تُوّج تشارلز الثالث ملكاً، السبت، في مراسم دينية مزجت بين تقاليد راسخة منذ ألف عام وأخرى استحدثتها المؤسسة الملكية لتعكس صورة بريطانيا في القرن الحادي والعشرين.
وفي مراسم مهيبة شارك فيها 2300 شخص، بينهم مائة رئيس دولة ومسؤول رفيع، تُوّج تشارلز الثالث ملكاً للمملكة المتحدة وزوجته كاميلا ملكة، بعد 8 أشهر من وفاة الملكة إليزابيث الثانية. ووضع رئيس أساقفة كانتربري جاستن ويلبي التاج الملكي على رأس تشارلز الثالث، الذي أقسم على خدمة رعاياه وحماية كنيسة إنجلترا، التي هو رئيسها الأعلى. وسمعت هتافات «ليحفظ الله الملك» داخل الكنيسة وخارجها. وبعد ذلك توجت زوجته كاميلا، لتحصل رسمياً على لقب الملكة، بعدما عُرفت بعد تنصيب زوجها بـ«الملكة القرينة».
ورغم تنصيب تشارلز ملكاً لبلاده في سبتمبر (أيلول) الماضي، فإن مراسم التتويج تعتري أهمية خاصة في المملكة المتحدة، وتستقطب اهتماماً دولياً واسعاً. فهي تعدّ استمراراً لتقليد متوارث منذ ألف عام، وتكرّس دور الملكية في الحياة العامة البريطانية. وحرص الملك تشارلز على إضفاء طابع عصري على المراسم، واستقطاب الأجيال الشابة التي أعرب جزء منها عن امتعاضه من تكلفة حفل التتويج المرتفعة.
وفي حين هيمن الطابع الديني على المراسم الأنغليكانية للتتويج، من قبل كبير أساقفة كانتربري جاستن ويلبي، شهد الاحتفال التاريخي مشاركة ممثلين عن الديانات الإسلامية واليهودية والسيخ، في محاولة تمثيل الديانات غير المسيحية الممارسة في المملكة المتحدة ودول الكومنولث.
مراسم تاريخية
رصّ عشرات آلاف البريطانيين والسياح شوارع لندن رغم تهاطل الأمطار، واصطفوا خاصة في جادة «ذي مال» التي عبرها الملك تشارلز وزوجته بعربة «دايموند جوبيلي» الذهبية، للانتقال من قصر باكنغهام إلى كنيسة «وستمنستر». وبدأت المراسم الدينية في تمام الساعة 11 صباحاً بالتوقيت المحلي، بعدما عبر تشارلز الثالث وزوجته بلباسهما الملكي، باب كنيسة وستمنستر. وبعد أدائه القسم في إطار مراسم أنغليكانية استمرت ساعتين، اعتمر تشارلز تاج الملك إدوارد، الرمز المقدس لسلطة العرش والمصنوع من الذهب الخالص، الذي يُستخدم لمرة واحد خلال الحكم.
حرص الملك الجديد على مزج التقاليد المتوارثة عن أسلافه، وعددهم 39 تُوّجوا في كنيسة وستمنستر منذ عام 1066، بمظاهر تعكس المجتمع البريطاني الحديث. فقد شاركت نساء أساقفة للمرة الأولى، إلى جانب قادة أقليات دينية. وبصفته ملكاً، يترأس تشارلز كنيسة إنجلترا لكنه يقود بلداً أكثر تنوعاً دينياً وعرقياً عن الذي ورثته والدته في ظل الحرب العالمية الثانية.
إلى ذلك، سعى تشارلز لأن تكون قائمة المدعوين أكثر تمثيلاً للمجتمع البريطاني، فدعا أفراداً من عامة الناس ليجلسوا إلى جنب رؤساء دول وملوك وأمراء من أنحاء العالم. وفي تغيير آخر للتقاليد، عكس شعار المراسم اهتمام تشارلز الدائم بالتنوع البيولوجي والاستدامة. وامتلأت كنيسة وستمنستر بأزهار موسمية وأغصان خضراء، تمثل التنوع البيولوجي من جزيرة «آيل أوف سكاي» في شمال غرب أسكوتلندا حتى كورنوال عند الطرف الساحلي الغربي لإنجلترا. كما استُخدمت في المراسم أثواب احتفالية معاد تدويرها من مراسم تتويج سابقة، وكان الزيت الذي مسح به تشارلز نباتياً، على عكس السابق.
وبعد انتهاء مراسم التتويج، صدحت الأبواق في أنحاء كنيسة وستمنستر، وأطلقت المدافع الاحتفالية برا وبحرا لمناسبة أول تتويج لملك بريطاني منذ عام 1953، والخامس فقط منذ 1838، كما قرعت أجراس الكنائس في مختلف أنحاء البلاد، قبل أن ينطلق جنود من المشاة والخيالة في عرض يضم 7 آلاف عسكري في شوارع العاصمة. وبعد انتهاء المراسم الدينية، عاد الملك تشارلز والملكة كاميلا إلى قصر باكنغهام في العربة المذهبة التي قلما تُستخدم، أمام حشود كبيرة، وتابعا بعد ذلك عرضاً جوياً من شرفة القصر. ومراسم تتويج تشارلز الثالث هي الثانية التي تُبث على التلفزيون، والأولى بالألوان وبخدمة البث التدفقي على الإنترنت.
فخر وطني
اعتبر رئيس الوزراء ريشي سوناك حفل التتويج «تعبيراً نفتخر به عن تاريخنا وثقافتنا وتقاليدنا». وقال إنه «لحظة فخر وطني استثنائي (...) ودليل حي على الطابع الحديث لبلدنا وتقاليد نعتز بها يولد من خلالها عهد جديد». وشارك ملايين البريطانيين شعور رئيس الوزراء، إذ توافدت حشود داعمة للأسرة الملكية إلى العاصمة لندن من مختلف أنحاء البلاد، وخيمت في جادة «ذي مال». ويطلق حفل التتويج سلسلة مراسم تستمر ثلاثة أيام، وتشمل احتفالاً موسيقياً في قلعة ويندسور غرب لندن مساء الأحد.
حقائق
7 عقود
نُصّب تشارلز (74 عاماً) ملكاً لبريطانيا بعد وفاة والدته الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر 2022 بعد 7 عقود على توليه ولاية العهد
حضور عربي لافت
شارك عدد من القادة العرب في حفل تتويج الملك تشارلز. وناب عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الأمير تركي بن محمد بن فهد وزير الدولة عضو مجلس الوزراء. كما حضر مراسم التتويج ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وملك الأردن عبد الله الثاني وزوجته الملكة رانيا، وولي عهد الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وولي عهد عمان ذي يزن بن هيثم آل سعيد.
كما مثّلت ملك المغرب محمد السادس في حفل التتويج الأميرة لالة مريم. كما حضر المراسم رئيس العراق عبد اللطيف جمال رشيد، ورئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.
دور محدود
حضر الأميران هاري وأندرو مراسم التتويج، لكنهما لم يضطلعا بأي دور رسمي في المراسم. فقد تخلّى هاري الابن الأصغر للملك تشارلز، إلى جانب زوجته ميغان، عن مهامه الملكية في 2020. أما أندرو، فقد استبعدته والدته الملكة إليزابيث الثانية عن غالبية مهامه الملكية الرسمية، بعد فضيحة ارتباطه برجل الأعمال الأميركي الراحل جيفري إيبستين واتهامات باعتداء جنسي تمت تسويتها دون اللجوء إلى القضاء. وجلس هاري (38 عاماً) في الصف الثالث في كنيسة وستمنستر آبي، لكنه غاب عن المراسم الخارجية عندما أقلت العربة المذهبة الملك المتوج من الكنيسة إلى قصر باكنغهام. وهاري هو الخامس في ترتيب ولاية العرش بعد شقيقه الأمير ويليام، وأبنائه الثلاثة الأمير جورج والأميرة شارلوت والأمير لويس. أما أندرو، فهو الثامن في ترتيب ولاية العرش، ويأتي بعد هاري وابنيه الأمير آرتشي والأميرة ليليبت. وأثار قرار هاري حضور المراسم وحيداً، ارتياحاً داخل العائلة، إذ إن مشاركة زوجته ميغان كانت تهدد بتشتيت الاهتمام بالمراسم، وتسليط الضوء على الخلافات العائلية. وكانت استجابة هاري لدعوة التتويج محل تساؤل، خصوصاً بعد سيل الانتقادات اللاذعة التي وجهها لعائلته في مذكراته «سبير». وبقيت ميغان في كاليفورنيا مع طفليهما لتتجنب بذلك أي تفاعل محرج مع عائلة زوجها.
اعتقال «جمهوريين»
في مقابل الدعم الشعبي الواسع لتتويج تشارلز الثالث، خرجت مظاهرات محدودة تحتج ضد كلفة المراسم وتنادي بتحديث أو إلغاء الملكية. وقبل انطلاق المراسم، اعتقلت الشرطة التي حذرت من أنها لن تتسامح مع محاولة لعرقلة تتويج الملك تشارلز الثالث، عشرات الأشخاص في لندن بينهم 6 ناشطين مناهضين للنظام الملكي.
وقال متحدث باسم مجموعة «جمهورية»، التي تجمع مئات من أنصارها في ساعة مبكرة من صباح السبت في ساحة الطرف الأغر، إن الشرطة اعتقلت «6 من منظمينا وصادرت مئات اللافتات» التي كتب عليها «ليس ملكي»، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. وأوضحت المجموعة أن بين الموقوفين رئيسها غراهام سميث، الذي بدأ المتظاهرون يطلقون هتافات تطالب بإطلاق سراحه فور اعتقاله. وقال مارتن للوكالة الفرنسية: «هذا هو بالضبط سبب وجودنا هنا اليوم، لأن الملكية تمثل كل ما هو خطأ في المملكة المتحدة: الامتيازات وعدم المساواة وانعدام الديمقراطية». ورفع مئات الناشطين لافتات كتب عليها «مواطنون لا رعايا»، و«ألغوا الملكية».
من جهتها، قالت مجموعة «جست ستوب أويل» البيئية إن 19 من ناشطيها اعتقلوا بالقرب من مسار الموكب. وكانت المجموعة قد خططت للتظاهر بمناسبة التتويج لمعارضة استغلال المحروقات في البلاد.