مبنى «العازارية» يختصر حال النازحين ومأساتهم

النزوح يُغيِّر ملامح وسط بيروت

بعض المحال عمد شاغلوها إلى بناء جدران لحجبها عن الخارج (الشرق الأوسط)
بعض المحال عمد شاغلوها إلى بناء جدران لحجبها عن الخارج (الشرق الأوسط)
TT

مبنى «العازارية» يختصر حال النازحين ومأساتهم

بعض المحال عمد شاغلوها إلى بناء جدران لحجبها عن الخارج (الشرق الأوسط)
بعض المحال عمد شاغلوها إلى بناء جدران لحجبها عن الخارج (الشرق الأوسط)

فرضت الحرب الإسرائيلية على لبنان تبدلاً في كامل مشهد العاصمة بيروت، لا سيّما وسطها التجاريّ، بعدما قصدها آلاف النازحين الذين كانوا أمام خيارين: إما إخلاء منازلهم، وإما قتلهم بعد تدمير ممتلكاتهم، فبات المكان أشبه بحالهم المنكوبة، يوحي بالألم وكثير من القهر والظلم.

والمشهد في مبنى «العازارية» وسط بيروت ليس سوى مثال بسيط يختزل هذه النكبة.

ثياب معلقة على نافذة... أطفال يلهون في الباحة، وخيام مصنوعة من قماش، ووجوه بدا عليها الأسى. هذه أبرز معالم المكان في مركز «العازارية» وسط العاصمة بيروت، الذي يستقبل راهناً نحو 3500 نازح من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبيّة لبيروت. وهو واحد من مراكز إيواء كثيرة غصّت بالنازحين بعد بدء العدوان الإسرائيليّ في سبتمبر (أيلول) الماضي.

لكن ما يميز هذا المركز تحديداً، وهو مؤلف من مبانٍ عدة صفراء اللون، أنه يقع قريباً من ساحتَي «رياض الصلح» و«بشارة الخوري»، ويحتوي مكاتب خاصة ومؤسسات حكوميّة، لكنه بات ملجأ الهاربين من القصف الإسرائيلي.

فضلت البقاء في العراء

في الباحة هناك، على مقربة من أحد المداخل الرئيسية، يجلس أحد النازحين من منطقة الليلكي (الضاحية الجنوبيّة لبيروت) في خيمته المصنوعة من قماش، حيث يلفحه الهواء... يقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذه أحوالنا التي فرضتها علينا الحرب. أَصلي من الهرمل، لكني أسكن في الضاحية، والمنطقتان مستهدفتان من العدو الإسرائيليّ».

ويضيف: «نزحت إلى هنا منذ أكثر من 20 يوماً، ولم أذهب إلى مراكز الإيواء في المدارس؛ لأنني أخاف من استهدافها، ففضلت البقاء هنا في العراء، وأنا الآن دون أموال أنتظر المساعدات الشحيحة. نزحت عائلتي إلى أحد المراكز في صوفر (قضاء عالية) وبقيت وحدي».

خيمة بلاستيكية وتوابعها في ساحة «العازارية»... (الشرق الأوسط)

وقريباً منه، تجلس السيدة الخمسينية نرمين، التي نزحت مع عائلتها من منطقة بئر حسن. تقول نرمين لـ«الشرق الأوسط»: «أتيت إلى هنا بعد بدء العدوان الهمجي، وتضرر المنطقة التي أسكن فيها. معي بناتي الثلاث وابني وزوج ابنتي وطفلها الصغير (يبلغ عمره أشهراً قليلة)، ونعيش جميعنا في الخيمة نفسها».

وجبة غذاء واحدة

تخبرنا نرمين بأحوالها والتحديات التي تواجهها وكيف يبدو العيش في المركز: «نعيش يومنا كأنه الأخير. نستيقظ وننام على أمل أن تنتهي الحرب، أما حاجاتنا فهي كثيرة. أعاني من نقص الأدوية لأني مصابة بالسكري والضغط، وأحتاج إلى متابعة مستمرة ودواء. بالقرب منا مركز (أطباء بلا حدود)، لكن تنقصنا الأدوية في أحيان كثيرة».

وتضيف: «منذ أيام ونحن نعيش على وجبة غذاء واحدة. لدينا مطبخ مركزي، لكنهم يقولون إنهم باتوا غير قادرين على تقديم 3 وجبات في اليوم، بسبب قلة المساعدات التي تصل إليهم. أمس مثلاً، وزعوا لكل فرد رغيفَي خبز ليس أكثر».

اكتظاظ وشح في الحاجات الأساسيّة

ويقول أحد المسؤولين في اللجنة التي تشكّلت من الأهالي لتنظيم المركز هناك، إن «المركز الذي افتتح منذ اليوم الأول للعدوان، لم يعد بإمكانه استقبال أعداد إضافية من النازحين»، رغم أنه لا يزال يشكل وجهة لكثيرين ممن يقصدونه، ولكن دون استقبالهم.

شراشف وخيام وجلسة لتداول الهموم في ساحة «العازارية»... (الشرق الأوسط)

ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «نحتاج إلى خيام بلاستيكية أو غير ذلك، لا سيّما أن نازحين كثراً يفترشون جوانب المباني، وكانوا في السابق يلتسعون بشمس الصيف، والآن هم معرضون للطوفان بسبب الأمطار التي عادة ما تكون غزيرة في لبنان».

عامل نظافة يزيل النفايات من ساحة «العازارية»... (الشرق الأوسط)

وحدث ما كان يتخوف منه النازحون؛ فقد بدأ الطقس يتبدل والأمطار تهطل. في المباني نفسها، غرف خاصة سمح أصحابها بفتحها للنازحين، كي يسكنوا فيها، ولكن غرفاً كثيرة لا تزال مقفلة. والبعض افترش جوانب الباحة.

يقول المسؤول إن «الغرف التي حصلوا على أذونات لفتحها هي التي استقر فيها بعض العائلات النازحة، حيث تقيم في كل غرفة عائلتان وربما أكثر، في حين أن الغرف الأخرى لا تزال مغلقة».

وفي إحدى الغرف مثلاً، تعيش عائلتان اقتسمتا الغرفة بشرشف معلق. ولأن عدد النازحين إلى المركز كبير جداً، فهذه الغرف غير كافية للجميع.

وعن نقص الحاجيات الأساسيّة في المركز يُخبرنا: «تنقصنا وسادات وأغطية وحرامات وفرش، ومياه شرب، وأدوات تنظيف، والأدوية، والحفاضات، وكذلك الحمامات المتنقلة، بسبب قلة المتوافر منها لدينا أو التي سمح لنا بفتحها للنازحين»، لافتاً إلى أن ما يصل من مساعدات إلى المركز يبقى ضئيلاً، فمثلاً «اضطررنا إلى توزيع غطاء واحد لكل شخص، بسبب أعداد النازحين الكبيرة لدينا. الحاجة كبيرة، لكن الإمكانات ضعيفة جداً».

القصة كما هي

تشبه القصة التي أدت إلى تشييد مبنى «العازارية» الشهير، قديماً، إلى حدٍ ما ما يمثله المكان راهناً بالنسبة إلى أناس كثر، «فقد لجأوا إليه لكي يؤويهم ويكون المكان الذين يسكنون ويتلقون فيه المساعدات».

شبان وأطفال في ساحة «العازارية»... (الشرق الأوسط)

ويروي رئيس «جمعية تراث بيروت»، سهيل منيمنة، قصة المبنى، ويقول: «في 14 سبتمبر عام 1848، حضرت الأم جيلاس وزميلاتها من راهبات (بنات المحبة العازاريات) إلى بيروت، وساهمن في مساعدة الأهالي بعد أن انتشر وباء الكوليرا في بيروت، وذلك من خلال مستوصف ميداني صغير أقيم في وسط بيروت التجاريّ». بعد ذلك، «اشترت (الإرسالية) قطعة الأرض نفسها، وأقامت عليها (دير العازارية)، ثمّ شيدت مكانه في ما بعد بناية (العازارية) المعروفة راهناً».

وقد شهد هذا المكان سابقاً تبدلاً، ولو كان ظرفياً ومؤقتاً، وذلك في عام 2019، بفعل الأزمة النقدية والاقتصادية التي عصفت بلبنان وكانت الأسوأ في تاريخ البلاد، حيث خرج الناس في مظاهرات عمّت كل المناطق اللبنانيّة، ومنها وسط بيروت التجاريّ، وبدلت صورة أن البلد لأبناء الطبقة المقتدرة التي تكرست منذ تسعينات القرن الماضي.


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي يجدد الدعوة لوقف إطلاق نار فوري في لبنان والالتزام بالقرار «1701»

المشرق العربي الدخان يتصاعد من موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت حياً في الضاحية الجنوبية لبيروت - 22 نوفمبر 2024 وسط الحرب المستمرة بين إسرائيل و«حزب الله» (أ.ف.ب)

الاتحاد الأوروبي يجدد الدعوة لوقف إطلاق نار فوري في لبنان والالتزام بالقرار «1701»

دعت بعثة الاتحاد الأوروبي إلى لبنان، اليوم (الجمعة)، مجدداً إلى التوصل لوقف فوري لإطلاق النار والالتزام بتنفيذ قرار مجلس الأمن «1701» بشكل كامل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم...

فيفيان حداد (بيروت)
المشرق العربي تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)

الجيش الإسرائيلي يجدد الغارات على ضاحية بيروت بعد إنذارات بالإخلاء

تجدَّدت الغارات الإسرائيلية، صباح الجمعة، على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات وجَّهها الجيش الإسرائيلي للسكان بإخلاء 3 مواقع.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
شؤون إقليمية هوكستين خلال اجتماعه مع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس ورئيس أركان الجيش هرتسي هليفي (وزارة الدفاع)

هوكستين «المتفائل» في تل أبيب يحتاج إلى جولات إضافية لإحكام الاتفاق مع لبنان

أجرى هوكستين في تل أبيب محادثات مع وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، في وزارة الدفاع، وذلك غداة وصوله من لبنان.

نظير مجلي (تل أبيب)

الجيش الإسرائيلي يجدد الغارات على ضاحية بيروت بعد إنذارات بالإخلاء

تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)
تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)
TT

الجيش الإسرائيلي يجدد الغارات على ضاحية بيروت بعد إنذارات بالإخلاء

تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)
تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)

تجدَّدت الغارات الإسرائيلية، صباح الجمعة، على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات وجَّهها الجيش الإسرائيلي للسكان بإخلاء 3 مواقع، في خضم المواجهة المفتوحة بين «حزب الله» والدولة العبرية منذ شهرين.

وأفادت «الوكالة الوطنية للإعلام» الرسمية اللبنانية بشنِّ «الطيران الحربي المعادي» غارتين على الأقل على منطقة الكفاءات في الحدث، مشيرة إلى «تصاعد الدخان بشكل كثيف من محيط الجامعة اللبنانية».

وأظهر البث المباشر لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» سحب دخان تتصاعد إثر 3 غارات على ضاحية بيروت الجنوبية، معقل «حزب الله».

وأعلن الجيش الإسرائيلي، في وقت لاحق، أن مقاتلاته الحربية «أتمّت جولة جديدة من الضربات» على ضاحية بيروت الجنوبية.

تصاعد الدخان بعد غارة جوية إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت الجمعة 22 نوفمبر 2024 (أ.ب)

وجاءت الغارات (الجمعة) غداة شنّ إسرائيل سلسلة غارات كثيفة استهدفت ضاحية بيروت الجنوبية، وجنوب لبنان وشرقه.

ووجَّه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، إنذار إخلاء إلى سكان بلدات الطيبة وعدشيت القصير ودير سريان، وكذلك إلى سكان بلدتَي برج الشمالي ومعشوق في جنوب لبنان.

وقال أدرعي في حسابه على منصة «إكس»: «يجب عليكم الإخلاء دون تأخير... يحظر عليكم التوجه جنوباً. أي تحرك نحو الجنوب قد يشكل خطراً على حياتكم».

وطالب متحدث الجيش الإسرائيلي أيضاً بإخلاء بعض المباني في منطقتَي الحدث وحارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت، وحذَّر من أن الجيش «سيعمل ضدها على المدى الزمني القريب».

وأحصت وزارة الصحة اللبنانية مقتل 52 شخصاً على الأقل، الخميس، جراء الغارات الإسرائيلية، منهم 40 في منطقة بعلبك (شرق) في ضربات لم تسبقها إنذارات.

وأصدر الجيش الإسرائيلي، صباح الجمع، إنذارات جديدة للسكان بإخلاء مبنى في مدينة صور الساحلية في الجنوب، كان قد شمله إنذار مماثل، الخميس، ومنطقتين في محيطها، بينهما مخيم البرج الشمالي المكتظ للاجئين الفلسطينيين.

سحابة من الدخان ترتفع في سماء الضاحية الجنوبية لبيروت جراء غارات إسرائيلية (رويترز)

وارتفعت وتيرة الغارات الإسرائيلية على مناطق عدة في لبنان منذ إنهاء المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، زيارته إلى بيروت، الأربعاء، في إطار وساطة يتولاها للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بين «حزب الله» وإسرائيل.

وبعد تبادل القصف مع «حزب الله» مدة عام تقريباً، بدأت إسرائيل منذ 23 سبتمبر (أيلول)، حملةً جويةً واسعةً تستهدف خصوصاً معاقل الحزب في ضاحية بيروت الجنوبية وفي جنوب البلاد وشرقها. وأعلنت منذ نهاية الشهر نفسه بدء عمليات توغل بري في جنوب لبنان. وأحصى لبنان مقتل 3583 شخصاً على الأقل بنيران إسرائيلية منذ بدء «حزب الله» وإسرائيل تبادل القصف في 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على وقع الحرب في غزة.