر عن محكمة البداية، إلا أن آماله خابت، ولذا فإنه يراهن على نقض الحكم لدى محكمة التمييز، وهي أعلى سلطة قضائية في فرنسا.
وسارعت جاكلين لافون، محامية ساركوزي مباشرة بعد إعلان الحكم، إلى تأكيد نقل الدعوى إلى محكمة التمييز. وبالنظر لبطء عمل القضاء في فرنسا، فإن المحاكمة الجديدة يستبعد أن تحصل قبل العام القادم، ما يعني أن ساركوزي الذي كان موجودا لسماع الحكم خرج من المحكمة متجهم الوجه لكنه طليق.
وعلى عكس ما هو معروف عنه من اتباع سياسة الهجوم على القضاء والقضاة «وتسخيرهما ضده لأسباب سياسية»، لكنه هذه المرة بقي صامتاً.
وقضت المحكمة أيضاً بحرمان ساركوزي من حقوقه المدنية لثلاث سنوات، ما يعني أساساً أنه لن يكون له الحق في الاقتراع أو الترشح لأية انتخابات، كما أنه يمنع عليه الخروج من الأراضي الفرنسية.
وصدر حكمان مماثلان بحق تييري هرتسوغ (67 عاماً) وهو محامي ساركوزي الأقرب، وعلى كبير القضاة السابق جيلبرت أزيبير بعد إدانتهما بعقد «صفقة فساد» مع ساركوزي في عام 2014، وحُكم عليهما بالعقوبة نفسها، إضافة إلى أن هيتزوغ وهو أحد أشهر المحامين في فرنسا، منع من ممارسة مهنته لمدة ثلاث سنوات.
قصة هذا الحكم بالغة التعقيد وصعبة التبسيط. وأساسها أن ساركوزي كان يتخوف بعد انتهاء ولايته الرئاسية في عام 2012 من أن يزج اسمه في فضيحة ما يسمى «التمويل الليبي» لحملته الرئاسية في عام 2007؛ لذا سعى، وفق ما يفهم من الحكم المشدد، إلى الحصول على معلومات عن ملفه بصورة غير مشروعة، عبر محاميه، من القاضي جيلبيرت أزيبير، وذلك مقابل مساعدة الأخير على تعيينه في منصب مريح في إمارة موناكو.
وللتواصل مع ساركوزي، عمد هيرتزوغ إلى الاشتراك بخط خليوي باسم «بول بيثموث» وهو صديق له يقيم في إسرائيل من أجل التواصل مع الرئيس السابق بعيداً عن أسماع القضاة الذين طلبوا فرض الرقابة على هاتفي ساركوزي وهيرتزوغ. وكم كانت دهشة بول بيثموث الأصلي عندما علم بأن هيرتزوغ أعطى هويته للرئيس السابق. وبفضل التنصت على المخابرات بين ساركوزي - بيثموث وموكله، تمكن القضاء من كشف الخطة. من هنا، فإن الدعوى عرفت باسم «اتصالات بيثموث».
لا تتوقف متاعب ساركوزي عند هذا الحكم، إذ إنه مدعو للمثول أمام محكمة الاستئناف مجددا في الخريف القادم في دعوى تمويل حملته الانتخابية، ولكن هذه المرة لعام 2012، وذلك بعد أن أُدين بها في محكمة البداية.
وأساس الدعوى أن حملته تخطت بضعفين سقف المصاريف الانتخابية التي يحددها القانون. فضلاً عن ذلك، تنتظر ساركوزي محاكمة ثالثة بناء على طلب المدعي العام المخول النظر بالقضايا المالية يوم الخميس الماضي إحالته إلى محكمة الجنايات في قضية الاشتباه في تمويل ليبيا لحملته الرئاسية لعام 2007.
وبشأن تمويل حملة عام 2012 التي خسر انتخاباتها بوجه المرشح فرنسوا هولاند، لن يكون ساركوزي وحيداً، إذ سيمثل إلى جانبه ما لا يقل عن عشرة أشخاص من الذين كانوا يتولون مسؤوليات رئيسية إلى جانبه. ويعتمد دفاع الرئيس الأسبق على أنه لم يكن على اطلاع على تفاصيل تمويل حملته.
أما بشأن التمويل الليبي، وهي القضية التي تعود إلى ثماني سنوات، فإن وزيرين سابقين سيمثلان إلى جانبه أمام القضاء، هما وزير الداخلية الأسبق ومستشار ساركوزي الأقرب كلود غيان، والوزير بريس هورتفو الذي شغل أيضاً منصب وزير الداخلية.
كتب الكثير عن «التمويل الليبي» وربط بينه وبين العلاقة القريبة التي نشأت بين ساركوزي ورئيس الدولة الليبية العقيد معمر القذافي، وعن الأموال التي نقلها وسطاء للطرفين، وعن اختفاء مستندات، وموت أشخاص كانوا على صلة بهذا الملف.
كذلك، قيل الكثير بخصوص الأسباب التي دفعت ساركوزي لأن يكون الرئيس الغربي الأكثر اندفاعا للتدخل العسكري الغربي في ليبيا في عام 2011، والذي أفضى إلى الإطاحة بنظام القذافي ثم مقتله. ووجهت لساركوزي رسميا اتهامات بالضلوع في عملية تمويل غير مشروع والفساد والتصرف بأموال ليبية.
وصعوبة هذه الدعوى أن التحقيق لم يحصل على أدلة دامغة، بل هناك شكوك، وقد نفى ساركوزي بقوة وجود أي تمويل ليبي، فيما القضاء يرى العكس تماما. واستفاد ساركوزي مرتين من حصانته الرئاسية في فضيحتين، الأولى تتناول التحكيم الذي حصل عليه الوزير والنائب السابق برنار تابي واستعاد بموجبه أموالا ضخمة من الدولة الفرنسية، ويظن أن ساركوزي ساعده في ذلك.
والفضيحة الثانية تتناول استطلاعات للرأي طلبتها دوائر الإليزيه، وتُشتم منها روائح فساد ومحسوبية.
ما سبق غيض من فيض المسائل التي ارتبط بها اسم ساركوزي وأسماء لوزرائه ومعاونيه السابقين. ورغم ذلك كله، ما زال الرئيس الأسبق المرجع الأول لليمين الفرنسي الذي كسب معه الانتخابات الرئاسية لآخر مرة في عام 2007، وبعدها اضمحل اليمين وتضاءل حضوره السياسي وعدد نوابه، وخصوصا تأثيره في الحياة السياسية.
وبعد سنوات خمس ساءت خلالها علاقاته برئيس الجمهورية السابق الاشتراكي فرنسوا هولاند، فإن علاقة جيدة تربطه بالرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي يستشيره في المسائل الكبرى.