تسيطر على الشارع الجزائري حالياً تساؤلات كثيرة حول مآل التصعيد الحاصل بين بلدهم الجزائر وفرنسا، ويترقب جل الجزائريين بتوجس وحذر شديدين رد فعل باريس على ما عدته «إذلالاً» جزائرياً لها، بعد رفض السلطات الجزائرية استعادة مؤثر جزائري يدعى بوعلام، قامت باريس بترحيله إلى بلده.
وتنبع هذه التساؤلات المحيرة وحالة الترقب الشديدة من التصريحات الحادة التي أدلى بها عدد من المسؤولين الفرنسيين حيال الجزائر، وتوجه الحكومة الفرنسية لمزيد من التصعيد مع الجزائر، الأمر الذي ينذر بمزيد من التوتر والتأزيم، ويطرح بقوة فرضية الذهاب إلى إجراءات عقابية؛ كالحجز على ممتلكات وعقارات رسميين جزائريين، وهو الأمر الذي يؤيده 72 في المائة من الفرنسيين، حسب استطلاع للآراء أجرته إذاعة «أوروبا 1»، إلى جانب وقف منح العمل باتفاقية 1968، التي تمنح الجزائريين امتيازات على صلة بالعمل والإقامة، واتفاقية منح التأشيرات للرسميين المبرمة عام 2007. كما أن رئيس الوزراء الفرنسي السابق غابريال أتال دعا بدوره إلى وقف العمل بالاتفاقية الفرنسية - الجزائرية. فيما صرح وزير الداخلية برونو ريتيللو لوسائل إعلام محلية بأنه «من الواضح أن الجزائر تسعى إلى إذلال فرنسا، وأنه بات من الضروري إعادة تقييم العلاقات الثنائية بين البلدين، بما في ذلك الإجراءات المستقبلية المتعلقة بالجزائر».
مرحلة بالغة الخطورة
في رده على الأزمة الجديدة بين الجزائر وفرنسا، قال وزير الداخلية ريتيللو: «أعتقد أننا وصلنا مع الجزائر إلى مرحلة بالغة الخطورة، لا سيما أن الجزائر تعتقل حالياً كاتباً عظيماً، هو بوعلام صنصال، وهو ليس فقط جزائرياً، بل هو فرنسي أيضاً».
بدوره، حذر وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، من أن بلاده «لن يكون لديها خيار آخر سوى الرد، إذا واصل الجزائريون هذا الموقف التصعيدي»، في إشارة إلى رفض الجزائر تسلم المؤثر بوعلام نعمان، من طرف السلطات الفرنسية.
وقال بارو، أمس الأربعاء، إن الرئيس إيمانويل ماكرون، وأعضاء رئيسيين في الحكومة «سيجتمعون في الأيام المقبلة لتحديد طريقة للرد»، على ما تعدّه باريس عداء متزايداً من الجزائر. وظلت العلاقات بين باريس والجزائر معقدة على مدى عشرات السنين، لكن الوضع تفاقم منذ يوليو (تموز) الماضي، حين أغضب ماكرون سلطات الجزائر بالاعتراف بخطة الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء تحت السيادة المغربية. ولم تنقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن مسؤولين فرنسيين قالوا إن الجزائر «تتبنى سياسة تستهدف محو الوجود الاقتصادي الفرنسي من البلاد، حيث انخفض التبادل التجاري بنحو 30 في المائة منذ الصيف».
وقال مسؤولون فرنسيون إن لسوء العلاقات «تأثيرات كبيرة في المجالات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية»، مشيرين إلى حجم التجارة الهائل، وإلى حقيقة مفادها أن نحو 10 في المائة من سكان فرنسا، البالغ عددهم 68 مليون نسمة، لديهم روابط مع الجزائر.
موقف عدائي
قال جان نويل بارو أمام المشرعين الفرنسيين، أمس الأربعاء، إن «العلاقة بين فرنسا والجزائر ليست علاقة ثنائية مثل أي علاقة أخرى، بل هي علاقة وثيقة للغاية»، متهماً الجزائر باتخاذ «موقف عدائي»، عارضاً الذهاب إلى الجزائر لمناقشة الأزمة. ولشرح بعض الجوانب من هذا «الموقف العدائي»، قال ثلاثة دبلوماسيين إنه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، اقترحت «جمعية البنوك الجزائرية» إصدار أمر تنفيذي لإنهاء المعاملات المصرفية من وإلى فرنسا، في تحدٍّ شفهي، رغم أنها لم تمض قدماً في ذلك، نظراً لطبيعة العلاقات التجارية الواسعة بين البلدين. في سياق ذلك، يؤكد دبلوماسيون وتجار أن الشركات الفرنسية لم تعد تؤخذ في الاعتبار في المناقصات الخاصة باستيراد الجزائر للقمح الذي كانت فرنسا مصدراً رئيسياً له.
وإلى جانب الأعمال التجارية، اتهم ماكرون الجزائر بأنها «تهين نفسها» باحتجازها التعسفي للمؤلف الفرنسي الجزائري، بوعلام صنصال، الذي تدهورت صحته في الأسابيع القليلة الماضية. ومع تعرض حكومة ماكرون لضغوط لتشديد سياسات الهجرة، اندلع خلاف دبلوماسي أيضاً، الأسبوع الماضي، بعد اعتقال عدد من المؤثرين الجزائريين على وسائل التواصل الاجتماعي في فرنسا، واتهامهم بالتحريض على العنف. وقد تم ترحيل أحدهم (بوعلام) إلى الجزائر، لكن السلطات أعادته إلى باريس استناداً إلى إجراءات قانونية. وأثار ذلك غضب الأحزاب اليمينية في فرنسا، حيث اتهم وزير الداخلية، برونو ريتيللو، الجزائر بمحاولة إذلال القوة الاستعمارية السابقة. وقال بلهجة حادة: «هذا انتهاك للسياقات التي تحكم علاقتنا، وسابقة نعدّها خطيرة»، مضيفاً أن هذا التصرف، علاوة على اعتقال صنصال، دفع باريس إلى السعي لتحديد طريقة للرد.
في المقابل، نفت وزارة الخارجية الجزائرية، السبت، سعيها للتصعيد مع فرنسا، وقالت إن اليمين المتطرف في فرنسا هو من يشن حملة تضليل إعلامي ضد الجزائر.
جروح الماضي
تأثرت العلاقات بين البلدين بالذكريات التي تركتها حرب الاستقلال التي اندلعت بين عامي 1954 و1962، حين استقلت الدولة الواقعة في شمال أفريقيا عن فرنسا. وقُتل نحو 400 ألف مدني ومقاتل جزائري، بالإضافة إلى نحو 35 ألف فرنسي، وما يصل إلى 30 ألف مسلم «حركي» كانوا يقاتلون في الجيش الفرنسي ضد الثوار الجزائريين. وعلى مر السنين، طالب الرئيس ماكرون بمزيد من الشفافية فيما يتعلق بماضي فرنسا مع الجزائر، لكنه قال أيضاً إن «النظام السياسي العسكري» في الجزائر أعاد كتابة تاريخ الاستعمار على أساس «كراهية فرنسا».
بهذا الخصوص، يقول جلال حرشاوي، الزميل المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، إن الدولتين تخوضان مواجهة متصاعدة، مضيفاً: «كثيرون من الساسة في باريس يقولون إنهم يريدون إجبار الجزائر على تخفيف موقفها، لكن الجزائر لديها كل النية للتمسك بموقفها. وهي تشعر بجرأة أكبر بسبب حقيقة أن فرنسا أصبحت أقل أهمية بالنسبة لاقتصادها، مقارنة بما كانت عليه قبل بضع سنوات».