انطلاق الانسحاب العسكري من النيجر يكشف انحسار نفوذ باريس في منطقة الساحل

جنود فرنسيون ونيجريون في قاعدة جوية في نيامي (أرشيفية - أ.ف.ب)
جنود فرنسيون ونيجريون في قاعدة جوية في نيامي (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

انطلاق الانسحاب العسكري من النيجر يكشف انحسار نفوذ باريس في منطقة الساحل

جنود فرنسيون ونيجريون في قاعدة جوية في نيامي (أرشيفية - أ.ف.ب)
جنود فرنسيون ونيجريون في قاعدة جوية في نيامي (أرشيفية - أ.ف.ب)

في 24 سبتمبر (أيلول) الماضي أي بعد مرور شهرين على الانقلاب العسكري الذي أطاح نظام الرئيس النيجري محمد بازوم، صديق فرنسا والغرب، كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرار باريس ترحيل سفيرها في نيامي وإجلاء قواتها المرابطة في النيجر منذ سنوات.

وجاء قرار باريس في سياق توتر متصاعد مع المجلس العسكري الذي تسلّم السلطات في النيجر، وسارع إلى المطالبة برحيل السفير والقوات الفرنسية. وعندما تأكد ماكرون أن تهديد المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا «إيكواس» بالتدخل العسكري لإعادة الانتظام الدستوري وتمكين بازوم المحتجز من مزاولة سلطاته مجددا، وفي ضوء عزلة باريس أوروبيا وأفريقيا وأميركيا، لم يعد أمام ذلك من مخرج سوى الاستجابة لطلب عسكر النيجر، الأمر الذي يجمع المحللون بمن فيهم الفرنسيون على اعتباره «هزيمة سياسية وأمنية» وانحساراً لنفوذ باريس في مستعمراتها السابقة.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مشاركاً في قمة المجموعة السياسية الأوروبية في غرناطة في 5 أكتوبر (أ.ف.ب)

وكان ماكرون قد أكد أن سحب السفير سيتم في الساعات المقبلة، وأن إجلاء القوة الفرنسية المشكلة من 1500 رجل بأسلحتهم الثقيلة وطائراتهم «من الطائرات المقاتلة والطوافات والمسيرات» وعتادهم سينجز قبل نهاية العام. وصباح الخميس، صدر بيان عن قيادة الأركان الفرنسية جاء في حرفيته أن «إجلاء العسكريين وإمكانياتهم العسكرية سينطلق هذا الأسبوع، وستتيح هذه العملية إعادة جميع العسكريين إلى فرنسا قبل نهاية العام» ما يعني التزاماً بالتاريخ الذي حدده ماكرون. وكان السفير سيلفان إيتيه قد رجع إلى باريس الأسبوع الماضي. وبيّن بيان الأركان الفرنسية مسألة كانت موضع جدل وتتناول الجهة التي ستنسحب إليها القوة الفرنسية، وكانت الاحتمالات الممكنة إعادة نشرها أو نشر بعض منها في دول مجاورة للنيجر وعلى رأسها تشاد، حيث تنتشر قوة فرنسية في العاصمة نجامينا أو توجيهها إلى بلدان أخرى تتمتع فرنسا فيها بحضور عسكري، مثل كوت ديفوار أو بنين أو غيرهما. والحال أن بيان القيادة حسم الجدل بتأكيد أن العسكريين كافة سيعودون إلى فرنسا.

بيد أن الأمور ليست بهذه السهولة إذ تطرح إشكالية الوسائل المستخدمة للإجلاء إذ إن حدود النيجر مقفلة بأمر من المجلس العسكري مع دول «إيكواس»، وتحديداً مع نيجيريا وبنين المطلتين على خليج غينيا، كما أن الطيران الفرنسي ممنوع من التحليق في أجوائها. فضلا عن ذلك سيكون على فرنسا التي لن تترك سلاحا أو عتادا للجيش النيجري أن ترحل مدرعاتها وآلياتها العسكرية وطائراتها وطوافاتها.

متظاهرون نيجريون قرب القاعدة العسكرية الفرنسية في نيامي في 16 سبتمبر الماضي يرفعون العلم الصيني مطالبين برحيل القوة الفرنسية (أ.ف.ب)

وجاء في بيان القيادة المشتركة الفرنسية أن «التنسيق مع القوات النيجرية أساسي من أجل إنجاح عملية (الإجلاء)، وأن التدابير كافة قد تم اتخاذها حتى يتم تحرك (القوات) بنظام وأمان»، ما يعني عملياً أن الطرف الفرنسي قد حصل على التسهيلات الضرورية من الطرف النيجري. وسارع المجلس العسكري النيجري إلى إصدار بيان أكد فيه أنه والحكومة النيجرية «سيكونان متيقظين لأن يتم الانسحاب في ظل احترام مصالح النيجر وشروطها».

وذهب البيان إلى حد تحديد مكان انطلاق الإجلاء أي من قاعدة «ويلام» الواقعة شمال البلاد في نطاق ما يسمى «الحدود المثلثة» التي تشهد عمليات عسكرية ضد التنظيمات الجهادية والإرهابية. ويرابط في القاعدة المذكورة 400 جندي فرنسي، إلى جانب الجنود النيجريين، فيما الأساسي من القوة الفرنسية «أكثر من ألف جندي بينهم الطيارون» يرابط في القاعدة العسكرية القريبة من مطار نيامي. بالمقابل، أصرت القيادة الفرنسية على أن الانسحاب «سيتم وفق الخطط الموضوعة» من قبلها.

مع انطلاق عملية الانسحاب، تكون القوات الفرنسية قد أُخرجت من ثلاث من دول الساحل، إذ رحلت أولاً من مالي ثم من بوركينا فاسو، وهي في طور الرحيل حاليا من النيجر.

ومن المفارقات أن باريس أجبرت على ترحيل قواتها من النيجر، فيما الولايات المتحدة تشغل ثلاث قواعد أهمها قريبا من مدينة «أغاديس» الواقعة وسط البلاد. وأفادت أوساط عسكرية أميركية بأن القيادة العسكرية الأميركية بصدد إعادة نشر قواتها في النيجر والخروج من القاعدة الجوية في نيامي إلى أغاديس. ووفق هذه الأوساط فإن الغرض من إعادة الانتشار «حماية القوات والأصول الأميركية» بالتوازي مع الاحتفاظ بالقدرة على مواجهة التهديدات الإرهابية في المنطقة.

تجمع شعبي موال للسلطة العسكرية خارج القاعدة الفرنسية في نيامي الأحد الماضي (إ.ب.أ)

وتعد قاعدة «أغاديس» أساسية لأن منها تنطلق المسيرات الأميركية لمراقبة تحركات المجموعات الجهادية والإرهابية في مناطق واسعة من أفريقيا. ومنذ الانقلاب العسكري نهاية يوليو (تموز) الماضي، لم تنزل إلى الشوارع والساحات أي مظاهرة تطالب برحيل القوة الأميركية التي تضم حوالي ألف رجل. وأفادت وزارة الدفاع الأميركية في وقت سابق، بأنه «لا يوجد أي تهديد ملموس ضد القوات الأميركية في النيجر، وأن إعادة الانتشار إجراء احترازي». وما يصح على الجانب الأميركي يصح أيضا على ألمانيا وإيطاليا اللتين لكل منهما قوة عسكرية تركز أنشطتها على تدريب الجيش النيجري.

لا يعني خسارة باريس لوجودها العسكري في ثلاثة أماكن في منطقة الساحل أنها أخذت تفتقد لأي حضور من هذا النوع في القارة القديمة. ذلك أن فرنسا، الدولة المستعمرة السابقة، حرصت مع إعطاء الاستقلال لمستعمراتها السابقة في ستينات وسبعينات القرن الماضي أن توقع معها اتفاقيات دفاعية وأمنية مكنتها في العقود المنقضية من المحافظة على مصالحها المختلفة.

واليوم، ما زال للقوات الفرنسية حضور في خمس دول أفريقية هي تشاد والغابون وكوت ديفوار والسنغال وجيبوتي. وتعد القاعدة في جيبوتي الأكبر والأهم لموقعها على مدخل البحر الأحمر وبالقرب من شرق أفريقيا. غير أن تواصل هذا الوجود العسكري لم يعد كافيا، في الوقت الحاضر، لضمان مواصلة باريس هيمنتها على عدد من الاقتصادات الأفريقية المرتبطة بها من خلال العملة المسماة «CFA».

يبقى أن باريس تحذر، منذ شهور، من أن انسحابها من الدول الثلاث سيعني استقواء الحركات المتطرفة والإرهابية.

وآخر من أدلى بدلوه، قبل عشرة أيام، كان وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو الذي نبه، في حديث لصحيفة «لو باريزيان» من أن «منطقة الساحل مهددة بالانهيار... وكل ما حصل فيها (من انقلابات عسكرية) سينتهي بشكل سيئ». وأضاف المسؤول الفرنسي أن «النظام (العسكري) في مالي فضّل (فاغنر) (المجموعة الروسية المسلّحة) على الجيش الفرنسي. ورأينا النتيجة إذ إن منطقة باماكو (العاصمة) باتت منذ ذلك الحين يطوقها المتطرفون».

وأعلنت وزارة الدفاع النيجرية أن 29 جندياً، على الأقل، قُتلوا في كمين نصبه متمردون بالقرب من حدود البلاد مع مالي، في أكثر الهجمات دموية منذ استيلاء عسكريين على السلطة في انقلاب عسكري في يوليو الماضي. وقالت الوزارة في بيان بثّه التلفزيون الوطني إنّ «مفرزة من قوات الأمن تعرّضت شمال غربي (تاباتول) (أي في منطقة الحدود المثلثة بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو) لهجوم معقّد نفّذه أكثر من 100 إرهابي، وجرى خلاله استخدام عبوات ناسفة وعربات انتحارية».

وأضافت الوزارة أنّ «الحصيلة الأولية» تفيد بأنّ 29 جندياً «سقطوا أبطالاً». وأكّدت الوزارة في بيانها مقتل «عشرات الإرهابيين» خلال صدّ الجيش للهجوم. وينشط في المنطقة بشكل خاص «تنظيم داعش».


مقالات ذات صلة

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

أفريقيا أنصار مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي يحضرون مسيرة حاشدة في أثناء فرز نتائج الانتخابات الرئاسية (إ.ب.أ)

بوتين يتباحث مع الرئيس السنغالي حول الإرهاب في الساحل

مباحثات جرت، الجمعة، بين الرئيس الروسي ونظيره السنغالي، وتم خلالها الاتفاق على «تعزيز الشراكة» بين البلدين، والعمل معاً من أجل «الاستقرار في منطقة الساحل»

الشيخ محمد (نواكشوط)
شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

بعد تعرّض أنصاره للعنف... رئيس وزراء السنغال يدعو للانتقام

رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو يتحدث خلال مؤتمر صحافي في داكار 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو يتحدث خلال مؤتمر صحافي في داكار 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
TT

بعد تعرّض أنصاره للعنف... رئيس وزراء السنغال يدعو للانتقام

رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو يتحدث خلال مؤتمر صحافي في داكار 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)
رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو يتحدث خلال مؤتمر صحافي في داكار 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

دعا رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو إلى الانتقام، وذلك بعد أعمال عنف ضد أنصاره اتهم معارضين بارتكابها خلال الحملة المستمرة للانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها الأحد.

يترأس سونكو قائمة حزب باستيف في الانتخابات التشريعية ويتولى رئاسة الحكومة منذ أبريل (نيسان). وكتب على فيسبوك، ليل الاثنين - الثلاثاء، عن هجمات تعرض لها معسكره في دكار أو سان لويس (شمال) وكونغويل (وسط)، حسب «وكالة الصحافة الفرنسية».

وألقى باللوم على أنصار رئيس بلدية دكار بارتيليمي دياس، الذي يقود ائتلافاً منافساً. وأكد: «أتمنى أن يتم الانتقام من كل هجوم تعرض له باستيف منذ بداية الحملة، وأن يتم الانتقام بشكل مناسب لكل وطني هاجموه وأصابوه»، مؤكداً «سنمارس حقنا المشروع في الرد».

وأكد أنه تم تقديم شكاوى، وأعرب عن أسفه على عدم حدوث أي اعتقالات. وقال: «لا ينبغي لبارتيليمي دياس وائتلافه أن يستمروا في القيام بحملات انتخابية في هذا البلد».

وشجب ائتلاف دياس المعروف باسم «سام سا كادو»، في رسالة نشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، «الدعوة إلى القتل التي أطلقها رئيس الوزراء السنغالي الحالي». وأكد الائتلاف أنه كان هدفاً «لهجمات متعددة».

وأشار إلى أن «عثمان سونكو الذي يستبد به الخوف من الهزيمة، يحاول يائساً تكميم الديمقراطية من خلال إشاعة مناخ من الرعب»، وحمله مسؤولية «أي شيء يمكن أن يحدث لأعضائه وناشطيه ومؤيديه وناخبيه».

وكان الرئيس السنغالي باسيرو ديوماي فاي أعلن في سبتمبر (أيلول) الماضي حل البرلمان، ودعا لانتخابات تشريعية.