هافانا غارقة في عتمة شاملة هذه الأيام... تنسدل على ركام الأزمات المعيشية الخانقة

تفاقمها أدى لتفريغ ديموغرافي مع هجرة 850 ألف شاب واحتجاجاتها تبدأ بالمطالبة بالغذاء والأدوية والكهرباء وتنتهي بشعارات للحرية

أحد شوارع العاصمة الكوبية هافانا (رويترز)
أحد شوارع العاصمة الكوبية هافانا (رويترز)
TT

هافانا غارقة في عتمة شاملة هذه الأيام... تنسدل على ركام الأزمات المعيشية الخانقة

أحد شوارع العاصمة الكوبية هافانا (رويترز)
أحد شوارع العاصمة الكوبية هافانا (رويترز)

أربع ساعات بالطائرة فوق زرقة البحر الكاريبي تفصل بين كاراكاس التي تطفو على أضواء احتفالات سوريالية بميلاد لا وجود له سوى في مرسوم نيكولاس مادورو، وهافانا الغارقة منذ أيام في عتمة شاملة تنسدل على ركام الأزمات المعيشية الخانقة، من شحّ في المواد الغذائية الأساسية وتراجع في الخدمات الصحية والتعليمية، وعطش للحريات التي ما زال الإفراج عنها عصيّاً على هذه الثورة التي كانت بمثابة المرأة الثانية في حياة كل تقدمي قبل أن تكاد تصبح هيكلاً عظمياً لذلك الحلم الجميل الذي راود الجماهير اليسارية في العالم.

حاجز من القمامة خلال الليلة الثالثة من انقطاع التيار الكهربائي على مستوى البلاد في هافانا (أ.ف.ب)

نضبت إمدادات المساعدات الاقتصادية السخية التي كان الاتحاد السوفياتي يغدقها على كوبا يوم كانت رأس الحربة المتقدمة في ذروة الحرب الباردة، ولحية فيديل كاسترو تتدلّى بتحدٍ وإباء على مرمى حجر من سواحل الولايات المتحدة... وجفّت منابع الدعم الذي كانت تغدقه عليها فنزويلا على عهد هوغو تشافيز بعد أن صار نظام مادورو يستجدي هو الدعم للنهوض من الضائقة التي وضعت الدولة التي تملك أكبر احتياطي للنفط في العالم على شفا الجوع.

تخال نفسك في مدينة أشباح على الطريق من المطار إلى الفندق، حيث تخيّم ظلمة حالكة على امتداد الأحياء التي تجتازها، في حين يردد السائق، وعلى وجهه ابتسامة غير بريئة، إن السبب في انقطاع التيار الكهربائي هو الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على الجزيرة ويمنعها من استيراد الكثير من المواد والمعدات الأساسية.

في زياراتي الكثيرة إلى الجزيرة لم ألمس مثل هذا الفراغ الذي تضجّ به هافانا. المدارس مقفلة، وبعض المتاجر أيضاً، وفي الأحياء الشعبية عجائز فوق الكراسي الهزازة يتقون الشمس الحارقة في ظل شرفات مداخل المباني العريقة التي تبدو خارجة لتوها من حرب أهلية.

منذ جائحة «كوفيد» التي أوقعت خسائر بشرية فادحة في الجزيرة، انخفض كثيراً عدد السياح الذين كان الاقتصاد قد انتعش بفضلهم في السنوات الأخيرة، والمارة في الشوارع هائمون مثل العسكر المهزوم العائد من معركة لم يعد قادراً على خوضها.

انقطاع التيار الكهربائي في هافانا بعدما ضرب الإعصار «أوسكار» مساء الأحد كوبا (د.ب.أ)

من حين إلى آخر تهبّ نسائم خفيفة من جهة البحر، وتلطّف من رطوبة الحر الجاثم على صدر الجزيرة في هذه الأيام. البحر الذي عبره إلى الولايات المتحدة في السنوات الثلاث المنصرمة أكثر من 850 ألف شاب، أي ما يقارب 18 في المائة من مجموع السكان، فيما يشبه التفريغ الديموغرافي الذي يبدو نهائياً بسبب الأوضاع المعيشية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها الجزيرة. هذه الأرقام صدرت عن مكتب الجمارك وحماية الحدود في إدارة بايدن، والأرجح أنها دون الأعداد الحقيقية.

في الماضي كان الكوبيون يهاجرون هرباً من القمع السياسي وسعياً إلى الحرية، أما اليوم فقد أصبحت أسباب هذا النزوح، الذي فاق بكثافته جميع الأزمات السابقة، وليدة يأس هيكلي مديد تراكمت فيه ندرة مزمنة في المواد الغذائية، والأدوية والسلع الأساسية، وزاده حدة انهيار القطاع السياحي وتضخم جامح تعجز الدولة عن السيطرة عليه. يضاف إلى ذلك أن الحكومة والأجهزة الأمنية رفعت منسوب القمع في أعقاب الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي عمّت أنحاء الجزيرة في يوليو (تموز) 2021.

لا شك في أن الحصار الاقتصادي الصارم الذي تفرضه الولايات المتحدة على كوبا منذ عقود قد ساهم في تفاقم الأزمات المعيشية التي تعاقبت على هذه الجزيرة، وهو حصار أدانته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة مرات عدّة وطالبت برفعه. لكن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الحكومة التي فشلت في توفير الظروف التي تحول دون دفع المواطنين إلى مثل هذا النزوح، وعجزت عن إجراء الإصلاحات الاقتصادية الكافية لدفع عجلة التنمية. ولم تعد قليلة تلك الأصوات التي ترى أن النظام ليس قادراً على تصويب المسار بما يحول دون انفجار كبير للأزمة، وأنه لا بد من دور فاعل للأسرة الدولية، لا يقتصر فحسب على أزمة الهجرة، بل على الأسباب العميقة التي تسببت في هذا النزوح التاريخي.

سيارة تسير وسط المياه في العاصمة هافانا (رويترز)

كثرة الأزمات المشتعلة اليوم في مناطق عدّة من العالم تقصي الكابوس الكوبي عن العناوين الرئيسية في وسائل الأعلام، لكن ما يعتمل في «لؤلؤة الكاريبي» منذ أشهر لا مثيل له في تاريخ الثورة التي جردتها السنون من معظم الإنجازات التي حققتها رغم الحصار وأنواء الرياح الإقليمية المعاكسة. حتى مطالع الصيف الماضي كان الكوبيون يخرجون إلى الاحتجاج في الشوارع وعلى وسائل التواصل في حالات نادرة عندما تشتدّ الأزمة المعيشية، يطالبون بعودة التيار الكهربائي والمواد الغذائية والسلع الأساسية. أما اليوم، فقد أصبحت هذه الاحتجاجات تتكرر أحياناً كل أسبوع، ولم تعد تقتصر على بعض الأحياء في بعض المدن الكبرى، وصارت تبدأ بالمطالبة بالغذاء والأدوية والكهرباء وتنتهي مطالبة بالحرية، الغائب الأكبر عن سماء الثورة التي ألهمت حركات التحرير في العالم طيلة عقود.

حتى كتابة هذه السطور انقضت أيام ستة على انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء كوبا، وليس من حل يلوح في الأفق.

النظام التعليمي أوقف محركاته، المستشفيات على شفا الانهيار، والأطعمة القليلة التي كانت في الثلاجات تلفت، في حين تلجأ الأسر إلى الطهي على مواقد الحطب أمام المنازل، وتضرب على الطناجر الفارغة من باب الاحتجاج والتنفيس عن الغضب والإحباط.

سُيّاح يلتقطون صورة في خليج هافانا مع اقتراب الإعصار «ميلتون» يوم 9 أكتوبر (أ.ف.ب)

تقول غراسيلا، وهي أم لأربعة أولاد لم يذهبوا إلى المدرسة منذ منتصف الأسبوع الفائت: «نتحمّل الشحّ في المواد الغذائية، وتراجع الخدمات الصحية، وتعطّل المواصلات العامة، لكن انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة يفاقم كل هذه الأزمات في مثل هذا الحر الخانق».

المكسيك هبّت إلى النجدة وأعلنت رئيستها الجديدة كلاوديا شاينباوم عن تقديم مساعدة عاجلة بإرسال شحنات من الوقود وطواقم تقنية متخصصة تملك خبرة في إصلاح شبكات الكهرباء التي غالباً ما تتضرر في مثل هذا الموسم الذي تكثر فيه الأعاصير والعواصف. لكن السلطات الكوبية تقرّ بأن أزمة الكهرباء تحتاج إلى ما لا يقلّ عن عامين لمعالجتها؛ نظراً لتقادم البنية التحتية وازدياد الطلب على الاستهلاك. في غضون ذلك، يسود الشعور بأن هذه الأزمة ليست عابرة مثل سابقاتها، بل هي تراكم لسلسلة من المعاناة الطويلة التي تكشف انهيار بلد يصرخ مطالباً بنور يضيء دربه، في حين يردد أبناؤه تحت جنح الظلام «لن يكون أبدياً هذا الليل».


مقالات ذات صلة

أميركا تفرض عقوبات على 50 مصرفاً روسياً بسبب الحرب في أوكرانيا

الولايات المتحدة​ كلمة «عقوبات» أمام ألوان علمي الولايات المتحدة وروسيا في هذه الصورة الملتقطة في 28 فبراير 2022 (رويترز)

أميركا تفرض عقوبات على 50 مصرفاً روسياً بسبب الحرب في أوكرانيا

أعلنت أميركا حزمة من العقوبات تستهدف نحو 50 مؤسسة مصرفية روسية للحد من وصولها إلى النظام المالي الدولي وتقليص تمويل المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن (أرشيفية/ رويترز)

واشنطن ترفض قرار «الجنائية الدولية» بحق نتنياهو وغالانت

أعرب المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي عن رفض الولايات المتحدة، بشكل قاطع، قرار المحكمة إصدار مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

تسعى روسيا إلى تصعيد التهديد النووي، في محاولة لتثبيط الدعم الغربي لأوكرانيا بانتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض، آملة التوصل إلى اتفاق سلام بشروطها.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
الخليج عبد الله بن زايد وأنتوني بلينكن يبحثان القضايا الإقليمية

عبد الله بن زايد وأنتوني بلينكن يبحثان القضايا الإقليمية

بحث الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي مع أنتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، القضايا الإقليمية.

يوميات الشرق لفهم كيفية معالجة الآخرين للعالم بشكل أفضل حاول طرح أسئلة مدفوعة بالعاطفة عليهم (رويترز)

لإدارة مشروع جانبي وكسب المال... مهارة واحدة أساسية تحتاج إليها

تُظهر البيانات الحديثة أن أكثر من ثلث البالغين في الولايات المتحدة لديهم عمل جانبي... والأشخاص الذين يكسبون أكبر قدر من المال لديهم شيء مشترك.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

لولا يفرش السجاد الأحمر احتفاءً بالرئيس الصيني في برازيليا

شي ولولا وقّعا اتفاقات ثنائية في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)
شي ولولا وقّعا اتفاقات ثنائية في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)
TT

لولا يفرش السجاد الأحمر احتفاءً بالرئيس الصيني في برازيليا

شي ولولا وقّعا اتفاقات ثنائية في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)
شي ولولا وقّعا اتفاقات ثنائية في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)

استقبل الرئيس البرازيلي، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الرئيس الصيني، شي جينبينغ، الذي يجري زيارة دولة إلى البرازيل، الأربعاء، احتفاءً بالتقارب بين بلديهما، على خلفية «الاضطرابات» المتوقعة مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، إلى البيت الأبيض. واستُقبل شي بفرش السجاد الأحمر وبالتشريفات العسكرية والنشيد الوطني. فبعد لقائهما بقمة «مجموعة العشرين» في ريو دي جانيرو، خصّ لولا، برفقة زوجته روزانجيلا دا سيلفا، نظيره الصيني باحتفاء مهيب قبل اجتماعهما في ألفورادا؛ مقر إقامته الرئاسي في العاصمة برازيليا، كما نقلت «وكالة الصحافة الفرنسية». وكتب الرئيس الصيني، في مقال نشر بالصحافة البرازيلية قبل الزيارة، إن «الجنوب العالمي يشهد حركة صعود جماعي».

سياق دولي معقّد

شي ولولا وقّعا اتفاقات ثنائية في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)

ويتبع اجتماعهما في ألفورادا إعلان مشترك في سياق دولي مشحون كما اتضح خلال قمة «مجموعة العشرين»، التي هيمنت عليها أزمة المناخ والحرب في أوكرانيا. وتُنذر عودة دونالد ترمب بتحول انعزالي من جانب واشنطن؛ القوة العظمى في العالم، فضلاً عن موقف أكثر تشدداً تجاه الصين، خصوصاً في المسائل التجارية. وقال شي، على هامش اجتماع أكبر اقتصادات العالم، إن «العالم يدخل مرحلة جديدة من الاضطرابات والتغيير». وكما حدث في «قمة آسيا والمحيط الهادئ» قبل أيام قليلة في ليما، ظهر الرئيس الصيني بوصفه الرجل القوي في اجتماع ريو، حيث عقد لقاءات ثنائية عدّة في مقابل تراجع هالة جو بايدن المنتهية ولايته.

جانب من الاستقبال الرسمي الذي حظي به شي في برازيليا يوم 20 نوفمبر (د.ب.أ)

ويريد شي ولولا مزيداً من توطيد العلاقة القوية بين الصين والبرازيل؛ الدولتين الناشئتين الكبيرتين اللتين تحتلان المرتبتين الثانية والسابعة على التوالي من حيث عدد السكان عالمياً. ويعتزم الرئيس الصيني مناقشة «تحسين العلاقات التي تعزز التآزر بين استراتيجيات التنمية في البلدين»، وفق «وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا)».

أما البرازيل، فتسعى إلى تنويع صادراتها بـ«منتجات برازيلية ذات قيمة مضافة أعلى»، وفق ما قال أمين شؤون آسيا بوزارة الخارجية البرازيلية، إدواردو بايس. ويُعدّ العملاق الآسيوي أكبر شريك تجاري للبرازيل التي تزوده بالمنتجات الزراعية. وتُصدّر القوة الزراعية في أميركا الجنوبية فول الصويا والمواد الأولية الأخرى إلى الصين، وتشتري من الدولة الآسيوية أشباه الموصلات والهواتف والسيارات والأدوية.

طرق الحرير

لولا وشي يصلان إلى المؤتمر الصحافي المشترك في برازيليا يوم 20 نوفمبر (أ.ف.ب)

مع ذلك، كانت حكومة لولا حذرة حيال محاولات الصين إدخال البرازيل في مشروع «طرق الحرير الجديدة» الضخم للبنى التحتية. وانضمّت دول عدة من أميركا الجنوبية إلى هذه المبادرة التي انطلقت في عام 2013، وتُشكّل محوراً مركزياً في استراتيجية بكين لزيادة نفوذها في الخارج.

أما الإدارة الديمقراطية في واشنطن، فتراقب ما يحدث بين برازيليا وبكين من كثب. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، ناتاليا مولانو، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن واشنطن تنصح البرازيل بأن «تُبقي أعينها مفتوحة لدى تقييم مخاطر التقارب مع الصين وفوائده». وعقّب مصدر دبلوماسي صيني على ذلك بقوله إن «لدى الصين وأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي القول الفصل في تطوير العلاقات بينهما». أما لولا، فهو يهدف إلى اتخاذ موقف دقيق متوازن، فيما يتعلق بهذه القضية كما هي الحال مع قضايا أخرى، وهذا ما عبر عنه قبل بضعة أشهر بقوله: «لا تظنوا أنني من خلال التحدث مع الصين أريد أن أتشاجر مع الولايات المتحدة. على العكس من ذلك؛ أريد أن يكون الاثنان إلى جانبنا».