الدبابات ألعاباً لأطفال السودان... وألقابهم «البرهان» و«الدعامي»

الحرب قتلت كثيرين منهم وأصابتهم بأضرار نفسية وجسدية

أطفال من عائلة في الخرطوم نزحوا إلى ولاية كسلا شرق السودان (أ.ف.ب)
أطفال من عائلة في الخرطوم نزحوا إلى ولاية كسلا شرق السودان (أ.ف.ب)
TT

الدبابات ألعاباً لأطفال السودان... وألقابهم «البرهان» و«الدعامي»

أطفال من عائلة في الخرطوم نزحوا إلى ولاية كسلا شرق السودان (أ.ف.ب)
أطفال من عائلة في الخرطوم نزحوا إلى ولاية كسلا شرق السودان (أ.ف.ب)

خمسة أطفال تتراوح أعمارهم بين 4 و6 سنوات، تبدو على وجوههم صرامة لا تناسب سنهم، لكنها ربما تناسب صرامة الألعاب الحربية التي أصبحت خيارهم المفضل في اللعب، بوحي من الحرب الدائرة في البلاد منذ ما يزيد على 6 أشهر. لقد أصبحت ألعاب الأطفال المفضلة تقليد أزيز الطائرات الحربية وهي تعبر فوق رؤوسهم، وتقليد أصوات القذائف وهي تنفجر حولهم، فتراهم «يفرقعون البالونات»؛ ليحاكوا أصوات الانفجارات، وحين تنفجر البالونة يصيحون: «قذيفة... قذيفة... صاروخ... ادخلوا البيت قبل ما تقتلكم». وهكذا، تحولت الحرب إلى لعبة مرعبة في أيدي أطفال السودان.

الأسلحة بديلاً للحلوى

لم يعد الأطفال يطلبون من آبائهم حلوى أو كرة قدم، أو حتى دراجة، بل يطلبون طائرة مقاتلة، أو مدافع، أو عربة مسلحة رباعية الدفع، من تلك التي يسمونها «تاتشر». لقد غيرتهم المظاهر العسكرية ومشاهد الدماء تسيل أمام أعينهم، ومشاهد الجثث الملقاة على جوانب الطرقات، وأثرت أصوات الحرب المرعبة على استجاباتهم. فمحمد، ذو السنوات الخمس، لم يطلب من والده «شوكولاتة» كالمعتاد، بل طلب منه شراء «دبابة». واندهش الأب وقال لطفله: «مستحيل؛ لأن الدبابات يملكها الجيش فقط ليدافع بها عن الشعب»، فرد الطفل بكل براءة: «إذن، أسأل الجيش ليعطينا واحدة ونعيدها له بعد نهاية الحرب».

امرأة وأطفال يجلسون مع أشخاص آخرين نزحوا بسبب الصراع داخل مسجد في بلدة وادي حلفا الحدودية الشمالية (أ.ف.ب)

أما أبناء خديجة حسين الثلاثة، فقد تحولت ألعابهم إلى «تقليد قوات (الدعم السريع)»؛ حيث اعتادوا على رؤيتهم وهم يجوبون الشوارع، نهاراً وليلاً، يحملون أسلحتهم، أو على متن سيارات مسلحة يطلقون عليها محلياً اسم «تاتشر»، وقلّ اهتمامهم بألعاب الأطفال القديمة، أو كرة القدم، لعبتهم الأثيرة، واكتفوا بتجسيد مشاهد الحرب.

العنف يجتاح الطفولة

تقول خديجة لـ«الشرق الأوسط»: «بعد أن كان أطفالي وديعين تحولوا إلى العنف، وصاروا يتعاركون ويحطمون أي شيء، حتى أثاث المنزل». وتفسيراً لهذه الظاهرة، تقول مديرة «مركز سيما» المتخصص في محاربة العنف ضد المرأة والطفل، ناهد جبر الله: «إذا لم يُصَب الطفل بإصابة جسدية مباشرة، فقد تسبب له الحرب عاهة نفسية، فيتحول إلى طفل عنيف، أو قد ينزوي ويدخل في عزلة، ويظهر التأثير النفسي على الأطفال بشكل أوضح في مراكز إيواء النازحين».

ووفقاً لجبر الله، فإن وجود الأطفال في مناطق الحروب والقتال يهدم استقرارهم النفسي، وتُفاقِم الظروف المادية في مراكز النزوح مشاكل الأطفال، فيصابون بانهيار نفسي وحالة من الهلع والرعب. وتتابع جبر الله: «يختلف تأثير الحرب على الأطفال حسب الفئة العمرية، وحتى داخل الفئة العمرية الواحدة تختلف استجاباتهم حسب العوامل الشخصية والقرب من مناطق الاشتباكات». جبر الله طالبت بمراكز علاج نفسي متخصصة للأطفال، وبتدريب الكوادر على برامج الإسعافات النفسية الأولية، وكيفية التعامل مع الأطفال في حالة الكوارث والنزاعات، لتلافي الآثار المستقبلية للحرب على الأطفال».

دبابات طينية

ويلاحظ المراقبون أن الأطفال أصبحوا يصنعون دبابات وبنادق من الطين، ويوجهونها إلى صدور بعضهم البعض، في محاولة لتجسيد القتال، وينقسمون إلى جيش و«دعم سريع». وحين يطلق أحدهم رصاصته الزائفة إلى صدر أحد أصدقائه ممن يلعبون معه، يقع هذا الأخير أرضاً مدعياً الموت. ويطلق الأطفال المشاركون في ألعاب القتال اسم «البرهان» على قائد مجموعة الجيش، و«حميدتي» على قائد مجموعة «الدعم السريع»، وعادة ما تنتهي «المعركة - اللعبة» بشجار عنيف. ويعيش الأطفال الحرب وأجواءها وفظائعها، ما يصعب من إقناعهم بأن «الحرب ليست لعبة»، وأن القتل الذي يشاهدونه ليس هو الحال الطبيعية. فبحسب الأطباء، فإن الأطفال يقلدون ما يرون ويتقمصون أدواراً رأوا الكبار يلعبونها.

«البرهان» و«حميدتي» و«الكوز»

جنرالا الحرب في السودان البرهان وحميدتي (رويترز)

وقد صار شائعاً بين الأطفال إطلاق أسماء «البرهان» و«حميدتي» و«الدعامي» و«الكوز (اسم يطلق على إخوان السودان)»، على بعضهم البعض، وبات بعضهم يعرفون بهذه الأسماء بين أصدقائهم في الأحياء المختلفة. ووفقاً لتقارير حكومية، أوقعت الحرب أضراراً مادية كبيرة في نفوس أطفال السودان، إلى جانب الآثار النفسية الخطيرة. فقد قتل عدد كبير منهم جراء الاشتباكات المستمرة منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، وأصيب عشرات بجراح، بينما تشرد نحو مليون طفل بين لاجئ ونازح.


مقالات ذات صلة

أزمة بيع مواد الإغاثة تتفاقم في السودان... وتبرؤ حكومي

شمال افريقيا أطفال يحملون حزماً من المساعدات الإنسانية في مدرسة للنازحين بمدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)

أزمة بيع مواد الإغاثة تتفاقم في السودان... وتبرؤ حكومي

تفاقمت أزمة بيع المواد الإغاثية في أسواق سودانية، فيما تبرَّأت المفوضية الإنسانية التابعة للحكومة من المسؤولية عن تسريبها.

محمد أمين ياسين (نيروبي) وجدان طلحة (بورتسودان)
المشرق العربي الحرب في السودان والقيود المفروضة على توصيل المساعدات تسببتا في مجاعة في شمال دارفور (رويترز)

الأمم المتحدة: أكثر من 30 مليون شخص في السودان بحاجة إلى المساعدة

قالت الأمم المتحدة الاثنين إن أكثر من 30 مليون شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال، يحتاجون إلى المساعدة في السودان بعد عشرين شهرا من الحرب المدمرة.

«الشرق الأوسط» (بورتسودان)
العالم العربي مواطنون في بورتسودان 30 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

10 قتلى في غارة جنوب الخرطوم

أفاد مُسعفون متطوعون أن عشرة مدنيين سودانيين قُتلوا، وأصيب أكثر من 30، في غارة جوية جنوب الخرطوم.

«الشرق الأوسط» (بورتسودان (السودان))
شمال افريقيا البرهان لدى استقباله نائب وزير الخارجية التركي برهان الدين دوران في بورتسودان السبت (مجلس السيادة السوداني - فيسبوك)

السودانيون يعلقون آمالهم على المبادرة التركية لإنهاء الحرب

رغم المواقف المتناقضة التي تصدر من تنظيم الإسلاميين السودانيين المؤيد لاستمرار الحرب، فإن السودانيين يعلقون آمالاً عريضة على المبادرة التركية لإنهاء معاناتهم.

أحمد يونس (كمبالا) محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا شاحنة تحمل مسلحين تابعين للجيش السوداني في أحد شوارع مدينة القضارف (شرق) في نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

توسع أحكام الإعدام في السودان بمزاعم التعاون مع «الدعم السريع»

قالت هيئة حقوقية سودانية إن الأجهزة الأمنية المُوالية للحكومة في العاصمة المؤقتة بورتسودان، تحتجز مئات الأشخاص تعسفياً، بمزاعم التعاون مع قوات «الدعم السريع».

أحمد يونس (السودان)

أزمة بيع مواد الإغاثة تتفاقم في السودان... وتبرؤ حكومي

أطفال يحملون حزماً من المساعدات الإنسانية في مدرسة للنازحين بمدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)
أطفال يحملون حزماً من المساعدات الإنسانية في مدرسة للنازحين بمدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)
TT

أزمة بيع مواد الإغاثة تتفاقم في السودان... وتبرؤ حكومي

أطفال يحملون حزماً من المساعدات الإنسانية في مدرسة للنازحين بمدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)
أطفال يحملون حزماً من المساعدات الإنسانية في مدرسة للنازحين بمدينة القضارف شرق السودان (أ.ف.ب)

تبرَّأت «مفوضية العون الإنساني» التابعة للحكومة السودانية، من بيع المواد الإغاثية في الأسواق، مؤكدةً أنه «لا يوجد تسريب للمساعدات الإنسانية (من جهتها)، وأن تصرفات بعض المواطنين لا يمكن أن تُحسب عليها»

وتفاقمت أزمة بيع المواد الإغاثية في الأسواق خلال الفترة الماضية، وأفاد سودانيون بأنهم شاهدوا في عدد من الولايات مواد غذائية مخصصة للمساعدات معروضة للبيع في الأسواق العامة، دون رقابة من السلطات.

لكنَّ مفوضة العون الإنساني، سلوى آدم بنيه، قالت لـ«الشرق الأوسط» إن «بيع مواطن لحصته من الإغاثة في السوق ليست مسؤوليتنا»، مشيرةً إلى أن «بعض المتلقين للمساعدات يضطرون إلى بيعها لشراء معونات أخرى يحتاجون إليها مثل دقيق حبوب الذرة والدخن».

وتَسبب الصراع الدائر بين الجيش و«قوات الدعم السريع» الذي تعدّه الأمم المتحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث، في مقتل ما بين 20 ألفاً و150 ألف شخص، بالإضافة إلى إجبار نحو 11 مليون شخص على النزوح.

لجنة للمراجعة

وكشفت المسؤولة الحكومية عن «تشكيل لجنة مكونة من ممثلي عدد من المؤسسات ذات الصلة لمراجعة مخازن تابعة لبعض المنظمات لمعرفة ما يوجد بها من مواد إغاثة، ولماذا لم يتم توزيعها؟».

وأكدت أن «اللجنة ستقف على تنفيذ المشاريع الخاصة بالمنظمات، وسترفع تقريرها إلى المفوضية في غضون أسبوعين لاتخاذ الإجراءات تجاهها».

وقالت الأمم المتحدة، الاثنين، إن أكثر من 30 مليون شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال، يحتاجون إلى المساعدة في السودان بعد عشرين شهراً من الحرب المدمرة.

جانب من مساعدات الإغاثة في السودان (الأمم المتحدة)

ووجهت الأمم المتحدة نداءً لجمع 4.2 مليار دولار لتوفير المساعدات لـ20.9 مليون شخص داخل السودان من إجمالي 30.4 مليون شخص قالت إنهم في حاجة إلى المساعدة فيما سمتها «أزمة إنسانية غير مسبوقة».

وفي سبتمبر (أيلول ) 2023 أصدر مجلس الوزراء قراراً بإقالة مفوض العون الإنساني، نجم الدين موسي، وكان ذلك بعد نشر تقارير إعلامية أشارت إلى «فساد كبير» في ملف الإغاثة.

وتفيد وسائل إعلام محلية سودانية برصد بيع مواد غذائية «بكميات كبيرة» في أسواق ولاية بورتسودان التي تعد العاصمة المؤقتة للبلاد، في حين يشكو ملايين النازحين في مراكز الإيواء بعدد من الولايات من نقص المساعدات.

ورغم وصول آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب في السودان أبريل (نيسان) 2023، فإن مئات الآلاف من النازحين في مراكز الإيواء بالولايات التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني لم يتلقوا المعونات، ويعتمدون على توفير معاشهم من إمكانات ذاتية.

تسريب مُسبق

وقال ناشطون ومتطوعون في مجال العمل الإنساني لـ«الشرق الأوسط» إن «تسريب المساعدات الإنسانية قد يحدث مسبقاً قبل وصولها إلى مراكز الإيواء».

وشرح بعضهم أن «المواد الغذائية لا تصل إلى كل المحتاجين إليها بسبب تسريبها إلى الأسواق»، ورجحوا «تورط مسؤولين» في عملية التسريب تلك، من دون أن يحددوا أسماء.

لكن الناشطين أنفسهم أكدوا كذلك أن «بعض المواطنين يبيعون الفائض عن حاجتهم من المواد الغذائية في الأسواق»، وأفادوا بأنهم رصدوا «بعض تلك المواد في منازل لمواطنين».

لاجئون سودانيون فروا من العنف يتلقون المساعدات بالقرب من الحدود بين السودان وتشاد (رويترز)

وقال نشطاء آخرون في مدينة حلفا الجديدة شرق السودان، أنهم سألوا بعض أصحاب المحال التجارية عن مصدر البضائع (المصنَّفة مساعدات) التي تحصلوا عليها، لكنهم رفضوا الإفصاح عنها.

وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي وصلت أولى المساعدات الإنسانية إلى جنوب العاصمة السودانية الخرطوم، للمرة الأولى بعد 21 شهراً من اندلاع الحرب في البلاد بين الجيش و«قوات الدعم السريع».

وفي حين ترفض الحكومة السودانية الإقرار بحدوث مجاعة في البلاد، يشير أحدث تقرير للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، إلى أن 24 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة.

ومنذ بداية الحرب، توجَّه اتهامات إلى طرفي الحرب بتعطيل المساعدات الإنسانية كجزء من استخدام «سلاح التجويع».