تقرير: رفع العقوبات عن سوريا لن يكون سهلاً

مصافحة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في الرياض 14 مايو الماضي (أ.ب)
مصافحة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في الرياض 14 مايو الماضي (أ.ب)
TT

تقرير: رفع العقوبات عن سوريا لن يكون سهلاً

مصافحة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في الرياض 14 مايو الماضي (أ.ب)
مصافحة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في الرياض 14 مايو الماضي (أ.ب)

عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن قرار رفع العقوبات عن سوريا كان ذلك خبراً ساراً، فعندما سقطت ديكتاتورية بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول)، كانت سوريا من أكثر الدول خضوعاً للعقوبات في العالم، وقد حدّ الخناق الاقتصادي الذي فرضته واشنطن من فرصها في التعافي من حرب وحشية.

وقالت ديلاني سيمون، المحللة في مجموعة الأزمات الدولية، في تحليل بمجلة «فورين بوليسي»، إن ترمب اتخذ خطوات كبيرة لتخفيف القيود الأميركية، لكن الرفع الكامل للعقوبات وآثارها ليس بالأمر السهل، وستواجه إدارة ترمب طريقاً صعباً إذا ما عزمت على الوفاء بوعده.

ولفتت إلى أن ترمب يُعدّ أول رئيس أميركي يتخذ خطوة جريئة كهذه بشأن تخفيف العقوبات، فقد رفعت الإدارات السابقة العقوبات عن الدول المنبوذة تدريجياً، ودائماً مقابل إجراءات متفاوض عليها بشق الأنفس من الأطراف الخاضعة للعقوبات.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

وكان تخفيف العقوبات الذي قدمته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما لإيران عند توقيعها الاتفاق النووي معقداً، وعلى النقيض من ذلك، أعلن ترمب استعداده لإنهاء العقوبات على سوريا دون أي تحفظات تقريباً، ويُظهر تحرك إدارته السريع لتخفيف العقوبات جديته.

فقد أتاحت الإعفاءات الشاملة من العقوبات الصادرة في 23 مايو (أيار) إمكانية إجراء معظم المعاملات المحظورة سابقاً مع سوريا، بما في ذلك تلك التي يقوم بها مستثمرون أجانب.

وقد أدى الترخيص العام الموسع لوزارة الخزانة الأميركية إلى إلغاء أجزاء كبيرة من الحظر الأميركي شبه الكامل.

لكن سوريا لا تزال خاضعة لشبكة من أنظمة العقوبات الأميركية المتداخلة، بعضها قائم منذ عام 1979.

وتشمل هذه الأنظمة تصنيف دولة راعية للإرهاب، وتصنيف «هيئة تحرير الشام»، التي ينتمي إليها الرئيس السوري أحمد الشرع، منظمةً إرهابية أجنبية، وتشريعات عقابية مثل قانون قيصر وقانون محاسبة سوريا.

ولإلغاء هذه العقوبات وغيرها بشكل كامل، يتطلب الأمر اتخاذ إجراءات إضافية من وزارات الخارجية والخزانة والتجارة، بالإضافة إلى الكونغرس، ويجب على الإدارة أن تذهب إلى أبعد من ذلك إذا أرادت ضمان أن يُحسّن تخفيف العقوبات الوضع على الأرض.

وسيواجه ترمب عقبات سياسية على طول الطريق. لدى المعارضين لتخفيف العقوبات الفوري مخاوف مفهومة بشأن منح الكثير بسرعة كبيرة للنظام السوري الجديد.

وذكرت المحللة أن روابط للمسؤولين السوريين الجدد بتنظيم «القاعدة»، حتى لو أن «هيئة تحرير الشام» قد تبرأت من هذا التنظيم قبل ما يقرب من عقد من الزمان وظلت تحاربه منذ ذلك الحين، تجعل صانعي السياسات الأميركيين يترددون في أمرهم.

وتعدّ ستة أشهر فترة قصيرة جداً لإثبات أن الحكومة السورية الجديدة ستتوافق مع القيم والمصالح الأميركية، على الرغم من أن نبرة الشرع كانت مشجعة حتى الآن، فقد التزم بنموذج حكم يستوعب التنوع السوري، وسعى إلى علاقات سلمية مع جيرانه، بما في ذلك إسرائيل.

لكن عوامل أخرى تستدعي الحذر، فقد ركّز الشرع سلطة كبيرة بين يديه؛ ما أثار مخاوف بعض السوريين من نظام جديد ينحرف نحو الاستبداد، وقد أظهرت الاشتباكات الدامية في أوائل مارس (آذار)، والتي رافقتها مجازر بحق المدنيين ارتكبتها فصائل موالية للحكومة، وإن كانت تتصرف خارج نطاق أوامر الدولة، التحديات الماثلة.

ولفتت المحللة إلى أن السيناتور الجمهوري الأميركي البارز ليندسي غراهام يبدو أن لديه تحفظات على موقف ترمب، ويعود ذلك جزئياً إلى شعوره بمعارضة إسرائيلية.

ويُشاع أن الكثير من مستشاري ترمب يعارضون تخفيف العقوبات؛ نظراً لصلات الرئيس السوري السابقة بتنظيم «القاعدة»، وقد أعرب بعضهم علناً عن تشككهم في قادة سوريا الجدد.

الرئيس السوري أحمد الشرع يتحدث في اختتام مؤتمر الحوار الوطني بدمشق في فبراير الماضي (أ.ف.ب)

ومن الممكن أن يشعر ترمب بالضغط من داخل حزبه وإدارته للتراجع وفرض شروط قبل تقديم المزيد من تخفيف العقوبات، ربما على طول الطريق.

واتُهم رؤساء أميركيون سابقون، بمن فيهم ترمب نفسه، بتغيير مسار رفع العقوبات في أماكن أخرى.

فقد ترك وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الباب مفتوحاً أمام هذا الاحتمال عندما قال إنه يتوقع أن يتبع تخفيف العقوبات إجراءات فورية من الحكومة السورية بشأن أولويات سياساتها، على الرغم من أنه لم يُشر صراحةً إلى شروط تخفيف العقوبات.

ومع ذلك، هناك أدلة كثيرة على أن رفع العقوبات يمكن أن يُسهم في تمهيد طريق سوريا نحو مستقبل أكثر سلاماً وازدهاراً، بالإضافة إلى الحد من فرص انزلاق البلاد إلى فوضى وعدم استقرار متجددين.

وقالت المحللة إن العقوبات منعت سوريا من إعادة الإعمار، وشلّت قدرة السلطات على تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان يعانون معدل فقر يبلغ 90 في المائة وأزمة جوع متفاقمة - مثل دفع رواتب القطاع العام وتأمين الوقود والكهرباء.

وسيفيد فشل السلطات المفسدين الداخليين والخارجيين، ويُسرّع من انزلاق سوريا إلى الفوضى.

ويعدّ اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمواجهة عدم الاستقرار أمراً منطقياً، لا سيما وأن تخفيف العقوبات قابل للتراجع وتمكن إعادة فرض العقوبات إذا لم يفِ قادة سوريا الجدد بالتزاماتهم تجاه شعبهم والمجتمع الدولي.

وعلى أي حال، فإن أهمية الكثير من العقوبات الأميركية موضع شك؛ نظراً لأنها جاءت رد فعل على فظائع الأسد، الذي لم يعد في السلطة.

وحتى مع الزخم نحو إنهاء العقوبات الأميركية، يبقى السؤال المطروح هو ما إذا كان ترمب قادراً بالفعل على تقديم تخفيف ذي معنى.

فلا تزال قيود مراقبة الصادرات تحظر تصدير جميع البضائع الأميركية تقريباً إلى سوريا، بالإضافة إلى البضائع من دول أخرى التي تحتوي على 10 في المائة فقط من محتواها أميركي المنشأ. ولا تُخفف هذه الإعفاءات من العقوبات الجنائية الباهظة الناجمة عن تصنيف «هيئة تحرير الشام» منظمةً إرهابية أجنبية، والتي تُعدّ لعنة على المستثمرين والمنظمات غير الحكومية.

وأكدت المحللة أن الإعفاءات وحدها لا تكفي. فقد أظهرت الدروس المستفادة من أفغانستان بعد سيطرة حركة «طالبان» أن الشركات تخشى الاستثمار في مكان يخضع لعقوبات شديدة، حتى عندما تسمح التراخيص رسمياً بمثل هذه الأنشطة، وغالباً ما ترفض البنوك تخليص التحويلات إلى الأماكن التي تُطبق فيها عقوبات شديدة - بغض النظر عن التراخيص، وفي كثير من الحالات، لا يعلمون بوجود هذه التراخيص.

وهناك حاجة إلى عشرات الإجراءات الإضافية ليرفع الرئيس العقوبات عن سوريا بالكامل، وإلى أن تُتخذ خطوات أخرى، بغض النظر عن الإعفاءات والتراخيص المُطبقة، ستظل القيود الاقتصادية الأميركية تُخيّم على سوريا كسحابة سوداء.

وهناك مشكلة أكثر صعوبة، وهي أن آثار العقوبات غالباً ما تبقى بعد رفعها فالقطاع الخاص يتردد في ممارسة الأعمال في الأماكن التي تُعدّ محفوفة بالمخاطر، خاصةً إذا كان هناك احتمال لإعادة فرض العقوبات.

وتشجيع التجارة مع سوريا، وتقديم توجيهات وتطمينات واضحة بشأن الأنشطة المسموح بها، وتقديم مساعدات التنمية وغيرها من أشكال الدعم الحكومي الأميركي، كلها أمور قد تُساعد، لكن مثل هذه الخطوات تتطلب تحركاً مدروساً من واشنطن، بل وحتى تمويلاً.

وإذا لم تتخذ الولايات المتحدة مثل هذه الخطوات، فقد يستمر التأثير المُثبط للعقوبات السابقة لفترة طويلة بعد تغيير القوانين.

وعلى الرغم من كل هذا، يتمتع ترمب بميزة، فقد واجه رؤساء آخرون عقبات سياسية عندما حاولوا إلغاء العقوبات، فقد واجه أوباما معارضة كبيرة لقراره تخفيف العقوبات على كوبا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنها كانت قضية انتخابية ذات كتلة تصويت قوية من الأميركيين الكوبيين.

وفي حالة سوريا، مضى ترمب قدماً، غير متأثرٍ على ما يبدو بالمعارضين في إدارته وحزبه، ومما يُساعد في ذلك أن أعضاءً ديمقراطيين بارزين في الكونغرس متفقون بالفعل على خطة ترمب.

وقالت المحللة إنه بغض النظر عن غراهام المعارض، فقد انحاز الجمهوريون في الكونغرس خلف الرئيس، كما تُشير التعليقات الأخيرة لزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ جون ثون.

وعادةً ما تستغرق الإجراءات البيروقراطية وقتاً طويلاً، لكن ترمب تصرَّف بسرعة ولديه صلاحيات واسعة لفعل المزيد، ويمكن لوزير خارجيته إنهاء نظام الدولة الراعية للإرهاب من خلال التأكيد للكونغرس أن سوريا إما خضعت لتغيير جذري في القيادة والسياسة، أو توقفت عن دعم أعمال الإرهاب الدولي، وقدمت ضماناتٍ بأنها لن تُشجع على مثل هذه الأعمال في المستقبل.

وكذلك، يمكن للوزير إلغاء تصنيف «هيئة تحرير الشام» منظمةً إرهابية أجنبية بناءً على تقييمه بأن الظروف التي بررت هذا التصنيف قد تغيرت، ويمكن لوزارة التجارة منح استثناءات في التراخيص للسماح باستيراد المزيد من السلع من الولايات المتحدة إلى سوريا.

المبعوث الأميركي الجديد إلى سوريا توماس برّاك مع الرئيس أحمد الشرع (د.ب.أ)

وأكدت المحللة أن تخفيف العقوبات ليس حلاً سحرياً يُنهي معاناة سوريا، فحتى لو تلاشت المخاوف بشأن العقوبات، لا تزال الكثير من المشاكل الأخرى تُطارد بلداً أنهكته الحرب وسوء الإدارة الاقتصادية، سيستغرق إصلاح الخلل والفساد اللذين لطالما أصابا جهاز الدولة سنوات، في حين يواجه مصرف سوريا المركزي والبنوك السورية الأخرى مهمة صعبة تتمثل في تعزيز شفافيتها ومصداقيتها، وتبديد مخاوف البنوك الأجنبية بشأن احتمال غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتُكافح حكومة الشرع للحفاظ على قبضتها الأمنية الهشة، ودرء احتمال تصاعد العنف وتصاعد التمرد.

وقالت المحللة إن قرار ترمب خلق بالفعل فرصاً جديدة، وبالنسبة للشعب السوري الذي طالت معاناته، يُعدّ هذا تطوراً بالغ الأهمية، وفي غضون ذلك، سيحتاج ترمب إلى بذل جهد كبير للوفاء بوعده، ولكن عليه أن يبذل قصارى جهده في واشنطن لتحقيق ذلك.


مقالات ذات صلة

قوة إسرائيلية تتوغل في بلدة بيت جن بريف دمشق وترهب المدنيين

المشرق العربي رجل يقف قرب علم سوري في نقطة مراقبة مرتفعة تطل على دمشق (د.ب.أ)

قوة إسرائيلية تتوغل في بلدة بيت جن بريف دمشق وترهب المدنيين

توغلت قوة إسرائيلية اليوم (السبت) في بلدة بيت جن بريف دمشق بدبابتين و7 عربات في محيط بلدة بيت جن بريف دمشق، حسبما نقل تلفزيون سوريا.

«الشرق الأوسط» (دمشق )
الاقتصاد حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية (فيسبوك)

حاكم «المركزي» السوري: قرار كندا رفع العقوبات يفتح صفحة جديدة من التعاون

رحب حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية، بقرار كندا رفع العقوبات عن سوريا، بما يفتح صفحة جديدة من الفرص والتعاون البنّاء بين البلدين.

المشرق العربي الرئيس السوري أحمد الشرع يتحدث أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي (رويترز)

كندا ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب

قالت الحكومة الكندية، اليوم (الجمعة)، إنها رفعت اسم سوريا من قائمة الدول الأجنبية الراعية للإرهاب وحذفت «هيئة تحرير الشام» من قائمة الكيانات الإرهابية.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)
المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

فرنسا تنظر بإيجابية إلى التحولات الجارية في سوريا

بعد عام على سقوط بشار الأسد، تنظر فرنسا بإيجابية للتطورات الحاصلة في دمشق، وتعتبر أن سوريا مستقرة ضرورة للتوازن الإقليمي والدولي.

ميشال أبونجم (باريس)
المشرق العربي وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)

الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

شكر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «كندا على قرارها رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب».

«الشرق الأوسط» (دمشق)

مقتل 5 بنيران الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة منذ صباح اليوم

جنود إسرائيليون في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)
جنود إسرائيليون في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)
TT

مقتل 5 بنيران الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة منذ صباح اليوم

جنود إسرائيليون في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)
جنود إسرائيليون في قطاع غزة (أرشيفية - رويترز)

قالت قناة «الأقصى» الفلسطينية إن خمسة أشخاص لقوا حتفهم بنيران الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة منذ صباح اليوم السبت.

ولم تذكر القناة أي تفاصيل أخرى على الفور.

وفي وقت سابق اليوم، أفادت إذاعة «صوت فلسطين» بمقتل شخص وإصابة ثلاثة آخرين برصاص الجيش الإسرائيلي في شمال غربي قطاع غزة.

جنود من الجيش الإسرائيلي يقفون فوق دبابة متمركزة بالقرب من الحدود مع قطاع غزة (أ.ف.ب)

على الصعيد الآخر، ذكر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، أن قواته أطلقت النار على عدد من الأشخاص قال إنهم «اجتازوا الخط الأصفر وشكلوا تهديداً فورياً عليها»، مشيراً إلى أن القوات قتلت ثلاثة «لإزالة التهديد».

ومنذ بدء وقف إطلاق النار الهش، أفرجت «حماس» عن جميع الرهائن الأحياء وعددهم 20، وسلمت 27 جثة مقابل الإفراج عن نحو ألفي معتقل وسجين فلسطيني لدى إسرائيل.

ورغم تراجع وتيرة العنف، تواصل إسرائيل قصف غزة وتدمير ما تقول إنه بنية تحتية تابعة لـ«حماس». وتتبادل الحركة وإسرائيل الاتهامات بانتهاك الاتفاق.


التعاون الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل: مبادرة ملغومة بتوقيت حساس

دبابات إسرائيلية تناور قرب الحدود مع لبنان (أرشيفية - رويترز)
دبابات إسرائيلية تناور قرب الحدود مع لبنان (أرشيفية - رويترز)
TT

التعاون الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل: مبادرة ملغومة بتوقيت حساس

دبابات إسرائيلية تناور قرب الحدود مع لبنان (أرشيفية - رويترز)
دبابات إسرائيلية تناور قرب الحدود مع لبنان (أرشيفية - رويترز)

يشكّل إعلان إسرائيل عن استعدادها لفتح قنوات تعاون اقتصادي مع لبنان، بالتزامن مع تكليف الرئيس اللبناني جوزيف عون للسفير السابق في واشنطن سيمون كرم ترؤس الوفد اللبناني في لجنة «الميكانيزم»، محطة جديدة في مسار المواجهة المعقّدة بين بيروت وتلّ أبيب.

وبينما تبدو خطوة إسرائيل مجرد انفتاح اقتصادي، إلا أنها «تحمل في جوهرها رسائل سياسية ملغومة بتوقيت حسّاس جداً»، حسبما تقول مصادر لبنانية، و«تندرج ضمن مسعى إسرائيلي لإعادة رسم مشهد إقليمي يتيح لها الظهور بمظهر الساعي إلى الاستقرار، مقابل تحميل لبنان ولا سيما (حزب الله) مسؤولية استمرار التوتر».

ولا يعكس الموقف الإسرائيلي بالنسبة للبنان تغيّراً فعلياً في السلوك، أو المقاربة، بقدر ما يشكّل محاولة لتسويق صورة سياسية يريدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مرحلة دقيقة داخلياً، وإقليمياً. وتقول المصادر لـ«الشرق الأوسط»: «إسرائيل، التي تواصل عملياتها العسكرية في لبنان براً وبحراً وجواً، لا تبدو مستعدة لاتخاذ خطوات عملية، بل تكتفي بإشارات مرونة محسوبة، تؤسّس بمفهومها لمرحلة تفاوض محتملة حين تنضج الظروف، وتتقاطع الحسابات الإقليمية».

الغاز والنفط

ويشكّل موقع لبنان الجيوسياسي نقطة جذب إقليمية لإسرائيل، وكل دول المنطقة، رغم قدراته الاقتصادية المحدودة. ويقول مصدر رسمي لبناني لـ«الشرق الأوسط» إن تل أبيب «لا تسقط من حساباتها إمكانية التعاون في مجال الطاقة والغاز، لا سيما بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي وقعته مع لبنان في العام 2022، حيث تسعى لإعطاء انطباع بأن شرق المتوسط يمكن أن يتحوّل إلى منطقة تبادل اقتصادي».

رئيس الحكومة نواف سلام خلال استقباله وفد مجلس الأمن الدولي في بيروت يوم الجمعة الماضي (إ.ب.أ)

ويلفت المصدر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن إسرائيل «تولي أهمية قصوى للتعاون في البنى التحتية الحدودية، مثل إدارة الموارد المائية، خصوصاً أن طمعها بمياه لبنان تاريخي، كما تتطلع إلى ربط أسواق المنطقة ببعضها، خصوصاً إذا فُعّل مشروع ممرات النقل الإقليمي».

ويشدد المصدر الرسمي على أن «أي تعاون اقتصادي بين دولتين في حالة نزاع مستمر يتطلب أولاً وقفاً دائماً لإطلاق النار، يتبع بترتيبات أمنية واضحة، ثم فتح قنوات اتصال رسمية، مقرونة بضمانات دولية، لذلك تبقى المبادرة الإسرائيلية مجرّد خطوة يحاول نتنياهو استثمارها في الداخل، ليظهر للمجتمع الإسرائيلي أنه انتزع مكاسب مهمّة في بداية مرحلة التفاوض مع لبنان».

رسالة سياسية

وينظر الخبراء إلى المبادرة الإسرائيلية على أنها رسالة سياسية موجّهة إلى الخارج أكثر مما هي طرح اقتصادي قابل للتطبيق. ويرى الباحث في الشؤون الجيوسياسيّة الدكتور زياد الصائغ أن إسرائيل «تسعى إلى الاستثمار في الموقف الأميركي السّاعي إلى تطبيق عملاني لمقرّرات مؤتمر شرم الشيخ، ولقاءات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض، بما يعني الذهاب أبعد من وقف القتال».

ويؤكد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن إسرائيل «تعتبر أن السلام من البوّابة الاقتصادية هو الأنجع لتجاوز الصراعات، لكنّ هذا أقرب إلى الفولكلور، لا سيّما مع استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانيّة»، ويشدد الصائغ على أن «الاستعجال، ورفع منسوب ما جرى في لجنة الميكانيزم قد يأخذ طابع جسّ النبض أيضاً لمدى استعداد لبنان للذهاب بعيداً في المفاوضات، وهذا أيضاً يشكّل محاولة غير ناضجة الظروف».

سفينة عسكرية إسرائيلية تبحر بجوار منصة إنتاج حقل ليفياثان للغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط (أرشيفية - رويترز)

لكن الاستعجال الإسرائيلي للتعاون الاقتصادي مغاير تماماً للمشهد اللبناني، باعتبار أن الذهاب نحو هذا الخيار أشبه بالمغامرة، ويؤكد الصائغ أنّ «ملف لبنان التفاوضيّ يبدو ضبابيّاً حتى السّاعة، ولو أنّ سقفه اتفاقيّة الهدنة الموقعة ما بين لبنان وإسرائيل في العام 1949 برعاية الأمم المتحدة، لكن من الواضح أنّ السفير سيمون كرم، وبخبرته الواسعة ووضوحه السّيادي، سيفتح الطريق أمام بناء عناصر هذا الملف من المسار السياسي، إلى الدبلوماسيّ، إلى القانونيّ، إلى ذاك المرتبط بالقرار 1701».

ويذكّر بأن لبنان «جزء من الإجماع العربي، وملتزم بسقف المبادرة العربية للسلام، وكل ما يُساق خارج ذلك يبقى من قبيل التمنّيات، أو التوقّعات، لكن من الواضح أنه لا عودة عن قرار تجفيف الصراعات والحروب في الشرق الأوسط».

طاقة وسياحة

إضافة إلى ذلك، يطرح تركيز الحكومة الإسرائيلية على المجال الاقتصادي علامات استفهام في ظلّ محدودية الدور الاقتصادي للبنان في المنطقة، ولا يستبعد الصائغ أن «تسعى إسرائيل إلى تعاون اقتصادي مع لبنان على المستوى النفطي، أو السياحي، أو الصناعي، خصوصاً في ظلّ الحديث عن فكرة إنشاء منطقة اقتصاديّة على حدود لبنان الجنوبيّة، انطلاقاً من المبادرة الأميركية». لكنّه شدد على أن ذلك «لا يستقيم قبل حوار دبلوماسيّ بطابع سياسي، ويبدو مستحيل المنال في هذه المرحلة، خصوصاً مع استمرار احتلال إسرائيل للنقاط الخمس، وعدم إنجاز تسوية تحريرية لمزارع شبعا، وبدء إعمار الجنوب، توازياً مع تحقيق بسط الدولة اللبنانية سيادتها حصراً على كامل أراضيها بقواها الذاتيّة». وختم الصائغ بالقول إن «ذلك كلّه يبقى مضبوطاً تحت سقف اتفاقية الهدنة 1949».


إسرائيل تقصف وتقتل وتُدمر ما تبقّى تحت سيطرتها بغزة

طفلة فلسطينية تحمل خبزاً في حين يستعد آخرون لدخول صفوفهم في مدرسة للأونروا تؤوي عائلات نازحة تضطر يومياً لإخراج أمتعتها لمتابعة يوم دراسي جديد في دير البلح وسط قطاع غزة السبت (أ.ف.ب)
طفلة فلسطينية تحمل خبزاً في حين يستعد آخرون لدخول صفوفهم في مدرسة للأونروا تؤوي عائلات نازحة تضطر يومياً لإخراج أمتعتها لمتابعة يوم دراسي جديد في دير البلح وسط قطاع غزة السبت (أ.ف.ب)
TT

إسرائيل تقصف وتقتل وتُدمر ما تبقّى تحت سيطرتها بغزة

طفلة فلسطينية تحمل خبزاً في حين يستعد آخرون لدخول صفوفهم في مدرسة للأونروا تؤوي عائلات نازحة تضطر يومياً لإخراج أمتعتها لمتابعة يوم دراسي جديد في دير البلح وسط قطاع غزة السبت (أ.ف.ب)
طفلة فلسطينية تحمل خبزاً في حين يستعد آخرون لدخول صفوفهم في مدرسة للأونروا تؤوي عائلات نازحة تضطر يومياً لإخراج أمتعتها لمتابعة يوم دراسي جديد في دير البلح وسط قطاع غزة السبت (أ.ف.ب)

تسعى إسرائيل قبيل الانتقال للمرحلة الثانية من وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مع مساعي الوسطاء، خصوصاً الولايات المتحدة، للانتقال إليها في أقرب فرصة ممكنة، إلى تدمير ما تبقّى في المناطق الخاضعة لسيطرتها داخل قطاع غزة، والتي تُقدر بنحو 53 في المائة من المساحة العامة للقطاع.

وينص وقف إطلاق النار في مرحلته الثانية، حال نُفّذ وفق الاتصالات المتسارعة في الأيام الأخيرة، على انسحاب آخر للقوات الإسرائيلية من داخل قطاع غزة، مع الحفاظ على بقائها في مناطق أخرى قد تصل إلى نحو ما مساحته 20 في المائة من مساحة القطاع.

وخلال ساعات ليل ونهار السبت، لم تنفك القوات الإسرائيلية باستخدام الطائرات الحربية تارةً، ومن خلال العربات المفخخة تارةً أخرى، بقصف وتدمير ما تبقى من منازل وبنى تحتية، سواء داخل الخط الأصفر المشار إليه ضمن اتفاق وقف إطلاق النار بوصفه خط انسحاب أولياً، أو على جانبه من داخل المناطق الخاضعة لسيطرة حركة «حماس».

أطفال يستعدون للدخول إلى صفوفهم في مدرسة للأونروا تعيش فيها عائلات نازحة تضطر يومياً لإخراج أمتعتها لمتابعة يوم دراسي جديد في دير البلح وسط قطاع غزة السبت (أ.ف.ب)

ولوحِظ خلال الأيام الثلاثة الماضية تكثيف الغارات الجوية وعمليات النسف، حتى داخل مدينة رفح التي تُسيطر عليها القوات الإسرائيلية منذ أكثر من عام ونصف العام، وكذلك شرق مدينتَي خان يونس وغزة. كما امتدت هذه العملية، من مساء الجمعة حتى ظهر السبت، إلى مناطق واقعة شرق وشمال جباليا وبيت لاهيا شمالَ قطاع غزة. وتسببت إحدى عمليات النسف في منطقة زايد ببيت لاهيا، ليلاً، في وقوع انفجار ضخم سُمِع دويه في جميع أنحاء قطاع غزة، ووصل صداه حتى جنوب تل أبيب.

وتعمد إسرائيل إلى تدمير ما تبقى من مبانٍ ومنازل في تلك المناطق، بهدف حرمان سكانها من العودة إليها بعد الانسحاب منها، في عملية تدمير ممنهجة، انتهجتها بشكل كبير خلال الحرب التي استمرت عامين على قطاع غزة.

ووفقاً لمصادر ميدانية تحدّثت لـ«الشرق الأوسط»، فإن قوات الاحتلال الإسرائيلي لم تكتفِ بعمليات القصف والنسف للمنازل والمباني داخل مناطق سيطرتها، بل عملت على استخدام العربات المفخخة، وإدخالها إلى مناطق غرب الخط الأصفر -مناطق سيطرة «حماس»- وذلك تحت نار القصف المدفعي، وإطلاق النار من المسيرات، لتصل إلى مناطق سكنية بهدف تدميرها بشكل كامل.

وأوضحت أن ذلك تزامن أيضاً مع عمليات توغّل ازدادت حدّتُها في الأيام الأخيرة، ولا سيما شرق مدينة غزة، وتحديداً في حييّ الشجاعية والتفاح. وأشارت إلى أن الآليات الإسرائيلية توغّلت مسافة لا تقل عن 350 متراً خلف الخط الأصفر، واقتربت من شارع صلاح الدين الرئيسي عند الحيَّين، ما يعني أنها باتت تفرض سيطرة شبه كاملة عليهما.

خيم النازحين وسط الدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي جواً وبراً في مدينة غزة الجمعة (أ.ب)

وأشارت إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي كررت المشهد ذاته صباح السبت في خان يونس، بعدما تقدّمت إلى أجزاء من حي الشيخ ناصر وأقامت سواتر ترابية، فيما قامت طائرات مسيّرة بإطلاق النار في مختلف الاتجاهات وعلى أي هدف متحرك. وبعد انسحاب القوات تبيّن أن الهدف من إقامة السواتر الترابية كان تمهيد الطريق لآليات هندسية لتنفيذ عمليات حفر في حي الفرا المجاور.

وقالت المصادر إن قوات الاحتلال الإسرائيلي ما زالت تعمل على توسيع سيطرتها في قطاع غزة، من خلال تقديم المكعبات الأسمنتية الصفراء، المشار إليها بالخط الأصفر، من خلال التقدم جزئياً من حين إلى آخر داخل بعض المناطق.

وتزامنت هذه التطورات مع قتل القوات الإسرائيلية 4 فلسطينيين، في حادثتين منفصلتين شمال القطاع، كما أصابت آخرين في مناطق أخرى.

ووفق مصادر طبية، فقد قُتل شابّان في إطلاق نار شرق جباليا البلد، فيما قُتل اثنان آخران وأصيب 3 في إطلاق نار ببلدة العطاطرة شمال غربي بيت لاهيا. كما أُعلن عن وفاة خامس متأثراً بجروحه بعد أن استهدفته طائرة مسيّرة، مساء الجمعة، بإطلاق النار عليه وعلى نجله، وهما يعملان في جهاز الدفاع المدني بغزة.

وأصيب عدد من الفلسطينيين بإطلاق نار في مناطق متفرقة، بينهم غزي بجروح خطيرة إثر قصف مدفعي استهدف محيط شارع صلاح الدين قبالة حي الشجاعية شرق مدينة غزة، في حين أصيب آخر بإطلاق نار من مسيرات شرق خان يونس.

وبذلك يكون قد قُتل ما لا يقل عن 370 فلسطينياً، وأصيب أكثر من 960 منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فيما قتل 70357 منذ السابع من أكتوبر 2023.