«المصالحة الليبية» بعد القذافي... فصول من مداواة «جراح لم تلتئم»

رئيس «مجلس الأعيان» يرصد في كتابه «بين الرمال والملح» تفكيك «خصومات قديمة» عمّقتها السياسة

محمد المبشر رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» (الشرق الأوسط)
محمد المبشر رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» (الشرق الأوسط)
TT

«المصالحة الليبية» بعد القذافي... فصول من مداواة «جراح لم تلتئم»

محمد المبشر رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» (الشرق الأوسط)
محمد المبشر رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة» (الشرق الأوسط)

«الهواء كان حينها معبأً برائحة الجثث المتروكة للعناد، وقد سبقتنا إليها الكلاب، جثا حسن عتيق موسى، (أحد أعضاء فريق المصالحة إلى سبها بالجنوب الليبي) قرب إحداها، مضيفاً بصوت يشبه البكاء: «هذه ليست حرباً، إنها خيانة لأبسط شروط الإنسانية».

في تلك الأثناء من سنوات تلت إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، كانت ليبيا لا تزال مثخنة بالجراح، الرصاص فوق الرؤوس، والشك لغة متبادلة لدى قطاعات واسعة، وجُل المدن من سبها جنوباً وحتى البيضاء شرقاً، خائفة من مصير مجهول. وسبها المعروفة بـ«عروس الجنوب» لم تكن حينها مدينة، «بل حنجرة مذبوحة تصرخ في صمت. النهار يسحب من الشوارع كما تسحب الروح من جسد يحتضر. والمنازل مغلقة، لا رغيف يخبز، ولا ضحكة تولد، فقط الكلاب تنبح، والرصاص يوزع أقدار الموت بعدالة باردة».

كانت هذه إحدى محطات فرق «المصالحة الوطنية»، التي عملت فور سقوط النظام السابق، على عصمة دماء المواطنين، كما رواها الشيخ محمد المبشِّر، رئيس «مجلس أعيان ليبيا للمصالحة»، بوصفه شاهد عيان على وطن مزّقه النزاع: «يموت كل يوم، ويسحق حاضره» تحت عجلات الكره.

«بين الرمال والملح»

جمع المبشر في فصول كتابه «بين الرمال والملح» حكايات عن ليالٍ حالكات مرّت على بلده، وكيف جاب مع رفاقه مدناً عديدة يضمّدون الجراح، التي لم يندمل بعضها حتى الآن، في رحلة استهلّوها من زوارة والجميل اللتين فرقتهما التباينات السياسية، منطلقاً من «الوقوف على المسافة الصعبة بين الحياد الإيجابي، ورفض الانحياز إلى الباطل مهما تعددت وجوهه».

قدم المبشر في كتابه تشريحاً للوطن والمواطن (الشرق الأوسط)

يقول المبشر: «في شتاء لا يشبه الشتاءات، كانت ليبيا تمضي في يومها الثلاثمائة من عام لم ينته؛ كأن عام 2011 علّق نفسه في عنق البلاد، ويأبى أن يُطوى، كانت المدن كالعجائز تنام وتستفيق على كوابيس قديمة، وكل باب يُفتح أو يُطرق يثير رعب السؤال: هل عادت الحرب؟».

ويضيف المبشر: «كنا أول لجنة وساطة ومصالحة في غرب ليبيا، نتحرك بين المدن، وفي الجميل، كان اللقاء الأول في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، حيث الشتاء قاسياً والقلوب أكثر برودة من الهواء؛ ما بين المدينتين خلاف لم تصنعه البنادق، بل موقف سياسي تراكم منذ بداية العام».

ويتابع المبشّر موضحاً: «حين وصلنا الجميل، كانت الأخبار تسبقنا؛ وفد من الجبل الأخضر يضم قرابة 150 شخصاً حضروا ليشاركوا في تضميد الجراح، حينها نهض الشيخ علي بشير الشيباني من (المطرد)، رجل يشبه شجرة الزيتون. كان لا يحمل ورقة، وقال: (جئنا لا نعاتب بل لنعانق، فإن لم نصلح بين الجيران فمن يصلح؟».

ليبيون يقفون على قبور ضحايا سقطوا في صراعات سابقة منتصف سبتمبر 2021 (أرشيفية من رويترز)

وتلا الشيباني إدريس يحيى البرعصي من (الجبل الأخضر)، وقال: «سلام الجيرة أغلى من النصر الذي يزرع الكراهية»، ثم أعقبه الشيخ محمد الكيلاني البوسيفي من (نسمة) بحديث عن الصلح، قبل أن نشد الرحال إلى زوارة في اليوم التالي.

زوارة «جريحة لا غاضبة»

يعكس حديث المبشّر وضعية زوارة، التي قال إنها كانت «جريحة لا غاضبة؛ وكأن أهلها ينتظرون سماع الحقيقة لا المزايدات». يقول: «بدأنا من هناك سلسلة جلسات طويلة مرهقة ومتقطعة لم تنته في ذلك العام، ولا في الذي بعده؛ لكن أول جسر وُضع في الجميل بدأت تسير عليه عروق الجيرة».

دبابة في ساحة رئيسية في مدينة بني وليد في ليبيا يوم 29 أكتوبر 2017 (أرشيفية من رويترز)

تقع الجميل جنوب مدينة زوارة، وتبعد عن العاصمة طرابلس 100 كيلومتر غرباً، وما بين المدينتين كان نتاج «خصومة قديمة» جددتها الانقسامات السياسية حيال «ثورة 17 فبراير (شباط)». حينذاك انخرط أبناء زوارة في صفوف «ثورة 17 فبراير»، فيما ظل قطاع واسع من الجميل على ولائهم لنظام القذافي، ما فجّر مواجهات مسلّحة بين مدنيين ومجموعات محلية، عقب انتصار «الثورة».

ما دوّنه المبشر في أسفاره بين المدن، لم يخلُ من رمزية ورسائل وطرح أسئلة عن الشخصية الليبية، وبشأن مدى صواب هذه التحركات. وملف الأزمة الليبية الذي تجوّل بين عواصم عربية وغربية، برعاية أممية بحثاً عن حل، ها هو يسافر في أوراق المبشِّر مع أحد أبناء الليبيين المهاجرين إلى «المريخ» لذات السبب، قبل أن يعود ثانية إلى الأرض.

النزاعات التي تفجرت عقب سقوط نظام القذافي عديدة، من بينها ما شهدته العلاقة بين مدينتي الأصابعة وغريان. وفي هذا السياق يقول المبشر: «ذهبنا لنطفئ حريقاً بين قبيلتين يطل من نوافذ البيوت. وفي الطريق عند بوابة الكليبة أوقفنا التوتر لا الحواجز، شباب من غريان عيونهم تتقد كأنها لم تُغمض منذ خريف 2011، وبنادق تتجه غرباً نحو الأصابعة، كان المكان يغلي دون نار، وكنا حينها ثمانية».

محتجون من طبرق خرجوا لساحات المدينة خلال التورة التي أطاحت بنظام القذافي (رويترز)

وتابع المبشّر قائلاً: «القذائف كانت تسقط قرب سيارتنا، لا تفرق بين من يحمل نية الإصلاح ومن يجرّ حقيبة الذخيرة، فنعود ونحتمي بالمسجد، لنشعر أننا عدنا أحياءً مؤقتين، نلتقط الأنفاس... وعند المغرب في غريان، وقفنا على قارعة الطريق أنا وأحمد المبروك، وشعبان العمياني، وبلا إنذار جاء الرصاص، ومرت قريباً من رؤوسنا طلقات مدافع الرشاشات (14.5)، وتحول الهواء إلى شظايا. ارتمينا في المسجد لا خوفاً بل لنعيد تعريف معنى البقاء... ومع بزوغ الفجر توقف الرصاص، لكن الثمن كان حاضراً؛ خسائر بشرية ومادية، ووجوه لم تعد كما كانت».

حرب ليست ككل الحروب

يروي المبشِّر أنه «منذ ذلك اليوم، لم تعد الحرب في ليبيا تشبه الحروب، بل كانت تنتقل كالمرض الجلدي، تبدّل مكانها، تغير شكلها، وكان فريق المصالحة - وأنا منهم - كمن يتعقب الجدري في زمن بلا أمصال».

مُنيت بعض جولات فرق المصالحة ببعض الخذلان أمام النار، التي اعتملت في القلوب، وكانت هذه فرصة ليسمع المبشِّر صوتاً من داخله يلومه، مدفوعاً بكثرة الإحباطات، إنه «المبشِّر الثاني» الذي رافقه كظله من سبها وحتى البيضاء يشير له باستحالة الحل.

لكن في لحظة ما بعد «ديالوج» طويل، يتوحد الراوي مع «قرينه»، يقول المبشر: «حين لم أعد من المبشر الثاني، بدأت أسمع ليبيا بصوتها الحقيقي. لا تطلب الإنقاذ ولكن تقول: افتح قلبك وسأبقى. ليبيا ليست للذين لا يخطئون، بل للذين رغم الأخطاء لا يقطعون الحبل».

الاحتجاجات التي أعقبت سقوط نظام القذافي جرت وراءها خصومات وخلافات سياسية بين مؤيدين ومعارضين للنظام البائد (رويترز)

في سبها، تجدد الاقتتال عام 2014 في ظل شتاء قاسٍ، يروي المبشر: «حينها كلفت الحكومة حاكماً عسكرياً على المدينة؛ كلفته لا لينقذ؛ بل ليقال إنها فعلت شيئاً؛ الوطن حينها كان يشبه حكومته، منهكاً بلا كهرباء... بلا وقود بلا لغة... القبيلة وحدها كانت تتكلم، وكلما خرس الوطن ازدادت فصاحتها».

ويضيف: «كنا خمسة، أنا، وزيدان قلاش وعبد الحفيظ اللطيف، وأيوب الشرع والراحل إمحمد الشرع، دخلنا مقر الحاكم العسكري، كان المكان أقرب إلى خيمة عزاء لا تزال تهرب من إعلان الحداد، جلسنا مع أطراف ثلاثة، كل طرف يتهم الآخر، وكل عين تحمل في بياضها تاريخاً من الدم».

ثم، وسط حالة من الصمت، قال أحد شيوخ سبها: «هناك جثتان مرميتان منذ أربعة أيام، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب، القناص يقترب»... يقول المبشِّر، «دون تفكير واستجابة للإنسانية ذهبنا بعد تنسيق أنا وحسن العياط، وثلاثة رجال بسيارة إسعاف، دخلنا شارع الموت بصمت، وحين وصلنا كان الهواء برائحة الجثث المتروكة؛ وقد سبقتنا إليها الكلاب، ركع العياط قرب إحداها وقال بصوت مجهوش بالبكاء: (هذه ليست حرباً، هذه خيانة لأبسط شروط الإنسانية)».

«لم يطلق القناص رصاصته. ربما اختنق خلف منظاره، ربما تذكر أن له أماً تنتظر عشاءه، أو ربما أدرك أن الرصاصة الأخيرة لا تقتل... بل تدين»، هكذا يقول المبشِّر.

باتساع خريطة ليبيا تركت الحرب والخصومات عليها أثراً عليها، وكان على فرق المصالحة ملاحقتها ومداواة جراحها، من الأصابعة إلى الكفرة، ثم من طرابلس إلى القاهرة مروراً بتونس. يقول المبشر: «جلسنا مع المهجّرين والمهاجرين في مصر، رجال من طرابلس ومصراتة وبنغازي، أصواتهم كانت محمّلة بالاتهامات والحزن، بدأ الحوار حاداً ومتوتراً، أحد المهجّرين اتهم الوفد بالخيانة، لكننا تعلمنا أن نصغي أكثر مما نتحدث».

وتابع: «تدريجياً بدأ الحوار يلين؛ تحدثوا عن المدن التي تركوها، عن الأحياء التي فقدوها، وعن القادة الذين جعلوهم يفرون، وكل حكاية كانت تضيف ثقلاً نفسياً على الوفد، وتزيد شعورنا بالمسؤولية... لم تُحل المشاكل ولم تتوقف الحروب، لكننا كنا نحمل معنا فهماً أعمق، وإيماناً بأن المصالحة تبدأ بالحديث الصادق. عدنا إلى القاهرة نهاية 2018 عن طريق البر في وفد مكوَّن من 40 رجلاً، مررنا على مدن ليبية عدة عند الحدود. كانت دقات القلب تتصاعد وأوراق السفر بين أيدينا، فجأة ظهر رجال قبائل أولاد علي، يلوحون لنا من مسافة بعيدة يحملون الترحيب في أعينهم وأيديهم، تقدمهم عمدة السلوم وشيخها مرحباً: (أهلاً بكم، هنا داركم)».

لم ينس المبشِّر أن تحوي طيات كتابه تشريحاً للوطن والمواطن، مقدماً رؤية شارحة للشخصية الليبية، ومتسائلاً: «ما الذي يجعل الليبي ليبياً؟ هل هو الرمل الذي يحترق تحت قدميه، أم الملح الذي يخزنه جسده من بحر لم يشبع عطشه؟... هل هي القبيلة التي تعلمه الحذر؟ أم الغنيمة التي تجعله يتقن القنص ولو في زمن السلم؟ أم الدولة التي ما زال يراها شعاراً لا مؤسسة؟».

يلفت المبشِّر في كتابه «بين الرمال والملح» إلى أنه حين بدأت رائحة الدم تتسرب إلى أركان المدن، لم تتشكل لجان، ولم تُعقد مؤتمرات، بل كان هناك شيء آخر لا نستطيع وصفه بسهولة، إنه «الفزعة».

ينوه المبشر إلى أنه «حين يشعر الليبي بالخطر لا ينتظر دعوة، وحين يرى الدم لا يسأل عن تفاصيل، بل يتحرك بدافع أعمق من السياسة وأصدق من التحليل».

وينتهي المبشر قائلاً: «إن وجدت ميزان العدل، رأيت التنوع قوة، والشراكة ممكنة. وإن غاب أصبحت الصحراء محكمة والبنادق مُشرّعة، والقبيلة آخر دولة باقية».


مقالات ذات صلة

مثول ليبي أمام «الجنائية الدولية» يقلب الطاولة على رئيس «الوحدة»

شمال افريقيا الهيشري القيادي في «جهاز الردع» الليبية خلال مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية الأربعاء (المحكمة)

مثول ليبي أمام «الجنائية الدولية» يقلب الطاولة على رئيس «الوحدة»

عدّ المجلس الاجتماعي «لسوق الجمعة - النواحي الأربع» في العاصمة الليبية، القبض على الهيشري، «اعتداءً سافراً على سيادة الدولة الليبية وتصفية للقضاء الوطني».

جمال جوهر (القاهرة)
شمال افريقيا النائب العام الليبي الصديق الصور (مكتب النائب العام)

النيابة العامة تحقق في قضية تزوير «أوراق وطنية»

قال مكتب النائب العام الليبي إن التحقيقات انتهت من فحص تسعة قيود عائلية وتبين للمحقق تآمر موظف بمكتب السجل المدني مع تسعة أشخاص غير ليبيين

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا الدبيبة مستقبلاً المبعوثة الأممية في مكتبه بطرابلس الأربعاء (مكتب الدبيبة)

محادثات أممية - كندية حول سبل تنفيذ «خريطة الطريق» الليبية

ناقشت المبعوثة الأممية إلى ليبيا مع الدبيبة آليات تطبيق «خريطة الطريق»، بما في ذلك إطلاق «الحوار المهيكل» وقضايا أخرى تتعلق بتطورات العملية السياسية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا على الرغم من قبول البعض بمبدأ إجراء الانتخابات الرئاسية فإنهم أبدوا مخاوفهم من عقبات كبيرة تعترض المسار الذي اقترحته المفوضية (مفوضية الانتخابات)

كيف يرى الليبيون إمكانية إجراء الانتخابات الرئاسية في أبريل المقبل؟

رفض مجلس حكماء وأعيان طرابلس إجراء الانتخابات الرئاسية قبل وجود دستور، وذهب إلى ضرورة تجديد الشرعية التشريعية أولاً عبر الانتخابات البرلمانية.

علاء حموده (القاهرة )
شمال افريقيا محادثات صدام حفتر وقائد «أفريكوم» (الجيش الوطني)

«الجيش الوطني» الليبي يناشد واشنطن رفع «حظر التسليح»

دعا الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الولايات المتحدة عبر قيادتها العسكرية في أفريقيا «أفريكوم» لرفع حظر التسليح المفروض دولياً منذ 2011

خالد محمود (القاهرة )

بريطانيا تنهي تقييد حركة ناشط مصري تصدى لـ«حصار السفارات»

أحمد عبد القادر (ميدو) رئيس اتحاد شباب المصريين في الخارج (صفحته على فيسبوك)
أحمد عبد القادر (ميدو) رئيس اتحاد شباب المصريين في الخارج (صفحته على فيسبوك)
TT

بريطانيا تنهي تقييد حركة ناشط مصري تصدى لـ«حصار السفارات»

أحمد عبد القادر (ميدو) رئيس اتحاد شباب المصريين في الخارج (صفحته على فيسبوك)
أحمد عبد القادر (ميدو) رئيس اتحاد شباب المصريين في الخارج (صفحته على فيسبوك)

أنهت السلطات البريطانية تقييد حركة رئيس «اتحاد شباب المصريين في الخارج»، أحمد عبد القادر (ميدو)، الذي سبق توقيفه على ذمة اشتباكات أمام السفارة المصرية في لندن خلال تصديه لما عرف بحملة «حصار السفارات المصرية بالخارج»، في أغسطس (آب) الماضي.

وأعلن الشاب المصري عبر حسابه على «فيسبوك»، الخميس، «إلغاء قرار منعه من السفر وتحديد إقامته والمراقبة، واتخاذه قرار بالعودة إلى مصر»، مشيراً إلى إسقاط غالبية التهم الموجهة ضده، فيما تتبقى أمامه قضية واحدة مرتبطة بـ«تهديد المتظاهرين» ستنظر في أغسطس 2026.

وترجع وقائع القضية إلى إيقاف ميدو من جانب الشرطة البريطانية برفقة نائبه أحمد ناصر عدة ساعات على خلفية الاشتباك مع محتجين مصريين وعرب أمام سفارة مصر في لندن اتهموا خلالها السلطات المصرية بمنع إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، قبل الإفراج عن الموقفين إثر اتصال بين وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ومستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول.

ورغم عودة ناصر بعدها إلى مصر على الفور، ظل ميدو ممنوعاً من مغادرة بريطانيا لحين نظر المحكمة في قضيته التي بدأت في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، واستكملت في جلسة الخميس الرابع من ديسمبر (كانون الأول).

ومنذ نهاية يونيو (حزيران) الماضي، شهدت سفارات وبعثات دبلوماسية مصرية حول العالم احتجاجات ومحاولات «حصار وإغلاق»، بدعوى مطالبة القاهرة بفتح «معبر رفح» على الحدود مع غزة، وإيصال المساعدات لأهالي القطاع الذين يعانون «التجويع»، وذلك رغم تأكيدات مصرية رسمية متكررة على عدم إغلاق المعبر من الجانب المصري، وأن منع دخول المساعدات يعود للقوات الإسرائيلية المسيطِرة على الجانب الفلسطيني من المعبر.

وقال مسؤولون وبرلمانيون مصريون إن حصار السفارات المصرية في الخارج يأتي ضمن «حملات تحريضية» تدبرها جماعة «الإخوان المسلمين»، المحظورة في مصر، بهدف «تشويه الدور المصري في دعم القضية الفلسطينية».

وفي رسالته على «فيسبوك»، الخميس، وجه ميدو الشكر إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووزير الخارجية عبد العاطي الذي قال إنه لم يتأخر عن الوقوف بجانبه خلال الفترة الماضية.

جانب من استقبال الشاب المصري أحمد ناصر بعد عودته من لندن في أغسطس الماضي (صفحته على فيسبوك)

وقال نائبه ناصر لـ«الشرق الأوسط» إن هناك بلاغات متبادلة بينهما واثنين ممن هاجموا السفارة وإنها ستُنظر أمام القضاء في مايو (أيار) المقبل، بينما ستُنظر بلاغات أخرى مقدمة ضد ميدو في أغسطس، متوقعاً الحصول على براءة من الادعاءات التي ينظرها القضاء البريطاني كونها «احتوت على معلومات غير صحيحة».

وأضاف: «ميدو لا يواجه أي مشكلات قانونية في العودة إلى بريطانيا خلال الفترة المقبلة»، مشيراً إلى أنه سيعود معه لاستكمال مشاريعهما ونشاطهما التجاري مع استمرار سريان إقامتهما الدائمة.

وعَدَّ عضو مجلس النواب مصطفى بكري القرار البريطاني «متوقعاً» ويعكس نجاح جهود الدبلوماسية المصرية في الدفاع عن المواطنين المصريين بالخارج.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ميدو لم يرتكب أي جريمة يعاقَب عليها، وإنما الجريمة هي التي ارتكبها المتطرفون الذين ذهبوا إلى السفارة لمحاصرتها».


عشرات «الطعون» الجديدة تلاحق انتخابات «النواب» المصري

مصريون يستعدون لدخول أحد مراكز الاقتراع في انتخابات مجلس النواب (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)
مصريون يستعدون لدخول أحد مراكز الاقتراع في انتخابات مجلس النواب (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)
TT

عشرات «الطعون» الجديدة تلاحق انتخابات «النواب» المصري

مصريون يستعدون لدخول أحد مراكز الاقتراع في انتخابات مجلس النواب (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)
مصريون يستعدون لدخول أحد مراكز الاقتراع في انتخابات مجلس النواب (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)

تلاحق عشرات الطعون القضائية نتائج المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب المصري، لتضاف إلى سلسلة الطعون التي رافقت المرحلة الأولى، وأدت إلى إعادة الانتخابات في عدة دوائر، وسط جدل سياسي حول إجراءات الاستحقاق البرلماني.

وصوت المصريون، الخميس، في اليوم الثاني (الأخير) للانتخابات في الدوائر الـ19 الملغاة، بالإضافة إلى دائرة إعادة بالفيوم، ضمن المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب.

وجرت عمليات التصويت في 1775 لجنة فرعية على مستوى الـ20 دائرة في 7 محافظات، والتي يتنافس فيها 455 مرشحاً على 43 مقعداً.

وتوالت الطعون على المحكمة الإدارية العليا ضد قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات بإعلان نتائج الجولة الأولى للمرحلة الثانية، حيث بلغ عددها حتى منتصف اليوم 200 طعن من مختلف المحافظات المشمولة بالمرحلة، وفق وسائل إعلام محلية.

وتحفظت الهيئة الوطنية للانتخابات عن التعليق على هذا العدد من الطعون، فيما قال المستشار أحمد بنداري، مدير الجهاز التنفيذي بالهيئة الوطنية للانتخابات، لـ«الشرق الأوسط»، إن «الهيئة ما زالت تنتظر نهاية يوم الخميس، وهو آخر موعد قانوني لتقديم الطعون، وفق الجدول الزمني المعتمد».

وأوضح مصدر قضائي مصري أن الدائرة الأولى بالمحكمة الإدارية العليا ستبدأ فحص ملفات الطعون، وحددت الجلسة الأولى لنظرها في 7 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. كما يحق للمرشحين غير الفائزين التقدم بطعونهم خلال 48 ساعة من إعلان النتيجة.

لقطة من أمام إحدى اللجان الانتخابية بمحافظة الجيزة (المنظمة المصرية لحقوق الإنسان)

ونظراً لتزايُد الطعون المرتبطة بالمرحلة الثانية للانتخابات، يرجح أستاذ القانون الدستوري عبد الله المغازي احتمال إعادة الانتخابات في عدد من دوائر المرحلة الثانية، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن هذا الاحتمال «يتوقف على طبيعة الأسباب التي يستند إليها المرشحون في طعونهم، ومدى اقتناع المحكمة بصلابة الحجج القانونية المقدَّمة».

وشدّد المغازي على أن المحكمة تعتمد معياراً رئيسياً يتمثل في التحقق من سلامة العملية الانتخابية، وضمان الالتزام الصارم بالأطر القانونية المنظمة لها قبل إصدار أي قرار بإعادة الاقتراع.

وتوزعت الطعون على المرحلة الثانية للانتخابات على 10 محافظات هي: القاهرة، والدقهلية، والقليوبية، والشرقية، وكفر الشيخ، والغربية، وشمال سيناء، والمنوفية، والإسماعيلية، ودمياط، بحسب وسائل إعلام محلية.

يأتي هذا وسط حالة من الجدل السياسي والقانوني، عقب سلسلة المخالفات التي رافقت التصويت في المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية، ودفعت الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى مطالبة الهيئة الوطنية للانتخابات بمراجعة التجاوزات.

وبعد إلغاء نتائج 19 دائرة في سبع محافظات دفعة واحدة، أصدرت المحكمة الإدارية العليا قرارات أبطلت فيها نتائج 30 دائرة أخرى؛ لتقفز نسبة الدوائر الملغاة في النظام الفردي إلى ما يتجاوز 60 في المائة.

وتؤكد الهيئة الوطنية للانتخابات أن الإجراءات المتخذة لتصحيح المسار «تعكس قوة مجلس النواب المقبل»، وفقاً للمستشار بنداري الذي قال في تصريحات متلفزة إن كل الإجراءات القانونية والرقابة القضائية اتُّخذت لضمان أن يكون المجلس منتخباً بإرادة الناخبين.

لكن الكاتب الصحافي عبد الله السناوي يرى أن حجم الدوائر الملغاة والأحكام القضائية التي انتقدت امتناع الجهة المشرفة عن تقديم محاضر الفرز في المرحلة الأولى، «لا يمكن اعتبارهما مجرد خلل إجرائي عابر».

وقال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الطعون المتزايدة وإعادة الانتخابات في هذا العدد الكبير من الدوائر «ليستا دليلاً على تصحيح المسار، بل هما مؤشر على اضطراب أعمق في البيئة القانونية والتنظيمية»، مشدداً على أن أنصاف الحلول «لا تبني شرعية مستقرة للبرلمان»، ودعا إلى «إصلاح عميق للبنية القانونية للانتخابات، وفتح المجال العام، وإطلاق الحريات السياسية؛ كخطوة أولى لإصلاح هذا المشهد».

ومن المقرر إعادة التصويت في الدوائر الثلاثين الملغاة بحكم «الإدارية العليا» للمرحلة الأولى، بحيث تُجرى الجولة الأولى يومي 8 و9 ديسمبر الحالي للمصريين بالخارج، ويومي 10 و11 ديسمبر للداخل، على أن تعلن النتيجة يوم 18 من الشهر.

وفي حالة الإعادة، تُجرى الانتخابات في الخارج يومي 31 ديسمبر و1 يناير (كانون الثاني)، وفي الداخل يومي 3 و4 يناير، وتُعلن النتيجة النهائية يوم 10 يناير.


تصاعد التوتر المصري - الإثيوبي في النزاع المائي

سد النهضة الإثيوبي (أ.ف.ب)
سد النهضة الإثيوبي (أ.ف.ب)
TT

تصاعد التوتر المصري - الإثيوبي في النزاع المائي

سد النهضة الإثيوبي (أ.ف.ب)
سد النهضة الإثيوبي (أ.ف.ب)

صعّدت إثيوبيا لهجتها ضد مصر على خلفية نزاع «سد النهضة»، متهمة إياها بالسعي إلى «احتكار نهر النيل» استناداً لاتفاقيات أُبرمت خلال «الحقبة الاستعمارية»، وعرقلة المفاوضات بين البلدين، وهو ما عدَّه خبراء ومحللون «لغة تصعيدية» قد تضاعف الخلافات القائمة.

وفي بيان صدر، الأربعاء، قالت الخارجية الإثيوبية إن المسؤولين المصريين «يدَّعون احتكار مياه النيل تحت ذريعة معاهدات تم إبرامها خلال الحقبة الاستعمارية». وأثار البيان حفيظة المصريين.

ورغم استمرار المفاوضات بين البلدين بمشاركة السودان لأكثر من 12 عاماً بحثاً عن التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن بناء «سد النهضة» وتشغيله، اتهم البيان الإثيوبي مصر بـ«عرقلة المفاوضات»، ودعت أديس أبابا الجهات المعنية إلى إدانة ما وصفته بـ«السلوك غير المسؤول من جانب مصر بالتظاهر بالانخراط في التفاوض والحوار دون جدوى».

وصدر البيان بعد ساعات من تحذير وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي من «الممارسات الإثيوبية غير المسؤولة» على حوض نهر النيل الشرقي، مؤكداً خلال مؤتمر صحافي في برلين مع وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول، الثلاثاء، أنها «تُشكل خطراً داهماً على مصالح مصر المائية وأمنها القومي».

مؤتمر صحافي بين وزيري الخارجية المصري بدر عبد العاطي والألماني يوهان فاديفول الثلاثاء تحدث فيه عن موقف مصر من سد النهضة (الخارجية المصرية)

وكانت إثيوبيا قد افتتحت سد النهضة رسمياً في سبتمبر (أيلول) الماضي، بعد 14 عاماً من بدء أعمال البناء، وهو أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا.

واتفق خبراء مصريون في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» على أن بيان إثيوبيا «حمل لغة تصعيدية» قد تضاعف من خلافات البلدين فيما يتعلق بالتعامل مع الملف المائي، ويفتح الباب أمام إقدام القاهرة على اتخاذ إجراءات قانونية إزاء ما تراه عدم التزام بالقوانين المنظمة لاستخدامات المياه في الأنهار الدولية، دون استبعاد أي حلول حال تعرض مصالحها للضرر.

وأبدت إثيوبيا من خلال البيان تمسكها بما تعده حقها في «استخدام مواردها المائية»، مؤكدة أنها «غير ملتزمة مطلقاً بأن تطلب الإذن من أي جهة لاستخدام الموارد الطبيعية الموجودة داخل حدودها».

والنيل الأزرق الذي بنت عليه إثيوبيا «سد النهضة» هو المنبع الرئيسي لنهر النيل في مصر.

القانون الدولي

وقال رئيس لجنة الشؤون الأفريقية في مجلس النواب المصري، شريف الجبلي، إن البيان «تجاوز الأعراف الدبلوماسية، ويزيد صعوبة العودة إلى الحوار البناء بين إثيوبيا ومصر والسودان».

وأضاف: «البيان لا يعترف بالاتفاقيات المعمول بها سابقاً بشأن الحقوق المائية التاريخية لدولتي المصب، ويتجاوز قوانين إدارة الأنهار الدولية التي تنص على الاستخدام العادل والمعقول للمياه».

وأكد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن البيان «يتجاهل مسألة عدم الإضرار بالدول الأخرى، وهو ما يشير إلى إصرار إثيوبيا على اتخاذ موقف أحادي بشأن استخدامات مياه النهر، ما يفتح الباب أمام إقدام مصر على اتخاذ إجراءات قانونية لمواجهة انتهاكات القانون الدولي».

وتابع قائلاً: «لدى مصر حقوق تاريخية وقانونية لا يمكن تجاهلها»، مشيراً إلى أن البيان الإثيوبي «يهدد الأمن المائي، ويتطلب خططاً استراتيجية تعمل على مواجهة أي تصعيد غير محسوب في قضية المياه قد يضر بالأمن في منطقة القرن الأفريقي».

رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لدى افتتاحه سد النهضة (الخارجية الإثيوبية)

وتتمسَّك القاهرة بما تعده «الحق التاريخي» لها في مياه النيل وفقاً لاتفاقيات دولية تضمن لها حصة تقدر بـ55.5 مليار متر مكعب من المياه.

وأكد الجبلي أهمية استمرار المطالبات المصرية بتطبيق القانون الدولي والتوصل إلى اتفاق قانوني بشأن «سد النهضة» بإشراف جميع الأطراف الدولية بما فيها الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، «لضمان إدارة الموارد المائية بشفافية واستحداث آلية مراقبة مشتركة تتضمن الرقابة التقنية الدقيقة لتتبع تدفقات مياه النيل ومنع الإجراءات الأحادية».

الخيارات المتاحة

مساعد وزير الخارجية المصري لشؤون السودان السابق، حسام عيسى، قال إن البيان الإثيوبي جاء رداً على النشاط الدبلوماسي المصري الرافض لتصرفات أديس أبابا «الأحادية» بشأن تشغيل السد، «التي أدت إلى فيضانات في السودان وصلت تأثيراتها إلى مصر».

وقبل أيام فندت وزارة الري المصرية إجراءات إثيوبيا التي أدت إلى «عدم انتظام تصريف المياه»، ما دفعها إلى إعلان إجراءات حمائية لاستيعاب المياه الزائدة.

وقال عيسى لـ«الشرق الأوسط»: «مصر تضع الآن جميع أوراقها على الطاولة، ولديها الوسائل المتاحة كافة لحماية مصالحها وأمنها المائي، ولن تقبل بنقص قطرة مياه واحدة، وسعيها إلى تجنب المشاكل والصراعات لا يعني عدم سلكها الطرق كافة التي تضمن أمنها».

وأضاف: «الخلاف المصري مع إثيوبيا يتركز في نهجها القائم على عدم وضع اعتبار للأضرار التي قد يتعرض لها جيرانها، سواء كان ذلك بشأن سد النهضة أو سعيها إلى الوصول لمنفذ بحري على البحر الأحمر».

ويرى الخبير في الشأن الأفريقي، رامي زهدي، أن مصر يمكنها التحرك لحفظ الحقوق المائية عبر استخدام «الوسائل الدبلوماسية، أو اللجوء إلى المحاكم الدولية، أو استخدام وسائل خشنة حالة الضرورة».

وأوضح في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن حالات الضرورة تتمثل في «وجود مهددات لاستقرار الدولة المصرية، أو التأثير سلباً على الأمن في منطقة البحر الأحمر، أو الاستمرار في إجراءات تهديد الأمن المائي عبر تصريف كميات هائلة من المياه بما يشكل خطراً داهماً أو شح المياه».

وسبق أن أعلنت مصر انتهاء مسار التفاوض بشأن السد، متهمة إثيوبيا بالتعنت وإفشال المفاوضات، مؤكدة أنها تحتفظ بحقها في الحفاظ على مصالحها الوجودية وفقاً للقانون الدولي، على أساس أن نهر النيل شريان الحياة في البلاد ومصدرها الوحيد للمياه.