الفقر يحاصر 14.5 مليون سوري في بلدهم

البنك الدولي: تراجعت قدرة البلاد على استيعاب الصدمات بعد أكثر من عقد على الصراع

رغم تحسن الأحوال الجوية، تراجع الإنتاج الزراعي في سوريا بسبب نزوح المزارعين (حساب الإعلام الزراعي السوري)
رغم تحسن الأحوال الجوية، تراجع الإنتاج الزراعي في سوريا بسبب نزوح المزارعين (حساب الإعلام الزراعي السوري)
TT

الفقر يحاصر 14.5 مليون سوري في بلدهم

رغم تحسن الأحوال الجوية، تراجع الإنتاج الزراعي في سوريا بسبب نزوح المزارعين (حساب الإعلام الزراعي السوري)
رغم تحسن الأحوال الجوية، تراجع الإنتاج الزراعي في سوريا بسبب نزوح المزارعين (حساب الإعلام الزراعي السوري)

لا تختلف مستويات الاختلالات المعيشية الحادة والمشتركة بين اللبنانيين والنازحين السوريين في لبنان عن مثيلاتها التي تحاصر المواطنين السوريين في بلدهم المنهك بتفاقم الأزمات، بل تتعداها عمقاً، ليضم حزام الفقر نحو 69 في المائة من السكان، أي نحو 14.5 مليون مواطن سوري.

ويظهر تقريران جديدان للبنك الدولي أن الصراع في سوريا، المستمر منذ أكثر من 10 سنوات، الذي ازداد حدةً بفعل الصدمات الخارجية، أدى إلى تفاقم إضافي للوضع الاقتصادي المتردي خلال العام الماضي، كما أدى إلى تدهور كبير في مستوى رفاه الأسر السورية.

وبرز في المعطيات الواردة في التقريرين أن استمرار النقص في التمويل ومحدودية المساعدات الإنسانية ساهما في زيادة استنزاف قدرة الأسر على تأمين احتياجاتها الأساسية، وسط ارتفاع الأسعار، وتراجع الخدمات الأساسية، وزيادة معدلات البطالة.

ويلفت المدير الإقليمي لدائرة الشرق الأوسط في البنك الدولي، جان كريستوف كاريه، إلى أن سوريا شهدت صدمات متعددة ومتداخلة في العام الماضي، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن على الصراع الأكثر دمويةً في هذا القرن تراجعت بشدة قدرة البلاد على استيعاب الصدمات الاقتصادية الخارجية، لا سيما مع الانخفاض الأخير في تدفق المعونات، وصعوبة الحصول على المساعدات الإنسانية واشتداد التوترات الجيوسياسية الإقليمية.

تدهور مستمر

وقد استمر الوضع الاقتصادي في سوريا بالتدهور في عام 2023، وفق الرصد المحدث للبنك الدولي الذي تلقت «الشرق الأوسط» نسخة منه، حيث استمر تراجع النشاط الاقتصادي، وانخفضت قيمة الليرة السورية انخفاضاً كبيراً بنسبة 141في المائة مقابل الدولار الأميركي، وفي الوقت نفسه تشير التقديرات إلى أن تضخم أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 93 في المائة، تبعاً لخفض الدعم الذي تقدمه الحكومة.

ومع تباطؤ الاقتصاد، الذي يعود جزئياً إلى الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية بسبب الزلازل والصراعات، لا تزال إيرادات المالية العامة تسجل تراجعاً، ما يدفع السلطات إلى خفض الإنفاق بشكل أكبر، لا سيما فيما يتعلق بالإنفاق الرأسمالي، مع الضبط الشديد لبرامج الدعم.

وعلى الرغم من التحسن الذي شهده الإنتاج الزراعي بسبب تحسّن الأحوال الجوية خلال العام السابق، فقد أثر الصراع بشدة على قطاع الزراعة، مع نزوح أعداد هائلة من المزارعين والأضرار واسعة النطاق التي لحقت بالبنية التحتية وشبكات الري، ما أدى إلى انخفاض في المحاصيل.

انكماش اقتصادي

كما أثرت الاضطرابات المرتبطة بالصراع تأثيراً شديداً على التجارة الخارجية، وأدى انهيار الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي إلى زيادة اعتماد سوريا على الواردات، كما زاد الاعتماد على الواردات الغذائية مع نشوب الصراع، وإن كان ذلك قائماً قبل عام 2011.

ويتوقع عدد ربيع 2024 من تقرير المرصد الاقتصادي لسوريا أن يستمر الانكماش الاقتصادي، نتيجة تعرض إجمالي الناتج المحلي الحقيقي لحالة غير مسبوقة من عدم اليقين. ومن المتوقع أن ينكمش بنسبة 1.5 في المائة خلال العام الحالي، لتضاف إلى التراجع البالغة نسبته 1.2% في العام السابق.

ومن المتوقع أن يبقى الاستهلاك الخاص، وهو عجلة النمو الرئيسية، في تراجعٍ، مع استمرار تآكل القوة الشرائية بسبب ارتفاع الأسعار. كما يتوقع أن يستمر ضعف الاستثمار الخاص في ظل عدم استقرار الوضع الأمني، والضبابية في المشهد الاقتصادي وعلى مستوى السياسات.

بالتالي، من المتوقع أن يبقى التضخم مرتفعاً هذا العام بسبب الآثار الناجمة عن انخفاض قيمة العملة، فضلاً عن العجز المستمر في أرصدة العملات الأجنبية، واحتمال إجراء مزيد من الخفض في دعم الغذاء والوقود (المحروقات)، حيث تشير موازنة عام 2024 إلى استمرار خفض الدعم للسلع الأساسية.

التوزيع الجغرافي للفقر

ويشير القسم الخاص من النتائج الرئيسية لتقرير رفاه الأسر السورية إلى أنه في عام 2022، طال الفقر 69 في المائة من السكان، أي نحو 14.5 مليون سوري.

وعلى الرغم من عدم وجود الفقر المدقع فعلياً قبل اندلاع الصراع، لكنه طال أكثر من واحد من كل 4 سوريين في عام 2022، وربما زاد حدة وشدة بسبب الآثار المدمرة لزلزال فبراير (شباط) من العام الماضي، كما ساهمت عدة عوامل خارجية، لا سيما الأزمة المالية في لبنان عام 2019، وجائحة «كورونا»، والحرب في أوكرانيا، في زيادة تراجع رفاه الأسر السورية في السنوات الأخيرة.

ووفقاً للتقرير، فإن للفقر في سوريا دلالةً مكانيةً قويةً، إذ إن أكثر من 50 في المائة من الفئات الأشد فقراً يعيشون في ثلاث محافظات فقط (حلب وحماة ودير الزور)، وتسجل المحافظات في الجزء الشمالي الشرقي من سوريا أعلى معدل لانتشار الفقر. أما الأسر التي تعيلها نساء والأسر النازحة داخلياً، فهي الأكثر عرضةً لمخاطر الفقر.

ويشدد التقرير أيضاً على أن التحويلات المالية تمثل شريان حياة بالغ الأهمية للأسر السورية. ويرتبط إرسال التحويلات من الخارج بانخفاض معدلات الفقر المدقع بنحو 12 نقطة مئوية، وانخفاض في معدلات الفقر يقدر بنحو 8 نقاط مئوية.


مقالات ذات صلة

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

المشرق العربي تشييع اثنين من ضحايا هجوم تدمر في الحطابية بمحافظة حمص الجمعة (متداولة)

بعد هجوم تدمر... قيادات إيرانية تتحرك من سوريا نحو العراق

أنباء عن مغادرة قياديين في «الحرس الثوري الإيراني» وميليشيات تابعة لإيران، الأراضي السورية متجهة إلى العراق؛ خشية تعرضهم للاستهداف.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي رجال أمن وإنقاذ في موقع استهدفته غارة إسرائيلية في دمشق (أرشيفية - أ.ب)

تحذير أممي من انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي واسع»

رأت نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، نجاة رشدي، أن منطقة الشرق الأوسط تشهد «خطراً عميقاً»، ودعت إلى «عمل حاسم» لمنع انزلاق سوريا إلى «حريق إقليمي».

علي بردى (واشنطن)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان متحدثاً في البرلمان التركي (الخارجية التركية)

أنقرة: الأسد لا يريد عودة السلام في سوريا

أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن الرئيس السوري لا يريد السلام في سوريا، وحذر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب بدأت تهدد البيئة التي خلقتها «عملية أستانة».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي هاربون من الحرب بلبنان يعبرون منطقة المصنع التي استهدفتها إسرائيل (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة: الغارات على تدمر هي «على الأرجح» الأسوأ في سوريا

قالت نجاة رشدي، نائبة المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، أمام مجلس الأمن: «ازدادت الغارات الإسرائيلية في سوريا بشكل كبير، سواء من حيث الوتيرة أو النطاق».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
خاص عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

خاص كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

تسبب الوجود السوري المتنامي بمصر في إطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد مشروعاتهم الاستثمارية.

فتحية الدخاخني (القاهرة )

نصف سكان اليمن يواجهون تهديدات زائدة بسبب تغير المناخ

الأمطار في اليمن تترك مخيمات النازحين بأوضاع سيئة (المجلس النرويجي للاجئين)
الأمطار في اليمن تترك مخيمات النازحين بأوضاع سيئة (المجلس النرويجي للاجئين)
TT

نصف سكان اليمن يواجهون تهديدات زائدة بسبب تغير المناخ

الأمطار في اليمن تترك مخيمات النازحين بأوضاع سيئة (المجلس النرويجي للاجئين)
الأمطار في اليمن تترك مخيمات النازحين بأوضاع سيئة (المجلس النرويجي للاجئين)

نبّه البنك الدولي إلى المخاطر الزائدة التي يواجهها اليمن نتيجة لتغير المناخ، في وقت يعاني فيه من نزاع طويل الأمد نتيجة انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية. وأكد أن سكاناً كثيرين يواجهون تهديدات نتيجة تغير المناخ، مثل الحرارة الشديدة، والجفاف، والفيضانات.

وذكر ستيفان غيمبيرت، المدير القطري للبنك الدولي في مصر واليمن وجيبوتي، أن «اليمن يواجه تقاطعاً غير مسبوق للأزمات: النزاع، وتغير المناخ، والفقر». وطالب باتخاذ إجراءات فورية وحاسمة «لتعزيز المرونة المناخية لأن ذلك مرتبط بحياة الملايين من اليمنيين». وقال إنه من خلال الاستثمار في الأمن المائي، والزراعة الذكية مناخياً، والطاقة المتجددة، يمكن لليمن أن يحمي رأس المال البشري، ويعزز المرونة، ويضع الأسس «لمسار نحو التعافي المستدام».

الجفاف والفيضانات والحرارة الشديدة تهدد ملايين اليمنيين (الأمم المتحدة)

وفي تقرير لمجموعة البنك الدولي الذي حمل عنوان «المناخ والتنمية لليمن»، أكد أن البلاد تواجه تهديدات بيئية حادة، مثل ارتفاع درجات الحرارة، والتغيرات المفاجئة في أنماط الأمطار، والزيادة في الأحداث الجوية المتطرفة، والتي تؤثر بشكل كبير على أمن المياه والغذاء، بالإضافة إلى التدهور الاقتصادي.

ووفق ما جاء في التقرير الحديث، فإن نصف اليمنيين يواجهون بالفعل تهديدات من تغير المناخ مثل الحرارة الشديدة، والجفاف، والفيضانات. ‏وتوقع أن ينخفض الناتج المحلي الإجمالي السنوي لليمن بنسبة 3.9 في المائة بحلول عام 2040 إذا استمرت السيناريوهات المناخية السلبية، مما يفاقم أزمة الفقر وانعدام الأمن الغذائي.

تحديات متنوعة

في حال تم تطبيق سيناريوهات مناخية متفائلة في اليمن، تحدث تقرير البنك الدولي عن «فرص استراتيجية» يمكن أن تسهم في تعزيز المرونة، وتحسين الأمن الغذائي والمائي. وقال إن التوقعات أظهرت أن الاستثمارات في تخزين المياه وإدارة المياه الجوفية، مع استخدام تقنيات الزراعة التكيفية، قد تزيد الإنتاجية الزراعية بنسبة تصل إلى 13.5 في المائة بين عامي 2041 و2050.

وامتدت تحذيرات البنك الدولي إلى قطاع الصيد، الذي يُعد أحد المصادر الأساسية للعيش في اليمن، وتوقع أن تتسبب زيادة درجات حرارة البحر في خسائر تصل إلى 23 في المائة في قطاع الصيد بحلول منتصف القرن، مما يعمق الأزمة الاقتصادية، ويسهم في زيادة معاناة المجتمعات الساحلية.

التغيرات المناخية ستسهم في زيادة الفقر وانعدام الأمن الغذائي (إعلام محلي)

واستعرض البنك في تقريره التحديات الصحية الناجمة عن تغير المناخ، وقال إنه من المتوقع أن يكلف ذلك اليمن أكثر من 5 مليارات دولار بحلول عام 2050، وتتضمن هذه التكاليف الرعاية الصحية الزائدة نتيجة للأمراض المرتبطة بالطقس مثل الملاريا والكوليرا، وهو ما يضع ضغطاً إضافياً على النظام الصحي الذي يعاني بالفعل من ضعف شديد.

ولهذا، نبّه التقرير إلى أهمية دمج المرونة المناخية في تخطيط الصحة العامة، مع التركيز على الفئات الضعيفة، مثل النساء والأطفال. وفيما يتعلق بالبنية التحتية، أشار التقرير إلى أن المناطق الحضرية ستكون الأكثر تأثراً بازدياد الفيضانات المفاجئة، مع تحذير من أن التدابير غير الكافية لمواجهة هذه المخاطر ستؤدي إلى صدمات اقتصادية كبيرة تؤثر على المجتمعات الهشة.

وفيما يخص القطاع الخاص، أكد التقرير على أن دوره في معالجة التحديات التنموية العاجلة لا غنى عنه. وقال خواجة أفتاب أحمد، المدير الإقليمي للبنك الدولي لـ«الشرق الأوسط»، إن «القطاع الخاص له دور حيوي في مواجهة التحديات التنموية العاجلة في اليمن. من خلال آليات التمويل المبتكرة، يمكن تحفيز الاستثمارات اللازمة لبناء مستقبل أكثر خضرة ومرونة».

وتناول التقرير إمكانات اليمن «الكبيرة» في مجال الطاقة المتجددة، وقال إنها يمكن أن تكون ركيزة أساسية لاستجابته لتغير المناخ، لأن الاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح سيسهم في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتوفير بنية تحتية مرنة لدعم الخدمات الحيوية، مثل الصحة والمياه.

تنسيق دولي

أكد البنك الدولي على «أهمية التنسيق الدولي» لدعم اليمن في بناء مرونة مناخية مستدامة، مع ضرورة ضمان السلام المستدام كون ذلك شرطاً أساسياً لتوفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه الاستراتيجيات.

ورأى أن اتخاذ قرارات مرنة، وتكييف الإجراءات المناخية مع الواقع السياسي في اليمن، من العوامل الحاسمة في مواجهة التحديات، وقال إن التركيز على «السلام والازدهار» يمكن أن يحقق فوائد اقتصادية واجتماعية أكبر في المستقبل.

وزير المياه والبيئة اليمني مشاركاً في فعاليات تغير المناخ (إعلام حكومي)

من جهته، أكد وزير المياه والبيئة توفيق الشرجبي في الجلسة الخاصة بمناقشة هذا التقرير، التي نظمها البنك الدولي على هامش مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، أهمية دمج العمل المناخي في استراتيجية التنمية، والتكيف مع تقلبات المناخ، ومناقشة العلاقة بين المناخ والنزاع والتنمية.

وأشار وزير المياه والبيئة اليمني إلى أن تقرير المناخ والتنمية يشكل مساهمة جيدة لليمن في مواجهة تغير المناخ، وسيعمل على تسهيل الوصول لعدد من التمويلات المناخية في ظل الهشاشة الهيكلية والتقنية التي تعيشها المؤسسات جراء الحرب.

وقال الشرجبي إن التقرير يتماشى بشكل كبير مع الأولويات العاجلة لليمن، خصوصاً في مجال الأمن المائي والغذائي، وتعزيز سبل العيش، وتشجيع نهج التكيف المناخي القائم على المناطق، لافتاً إلى أهمية دور الشركاء التنمويين لليمن في تقديم المساعدة التكنولوجية والتقنية، وبناء القدرات.