هل يعرقل الوجود التركي في «القرن الأفريقي» تحسن العلاقات بين القاهرة وأنقرة؟

عقب اتفاق الصومال مع حكومة إردوغان على التعاون الدفاعي

الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود (رويترز)
الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود (رويترز)
TT

هل يعرقل الوجود التركي في «القرن الأفريقي» تحسن العلاقات بين القاهرة وأنقرة؟

الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود (رويترز)
الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود (رويترز)

أثار إقرار الصومال اتفاقية أمنية واقتصادية مع تركيا تساؤلات حول مدى تأثير الاتفاقية التي تعزز الحضور التركي في «القرن الأفريقي»، على المصالح المصرية في المنطقة، في وقت تشهد فيه العلاقات المصرية التركية تحسناً متسارعاً، لا سيما بعد الزيارة التي قام بها الرئيس التركي للقاهرة قبل نحو أسبوع، ووقَّع خلالها البلدان اتفاقاً لتأسيس مجلس للتعاون الاستراتيجي رفيع المستوى.

ورأى خبراء ومختصون في الشأنين التركي والأفريقي تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» أن التفاهمات المصرية - التركية والتقارب اللافت في العلاقات بين البلدين في الآونة الأخيرة، كل ذلك «يدفع باتجاه التعاون لا التنافس»، وأن الحضور المصري والتركي في منطقة القرن الأفريقي، ذات الأهمية الاستراتيجية للبلدين، «يمكن أن يوفر إطاراً من التعاون في مواجهة التحركات الإثيوبية».

وكان البرلمان ومجلس الوزراء في الصومال قد صادقا، الأربعاء، على اتفاقية للتعاون الدفاعي والاقتصادي مع تركيا، مدتها 10 سنوات. ونقلت وكالة الأنباء الصومالية عن الرئيس حسن شيخ محمود، قوله إن الاتفاقية تهدف إلى «بناء البحرية الصومالية وحماية الموارد البحرية»، مشدداً على أنها «ليست معادية لأي دولة أخرى، ولا تهدف بأي حال إلى إثارة الكراهية، أو نزاع مع أي دولة أو حكومة أخرى».

وأشاد الرئيس الصومالي بدعم تركيا لبلاده قائلاً إنها «الدولة الوحيدة التي أبدت استعدادها لمساعدة الصومال في حماية مياهه الإقليمية واستغلال موارده وإعادة تأهيل البحرية الصومالية».

حليف حقيقي

من جانبه، قال رئيس الوزراء الصومالي حمزة عبدي بري، إن الاتفاقية الدفاعية مع تركيا ستسهم في «حماية الحدود البحرية من الإرهاب والقرصنة وعمليات الصيد غير المشروعة»، وأضاف: «سيكون للصومال حليف حقيقي وصديق وأخ على الساحة الدولية».

وبموجب الاتفاق ستوفر تركيا التدريب والمعدات للبحرية الصومالية كي تتمكن من حماية مياهها الإقليمية بشكل أفضل من التهديدات مثل الإرهاب والقرصنة و«التدخل الأجنبي». ونقلت وكالة «رويترز»، الخميس، عن مسؤول بوزارة الدفاع التركية قوله إن تركيا ستقدم دعماً أمنياً بحرياً للصومال لمساعدة الدولة الأفريقية في الدفاع عن مياهها الإقليمية.

موقف مشترك

جاء توقيع الاتفاق في 8 فبراير (شباط) الحالي بعد نحو شهر فقط من توقيع الحكومة الإثيوبية اتفاقاً مبدئياً مع إقليم «أرض الصومال» الانفصالي، تحصل بموجبه أديس أبابا على مَنفذ بحري يتضمن ميناءً تجارياً وقاعدةً عسكريةً في منطقة «بربرة»، مقابل اعتراف إثيوبي بـ«أرض الصومال» دولة مستقلة ومزايا اقتصادية أخرى.

ورفضت الحكومة الصومالية الاتفاق بحسم واستدعت سفيرها لدى أديس أبابا، كما أصدر الرئيس الصومالي قراراً بإلغاء الاتفاق، متعهداً بالتصدي لأي محاولات للمساس بسيادة ووحدة الأراضي الصومالية.

وأدانت مصر وتركيا، إلى جانب دول ومنظمات إقليمية أخرى، الاتفاق بين إثيوبيا و«أرض الصومال»، وزار الرئيس الصومالي القاهرة الشهر الماضي، كما استقبلت تركيا عدداً من المسؤولين الصوماليين لبحث الموقف. وأصبحت تركيا حليفاً وثيقاً للحكومة الصومالية في السنوات القليلة الماضية، وشيّدت أنقرة المدارس والمستشفيات والبنية التحتية، وقدمت منحاً دراسية للصوماليين للدراسة في تركيا.

تعاوُن لا تنافُس

ويلفت كرم سعيد الباحث المتخصص في الشؤون التركية بمركز «الأهرام» للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلى أهمية السياق الزمني المحيط بالاتفاق التركي - الصومالي، مؤكداً أنه يتزامن مع حالة التوتر التي أحدثها اتفاق إثيوبيا و«أرض الصومال»، فضلاً عن تزامنها مع التحسن اللافت في العلاقات المصرية - التركية.

وأشار سعيد لـ«الشرق الأوسط» إلى اتفاق الموقف المصري والتركي على رفض الاتفاق الإثيوبي مع «أرض الصومال»، مرجحاً أن تدفع مصالح البلدين في القرن الأفريقي إلى تعزيز التعاون. وأضاف أن الاتجاه التركي إلى «تصفير المشكلات» مع دول المنطقة وبخاصة مصر وقبلها مع السعودية والإمارات، ولكل منها مصالح واسعة في منطقة القرن الأفريقي، «قد يدفع تركيا إلى تعزيز التكامل مع تلك الدول العربية، خصوصاً في ظل تراجع النفوذ الفرنسي والأميركي بالمنطقة».

ويضيف الباحث في الشأن التركي أن «تركيا بحاجة إلى شركاء فاعلين في إطار التنافس التاريخي مع إيران التي تسعى هي الأخرى إلى تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية، ومن ثَمَّ فإن الاتجاه التركي للتنسيق مع الدول العربية وفي مقدمتها مصر هو الأقرب» في اعتقاده، منوهاً إلى أن البيئة الراهنة للعلاقات التركية «تدفع باتجاه التعاون أكثر مما تدفع إلى التنافس».

المؤشر الآخر على تغليب فكرة التعاون المصري - التركي في القرن الأفريقي يراها سعيد تكمن في حالة التوتر الراهنة في العلاقات بين إثيوبيا وتركيا بعد الموقف التركي من اتفاق «أرض الصومال»، رغم العلاقات الاستراتيجية التي يتمتع بها البلدان، إذ تستأثر إثيوبيا بنصف قيمة الاستثمارات التركية في أفريقيا تقريباً، التي تبلغ نحو 6 مليارات دولار، كما دعمت تركيا الحكومة الإثيوبية في حربها ضد التيغري، معتبراً أن ذلك التوتر لا يصب فقط باتجاه تنسيق مصري - تركي، بل يمكن توظيفه كذلك فيما يتعلق بقضية سد النهضة.

إدارة المصالح

«تعاوُن لا تنافُس»، هكذا يرى أيضاً السفير صلاح حليمة نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، المشهد الراهن بين تركيا ومصر في القرن الأفريقي بعد الاتفاق الأمني والاقتصادي بين تركيا والصومال، لكنه يركز على زاوية أخرى من منظور طبيعة المصالح المصرية والتركية في الصومال التي يرى أنها تميل إلى تغليب اعتبارات دعم الصومال في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية التي يعانيها منذ سنوات، وهو ما يجعل الهدف من حضور البلدين لدعم الصومال منسجماً.

ويضيف حليمة لـ«الشرق الأوسط» أن التفاهمات المصرية - التركية الأخيرة التي تُوجت بتوقيع اتفاق للتعاون الاستراتيجي بين البلدين خلال الزيارة الأخيرة للرئيس التركي إلى القاهرة تدفع باتجاه الاعتقاد أن البلدين لديهما من أطر التفاهم ما يجعلهما قادرَين على إدارة المصالح في منطقة القرن الأفريقي التي تحظى بأهمية استراتيجية لكليهما.

وأشار الدبلوماسي المصري السابق إلى أن الاتفاق التركي - الصومالي «لا يثير حفيظة القاهرة»، معتبراً أن المساندة المصرية والتركية للصومال في مواجهة الإرهاب والأزمات الإقليمية، تخدم المصالح المشتركة للدول الثلاث، لأن استقرار أراضي الصومال ووحدته يمثلان «عنصر أمان» للمصالح المصرية والتركية على السواء.

ويخوض الصومال منذ سنوات حرباً ضد حركة «الشباب» التي تتبع فكرياً تنظيم «القاعدة» وتبنت عمليات إرهابية كثيرة في الصومال ودول الجوار، أودت بحياة المئات.


مقالات ذات صلة

الاتفاقية الدفاعية المصرية - الصومالية لاحتواء «الطموح» الإثيوبي وموازنة «النفوذ» التركي

المشرق العربي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال لقاء سابق مع نظيره الصومالي حسن شيخ محمود بالقاهرة (الرئاسة المصرية)

الاتفاقية الدفاعية المصرية - الصومالية لاحتواء «الطموح» الإثيوبي وموازنة «النفوذ» التركي

أثار «اجتماع استثنائي» للحكومة الصومالية لإقرار اتفاقية دفاعية مع مصر تساؤلات وردود فعل حول توقيت الاجتماع وآثار الاتفاقية الموقعة على منطقة القرن الأفريقي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فقي خلال اجتماع المجلس التنفيذي للاتحاد بأكرا (الاتحاد الأفريقي)

«قمة الاتحاد الأفريقي التنسيقية» لمناقشة التكامل الإقليمي وتعزيز الاندماج

تشارك مصر بوفد رسمي، برئاسة رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في «الاجتماع التنسيقي السادس للاتحاد الأفريقي والتجمعات الاقتصادية الإقليمية».

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا مصر تدشن خط طيران مباشراً إلى جيبوتي والصومال (وزارة الطيران المدني في مصر)

مصر لتعزيز التعاون مع جيبوتي والصومال

في خطوة تستهدف «تعزيز التعاون مع دول القرن الأفريقي»، دشّنت مصر، الجمعة، خط طيران مباشراً بين القاهرة وجيبوتي ومقديشو.

أحمد إمبابي (القاهرة)
المشرق العربي مؤتمر بالقاهرة يناقش تداعيات صراعات القرن الأفريقي الإقليمية (الشرق الأوسط)

مصر تحذر من تفاقم الصراعات بـ«القرن الأفريقي» بسبب «التدخلات الخارجية»

حذرت مصر من تفاقم ما وصفته بـ«الصراعات المركبة» في منطقة «القرن الأفريقي»، متهمة «التدخلات الخارجية» بتأجيج تلك الصراعات.

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا الرئيس المصري ونظيره الصومالي خلال لقاء في القاهرة يناير الماضي (الرئاسة المصرية)

مصر تشدد على أهمية أمن واستقرار الصومال

شددت مصر على «أهمية تحقيق الأمن والاستقرار والسلام في الصومال لما يمثله ذلك من ركيزة أساسية لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة كلها».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز