في المقابر بين الخيام... هكذا قضت غزة أول أيام العيد

لا شيء طبيعياً في أول أيام عيد الفطر بغزة، في ظل الحرب المستمرة التي خلفت كثيراً من الدمار والقتل، وبخلاف باقي المحتفلين في العيد في كل بقاع الأرض، نكأ اليوم الأول للعيد في القطاع جراح مئات الآلاف الذين فقدوا أحبَّتهم ومنازلهم وحياتهم.

ومع بداية اليوم، أحيا الآلاف في غزة صلاة العيد في ساحات مفتوحة وسط دمار كبير، وفي مدارس النازحين المنتشرة في معظم مناطق القطاع، وساحات الخيام المتراصة في مدينة رفح جنوباً، ثم تفرقوا بعدما تكبَّدت كل عائلة طعم الفقد، ضحايا أو منازل.

وفي مقابر كبيرة ومفتوحة ومجرَّفة شمال غزة، قضى آلاف الغزيين ساعاتهم الأولى بعد صلاة العيد، جوار قبور أحبتهم، يتذكرون أعياداً مضت، وقال جود موسى الذي نقل للتو جثمان والده من المقبرة الجماعية في «مجمع الشفاء الطبي» إلى مقبرة كبيرة، إن «الحزن كبير، ولا وقت للعيد»، وأضاف: «أين غزة نفسها حتى نبحث عن العيد؟!».

أطفال بزي العيد يتجولون بين أنقاض منطقة مدمرة بغزة الأربعاء (أ.ف.ب)

أما زكي حلاوة (58 عاماً)، فاختار أن يقضي يومه الأول بالجلوس أمام منزله المدمَّر في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة. وقال لـ«الشرق الأوسط»، مشيراً إلى أنقاض منزله: «هنا يوجد أولاد أخي. (4 مش قادرين ندفنهم)».

وأضاف حلاوة: «أرواحهم تطوف هنا؛ لذلك اخترنا أن نكون معهم في أول أيام العيد».

عملياً فقدت كل عائلة في غزة أحد أبنائها؛ إما ضحية أو مصاباً أو نازحاً إلى الجنوب، وبينما تواصل إسرائيل فصل جنوب القطاع عن شماله، فإن كثيراً من العائلات حُرِمت من «لمة العيد».

واكتفى وائل حمدان من سكن مخيم جباليا، بلقاء حزين مع مَن تبقى من عائلته. وقال: «البقية شهداء أو نازحون إلى رفح».

وفي رفح، التي يعيش فيها أكثر من مليون ونصف فلسطيني غالبيتهم نازحون، سيطر البؤس كذلك على اليوم الأول للعيد الذي لم تتوقف فيه إسرائيل عن ارتكاب الجرائم.

فلسطيني مع ولديه في طريقه إلى صلاة العيد بغزة الأربعاء (أ.ف.ب)

وقال المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إن قطاع غزة يستقبل عيد الفطر بالحزن والأسى والألم، بسبب استمرار الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.

وعاد يوسف حميد (57 عاماً) من سكان حي النصر شمال مدينة غزة، النازح إلى رفح جنوباً، بعد الصلاة إلى للخيمة التي تأوي عائلته، ولم يعرف ماذا يفعل بعد ذلك.

وقال حميد، لـ«الشرق الأوسط»: «ليس عيداً؛ فقدنا أحبَّتنا وبيتنا. فقدنا الشعور بالحياة العادية».

وتحلَّق أحفاد حميد حوله، لكنه لم يجد ولا حتى القليل من المال من أجل توزيع «العيدية» عليهم، معلقاً بالقول: «لقد كبروا قبل الأوان بكثير».

وقتلت الحرب الإسرائيلية على غزة 14350 من الأطفال ويشكلون 44 في المائة من إجمالي عدد الضحايا في غزة.

وتقول وزارة الصحة إن أكثر من 70 في المائة من الضحايا هم نساء وأطفال، وبحسب الإحصاء الفلسطيني، تقتل إسرائيل 4 أطفال كل ساعة، لكن وسط كل هذا الحزن الطافح، حاول الغزيون الانتصار للحياة.

فتاة تبيع حلوى «اللقمة» في سوق دير البلح بغزة (أ.ف.ب)

وعملت عائلة ثائر أبو عبيد النازح من مخيم جباليا شمال غزة إلى رفح، لمدة يومين في إعداد الكعك، في محاولة منها لإدخال الفرحة على قلوب الأطفال.

وقالت زوجته لـ«الشرق الأوسط»: «عملت كعكاً ومعمولاً وحلويات. قلتُ (لازم الأطفال يشعروا بالعيد. بكفي قتل ودم ودمار. بكفي اللي شافوه. على الأقل يفرحوا)».

ووزَّع غزيون الملابس والمعمول على الأطفال في مخيمات النزوح، وغنوا للعيد.

وقال الناشط الاجتماعي هاني سليم لـ«الشرق الأوسط»: «هذه المبادرات هدفها التخفيف من معاناة الناس ومحاولة الوقوف إلى جانبهم»، وأضاف: «هذه الحرب ستقف والحياة ستنتصر في النهاية».

«هدنة العيد»... الأنظار على نتنياهو و«حماس»

تركزت الأنظار مساء أمس على الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو، وكذلك على حركة «حماس»، للبت في صفقة عرضتها الولايات المتحدة في مفاوضات القاهرة، للوصول إلى هدنة في غزة وتبادل جديد للمحتجزين. وبينما ضغط نتنياهو على حلفائه في الحكومة لقبول «الصفقة الأميركية»، قالت «حماس» إنها تدرسها، علماً بأن عيد الفطر يتم الاحتفال به اليوم، ما يعني أن قبول الصفقة قد يكون بمثابة «هدنة العيد». وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للصحافيين، أمس، إن هناك عرضاً «جاداً» مقدماً لـ«حماس» عليها قبوله. ودعا بلينكن الحركة إلى «الاستسلام وإلقاء السلاح». وأضاف لدى اجتماعه مع وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في واشنطن، أن الولايات المتحدة تواصل العمل بشكل وثيق مع قطر ومصر للتوصل إلى اتفاق لوقف النار في غزة. جاء ذلك في وقت أفادت فيه معلومات في تل أبيب بأن نتنياهو بدأ مفاوضات مع حلفائه في الحكومة، من أحزاب اليمين المتطرف وحزبه «الليكود»، حتى يؤيدوا الصفقة المتبلورة في مفاوضات القاهرة، التي وصلته من رئيس وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ويليام بيرنز. ويحاول نتنياهو إقناع حلفائه بأن قبول إسرائيل للصفقة وترك قيادة «حماس» ترفضها، سيخفف من عزلة الحكومة. لكن وزير المال، بتسلئيل سموتريتش، وضع شرطاً أمام نتنياهو، هو التوجه إلى إدارة الرئيس جو بايدن ومطالبتها بتعهد رسمي بأنه سيكون باستطاعة إسرائيل اجتياح رفح واستئناف حربها على قطاع غزة، حال انتهاء الهدنة المؤقتة التي يحددها اتفاق وقف النار، بعد 42 يوماً من سريانه. في غضون ذلك، اغتال الجيش الإسرائيلي، صالح الغمري، رئيس بلدية المغازي وسط قطاع غزة، مؤكداً نهجه الجديد القائم على قتل مسؤولين محليين يعملون في قطاعات مخصصة لخدمة الفلسطينيين النازحين، سواء شرطة أو بلديات أو لجان طوارئ.

خان يونس «ركام فوق الجثث» بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي

لا يصدق أهالي خان يونس الذين عاشوا تجربة الحرب بكل تفاصليها، ما رأته أعينهم بعد عودتهم إلى المدينة التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية، وتركتها أكبر كومة ركام في العالم، فوق جثث متحللة ومتعفنة.

وعملت القوات الإسرائيلية في خان يونس أكثر من 4 أشهر، في عملية هي الأوسع في الحرب الحالية، وكانت تهدف إلى الوصول إلى قادة «حماس» الأبرز، بمن فيهم يحيى السنوار، قائد الحركة في غزة، ومحمد الضيف، قائد «كتائب القسام»، وإلى محتجزين إسرائيليين هناك، وهي أهداف لم تتحقق.

فضل بربخ، الذي يقطن بالقرب من حي الأمل الذي سوَّته إسرائيل بالأرض، حاول عبثاً البحث عن شقيقه أحمد الذي فقد أثره في الحي.

قال بربخ لـ«الشرق الأوسط»، إنه بحث تحت أنقاض منزل العائلة وفي محيطه، ونادى وصرخ عليه من فوق كل كومة ركام، وبين السيارات المدمرة والمكومة، وفي الشوارع المردومة؛ لكن من دون جدوى. أضاف: «قالوا لي إنه استشهد. قناص قتله. لكن وين جثته إذا صحيح. مش لاقي أي أثر لها».

فلسطينيون وسط المباني المتضررة في خان يونس التي عادوا إليها الاثنين (أ.ف.ب)

أثناء البحث المضني، عثر أبناء عمومة فضل على 3 من أفراد عائلتهم قتلتهم إسرائيل، أحدهم تم إعدامه، وآخر مشوه تماماً بفعل دهسه من قبل دبابة إسرائيلية؛ لكن أحمد ليس من بينهم.

يقول رامي بربخ، إن أقاربه كانوا يحاولون الخروج من منزلهم بعد أن عادت قوات الاحتلال للمنطقة، وسط إطلاق نار وقصف مدفعي كبير، وقُتلوا جميعاً. وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «لم نتعرف عليهم بسهولة، لولا أننا نعرف ما حدث وأين كانوا. مشوهين بالكامل».

ولليوم الثاني على التوالي، تواصل طواقم الدفاع المدني انتشال الجثامين في خان يونس. وقال ناطق باسم الدفاع المدني إنه تم انتشال أكثر من 50 جثماناً من مناطق متفرقة، بينها نحو 30 متحللة، وبعضها مجرد أشلاء.

وتكتنف عمليات البحث عن الجثامين صعوبات كثيرة، بسبب حجم الدمار المهول في خان يونس؛ إذ مسحت إسرائيل أحياء كاملة في خان يونس، وغيرت معالم أحياء أخرى.

فلسطينية تنشر الملابس على حبل في مخيم نازحين قرب مستشفى «ناصر» بخان يونس (إ.ب.أ)

تقول صبحية شعث (53 عاماً) من سكان حي الأمل بخان يونس، إنها لم تصدق ما رأته. وأضافت لـ«الشرق الأوسط»: «لم أعرف أين بيتي. لقد تحول إلى كومة أحجار. كل الحي تحول إلى كومة أحجار كبيرة. حسبي الله ونعم الوكيل. نشوف فيهم يوماً أسود».

وكان منزل شعث المكون من 3 طوابق يأوي 26 فرداً، ليس لهم مأوى اليوم. تقول صبحية: «تعب السنين وتحويشة العمر كلها كان في هذا المنزل. واليوم ما بنعرف وين نروح وشو نعمل وشو راح يصير فينا».

فلسطينيان في محيط مستشفى «ناصر» بخان يونس نزحا هرباً من المعارك في 24 مارس (أ.ف.ب)

تظهر الصور الملتقطة من خان يونس أن أكثر من نصف المدينة تدمَّر. وقالت وكالة «أسوشييتد برس» نقلاً عن خبيرين في تتبع الدمار بواسطة الأقمار الاصطناعية، الثلاثاء، إن نحو 55 في المائة من المباني في منطقة خان يونس جنوب قطاع غزة قد دُمرت أو تضررت.

صورة ملتقطة يوم 7 أبريل لكتابات استفزازية تركها جنود إسرائيليون في خان يونس قبل انسحابهم منها (أ.ف.ب)

وحسب إحصاءات أولية، فإن 45 ألف مبنى في منطقة خان يونس دُمرت أو تضررت. ولا يعد هذا الرقم نهائياً، في ظل مواصلة إسرائيل شن غارات على المدينة، حتى بعد الانسحاب البري. وعلى الرغم من تراجع كثافة الغارات بشكل عام؛ فإن إسرائيل واصلت شن غارات مركزة في خان يونس ومناطق أخرى في القطاع.

إسرائيليون من «الوحدة 98» في الجيش يقومون بأعمال صيانة على دباباتهم بعد انسحابهم من خان يونس (إ.ب.أ)

وتتمركز القوات الإسرائيلية الآن على طول الشريط الممتد من الحدود الشرقية لمنطقة جحر الديك، وصولاً لمحور محررة نتساريم، وصولاً لشارع الرشيد البحري، وهي المنطقة التي تفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه.

ووفقاً لشهادات مواطنين تنقلوا من شمال قطاع غزة إلى جنوبه مؤخراً، فإن قوات الاحتلال وضعت أبراج مراقبة على امتداد الشارع الذي تسيطر عليه، ما يشير إلى نيات إسرائيلية البقاء لفترة طويلة هناك.

وأكد الجيش الإسرائيلي أن لواء «ناحال» العسكري هو من يسيطر على تلك المنطقة، بينما ذكر تقرير لقناة «14» العبرية نشر مؤخراً، أنه تم بدء العمل على رصف الطريق ذاته، ليتم فصل شمال القطاع بشكل دائم عن وسطه وجنوبه.

وأظهرت صور أقمار اصطناعية إقدام قوات الاحتلال على إنشاء معسكرين قريبين من الحدود، يعتقد أنهما سيستخدمان لتمركزها بشكل دائم، والتحقيق مع الفلسطينيين الذين يتنقلون من شمال القطاع إلى جنوبه، وبالعكس، في حال سُمح بذلك لاحقاً.