العملية التي نفّذتها إسرائيل في قلب مخيم النصيرات بقطاع غزة، وتحولت إلى حمام دم، نُفّذت في النهار بهدف مفاجأة حركة «حماس»، ما يعكس «حرب الأدمغة» التي ينخرط فيها كل من إسرائيل والحركة الفلسطينية، وتظهر تكتيكات جديدة اعتمدتها إسرائيل للوصول إلى الأسرى وتحريرهم، في مقابل تكتيكات «حماس» التي نجحت، لأكثر من 8 أشهر، في إخفاء معظم المحتجَزين.
والهجوم المُباغت، الذي حرَّر 4 أسرى إسرائيليين، بعد قتل 274 فلسطينياً في مجرزة جديدة بمخيم النصيرات، لم يكن الأول من نوعه في المخيم، بل هو الثاني بعد فشل محاولة، في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، مما يكشف حجم التعقيدات المتعلقة بإخفاء الأسرى، وأيضاً محاولة تحريرهم، فما الذي حدث في مخيم النصيرات؟
البداية كانت بالتسلل
دون سابق إنذار، عند الساعة 11 صباح يوم السبت، تغيَّر كل شيء عندما سيطرت أصوات الاشتبكات المسلّحة على المخيم. وفي حين كان الناس يحاولون فهم ما يجري، وجدوا أنفسهم تحت قصف مكثف بري وبحري وجوي، وانفجارات لا تتوقف، وطائرات مُسيّرة تقتل كل جسم حي متحرك، ووجدوا أنفسهم يموتون بلا مقدمات في عملية سريعة نسبياً. وقبل ذلك كانت قوة إسرائيلية خاصة تضم عدداً كبيراً من الجنود، الذين تخفّوا بلباس مدني فلسطيني، وتنكّروا بملابس رجالية ونسائية، وبعضهم وضع النقاب على وجهه، تسللوا إلى المخيم؛ في محاولة لتنفيذ عملية خاطفة وسريعة، قبل أن يجري اكتشافها، ويتغير كل شيء.
وقالت مصادر ميدانية في المخيم، لـ«الشرق الأوسط»، إن القوة الخاصة وصلت إلى مسرح العملية منقسمة إلى فرقتين؛ الأولى من خلال شاحنتين تجاريتين تحملان علامات لشركات فلسطينية محلية تعمل في غزة، والثانية من خلال سيارات مدنية إحداها كانت تحمل اسم منظمة دولية تُعنى بالمساعدات، والثانية كأنها تنقل نازحين من مكان إلى آخر. ووفق المصادر، فقد تقدمت السيارة التي تحمل أفراداً من القوة الخاصة، وكانوا يرتدون ملابس رجالية ونسائية، وبحوزتهم أمتعة محمولة، للإيهام بأنهم نازحون إلى مكان الشقق المستهدفة، بينما عملت المركبة التي كانت تحمل شعار منظمة دولية للتمويه، ووقفت شاحنة ثالثة في منطقة قريبة وكأنها جزء من عملية مساعدات يجري نقلها للمخيم، وسيارة رابعة تمركزت في مكان آخر بهدف وضع الأسرى بداخلها بعد تحريرهم.
وكشفت التحقيقات الداخلية أن المركبات المدنية، التي تسللت بها القوة الخاصة، وصلت من محور نتساريم عبر طريقين؛ الأولى من منطقة محيط المغراقة، والثانية من محيط الطريق الساحلية، وشقت طريقها باتجاه منطقة محيط مستشفى العودة، ثم إلى وسط مخيم النصيرات.
اشتباكات في المنازل
بعد وصول المركبات، داهمت قوات خاصة مدعومة بالكلاب البوليسية بشكل سريع مبنى مكوناً من طابقين يعود للدكتور في الجامعة الإسلامية محمد الجمل، في حين داهمت قوات أخرى، بالتزامن على بُعد 300 متر، مبنى آخر لعائلة وشاح. وأكدت المصادر أن المداهمات كانت متزامنة، وجرت بأكثر من طريقة، من بينها تسلق سلالم وحبال. وفي مبنى عائلة الجمل، كان هناك 3 من الأسرى الإسرائيليين، في حين كانت الأسيرة الوحيدة في مبنى عائلة وشاح، محروسين من قِبل عائلات تنتمي إلى «حماس».
وقالت المصادر، لـ«الشرق الأوسط»، إن ذلك كان جزءاً من تكتيكات «حماس»، إذ عمدت «كتائب القسام» إلى وضع الأسرى مع عائلات عناصرها، دون لباس عسكري ودون أسلحة، وليسوا في أنفاق، كما كانت تعتقد إسرائيل. وأضافت المصادر: «كانت مهمة هذه العائلات الموثوق بها في تأمين الحراسة والطعام وأي احتياجات، وإبقاء الأسرى وسط المدنيين؛ لمنع لفت الانتباه». وأضافت المصادر أن عناصر «القسام» انتبهوا للأمر، لكن كان ذلك متأخراً، فدارت اشتباكات خفيفة داخل مبنى عائلة الجمل، قبل أن تقوم القوة الخاصة بإعدام عدد من أفراد العائلة؛ بينهم طفلان ووالدتهما، ومسلحون.
ومع سماع دويّ الاشتباكات داخل المنزل، وتحليق الطائرات المكثف، تيقّظ بعض المسلحين خارج المبنى، ممن يقطنون بالقرب منه لما يجري، ودخلوا في اشتباكات عنيفة مع القوات الإسرائيلية داخل الأبنية وخارجها، استُخدمت فيها كل أنواع الأسلحة، الخفيفة وقاذفات «آر بي جي» ومضادات دروع وأفراد وصاروخ لإسقاط طائرة مروحية طراز «أباتشي»، ما دفع الطائرات الحربية والمروحية والدبابات للتدخل؛ من أجل تأمين خروج القوات الخاصة. ووفق المصادر، «كانت العملية أسهل نسبياً في منزل عائلة وشاح، الذي قُتل فيه مسلّح واحد من العائلة كان يقوم بحراسة الأسيرة».
وسرعان ما تحوَّل المخيم إلى ساحة دم شهدت قصفاً من كل مكان، في حين بدأت الدبابات الإسرائيلية التوغل على طريق صلاح الدين الرئيسية من أجل قطع كل الطرق إلى مخيم النصيرات. وكانت تلك الدبابات بالأساس قد توغلت، عدة مرات، قبل أيام من العملية في منطقة شرق مخيم البريج، وكذلك في منطقة شرق دير البلح، في إطار التمويه والتضليل لتنفيذ العملية الأساسية. واتضح لاحقاً أن هذه القوات، التي وصلت من محور نتساريم، هي التي نجحت في تخليص مركبة الأسرى، بعدما تعطلت خلال انسحابها.
الانسحاب الدموي ولحظات ارتباك
كانت لحظة الانسحاب هي الأكثر دموية، إذ عمدت إسرائيل إلى إلقاء أطنان المتفجرات فهدمت عدداً من المنازل والمباني، واستهدفت كل سيارة وشخص كان يتحرك في المنطقة، وقصفت كل الشوارع التي مرت من خلالها سيارة الأسرى، وكانت تحدث فجوات ضخمة فيها؛ لمنع المسلّحين من ملاحقتها قبل أن تتعطل السيارة، فتزيد إسرائيل حِمم النار، حتى تمكنت كتائب من «الفرقة 98» التي تقدمت مع الدبابات، من نقل الأسرى من المركبة التي علقت إلى مركبة أخرى، ثم إلى الطائرات.
أما الضربة الأخيرة، التي نفذتها إسرائيل بعد إخراج الأسرى سالمين، فاستهدفت فيها المركبة المتعطلة، وجميع الشاحنات والمركبات التي استُخدمت في العملية وتركتها خلفها، ثم قصفت المبنيين على كل مَن كان بداخلهما. ومع نجاح إسرائيل في تحرير 4 أسرى تكون هذه العملية هي الثالثة الناجحة، وهي أكبر عملية تحرير لأسرى، منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وكانت العملية الأولى هي إنقاذ المجنّدة أوري مغيديش، في أواخر أكتوبر، ثم في أوائل ديسمبر الماضي حاول الجيش الإسرائيلي إنقاذ رهينة أخرى، لكنه قُتل. وفي فبراير (شباط) الماضي، جرى تحرير فرناندو مارمان (61 عاماً)، ولويس هار (70 عاماً)، من مدينة رفح في جنوب غزة. ويلاحظ أن جميع المحتجَزين الذين حرَّرهم الجيش الإسرائيلي من غزة، جرى إنقاذهم من مبان، وليس من أنفاق.
ونجح الجيش في ذلك، بعدما بدأ يركز على الشقق وليس الأنفاق، وبدأ يغير أساليب التسلل كذلك.
واحتفت إسرائيل بالعملية، ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية بعض التفاصيل، مؤكدةً أن القوة التي نفَّذت العملية واجهت مقاومة شديدة، ما أدى إلى مقتل ضابط إسرائيلي. وأشارت إذاعة الجيش إلى أن قوات من «الفرقة 98» عملت على إسناد القوات التي نفذت العملية، خصوصاً عندما علقت مركبة كان على متنها الأسرى بعد تحريرهم من المبنيين، في حين شاركت 10 طائرات حربية في العملية؛ لتوفير غطاء جوي كثيف.
روايات إسرائيلية
نقلت الإذاعة عن ضابط إسرائيلي كبير قوله إنه جرى استخدام وسائل تكنولوجية آمنة وفريدة في العملية التي شابها كثير من التوتر، خصوصاً في اللحظة التي تعطلت فيها المركبة التي كان على متنها الأسرى بسبب كثافة النيران. ونشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، تقريراً شمل مقابلة مع ضباط شاركوا في العملية، وأكدوا أنه جرى إخفاء المعلومات عن الجنود حول حقيقة المهمة التي سيشاركون فيها، حتى ساعة الصفر.
وقال ضابط أشرف على عملية الإسناد: «وضعنا قناصة في أماكن كثيرة واقتحمنا عدداً من المباني، وكنا نقوم بتحييد كل مسلَّح وكل خطر يحدق بقواتنا العاملة»، واصفاً تلك اللحظات بأنها كانت معقدة وصعبة، وزادت جنوناً بعد أن علقت مركبة الإنقاذ بالمخيم. ووصف العملية بأنها من «عالم الخيال»، وأنها بدت وكأنها من أفلام هوليود. وقال ضابط آخر شارك في إنقاذ المركبة المتعطلة: «شكلنا حلقة نارية كبيرة ونجحنا في تضليل المسلَّحين، رغم أننا واجهنا قوة نارية كبيرة، وعملنا في أجواء صعبة، لكننا نجحنا في تحييد عدد كبير من المسلّحين كانوا يحاولون استهداف المركبة».
وأكدت عائلة الأسيرة الإسرائيلية، نوعا أرغماني، وفق «قناة 13» العبرية، أنها كانت برفقة أسيرين آخرين قبل أن يُقتلا في غارة إسرائيلية بالقرب من المكان الذي كانوا يوجَدون فيه. وأضافت: «لقد رأيت الصاروخ يدخل المنزل، كنت متأكدة من أنني سأموت، واعتقدت أن هذا كل شيء، لكنني بقيت على قيد الحياة».
وتحدثت الأسيرة كيف كانت طوال فترة أَسرها تتنقل بين عدة شقق، ولم تُحتجز في الأنفاق، وكانت من وقت لآخر تخرج لاستنشاق الهواء وهي متنكرة في زي امرأة عربية. والأسير أندري كوزلوف، كان يكتب مذكرات في دفتر كان بحوزته في مكان أَسْره، بينما أبلغ الأسير ألموغ مئير عائلته بأن «حماس» صوَّرته في يوم عيد ميلاده، وسألهم فيما إذا شاهدوا الفيديو حديثاً، لكن العائلة أبلغته بأن الحركة لم تنشر شيئاً. وفي السياق نفسه، قالت صحيفة «هآرتس» إن نجاح العملية لا يعني أن جميع الأسرى سيحرَّرون بالطريقة نفسها، وأنه يجب أن تكون هناك صفقة سريعة لاستعادة مَن تبقّى منهم.