يقول المفكّر والفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه: «إن الأفكار تُسيّر العالم». فكم من فكرة كانت مُكلفة؟ وكم من فكرة حاول الأقوى أن يفرضها على الضعيف؟ وكم من الحروب خيضت تحت مُسميّات وأفكار، وآيديولوجيات متعدّدة؟
المعضلة في الأفكار والآيديولوجيات أنها لا تستمرّ عبر الزمان والمكان، ولها ما يُسمّى بتاريخ انتهاء الصلاحيّة. فهي تُنتج لخدمة الإنسان في وقت وزمان محدّدين. لكن مع الوقت، ومع التغيير في الأجيال، تسقط آيديولوجيات لأن العصر والوقت تقدّما عليها. لكن سقوطها مُكلف ودمويّ، في أغلب الأحيان. فهي، وعبر الممارسة، تخلق أجيالاً خضعت لتنشئة بشكل معيّن، ومُعدّة لخدمات آيديولوجيّة مُحدّدة. ولذلك عند سقوطها تتصادم الأجيال القديمة مع الأجيال الجديدة. تريد الأجيال القديمة الحفاظ على «الستاتيكو» (الوضع الراهن). أما أجيال التغيير فتريد الانتقال إلى أفكار جديدة. وهكذا دواليك. تتكرّر المنظومة وأنماط التغيير.
يُعرّف البعض الجيوسياسية (Geopolitics) على أنها عمليّة تفاعليّة بين الجغرافيا والتكنولوجيا، وعلى أنها الانعكاس المباشر للصراع المستمرّ في العالم بين القوى الفاعلة في أي نظام عالميّ. كلّ ذلك من أجل الهيمنة. لكن الجيوسياسية هي أيضاً من الأفكار التي تحدّد أطر التخطيط للهيمنة على الجغرافيا وعلى ما تحوي من ثروات حيويّة وضروريّة لإنتاج الثروة (النفط، والغاز، والذهب وغيرها). هذا إذا ما تم اعتبار الجغرافيا قدراً لا مفرّ منه.
«التفرّد التكنولوجيّ»
وهنا يأتي دور التكنولوجيا وتأثيرها على الجيوسياسية.
يقول المفكّر الأميركيّ هال براندز إن التكنولوجيا مترابطة بشكل مباشر مع الفكر والصراعات الجيوسياسيّة. فالتكنولوجيا تساعد على إدراك ووعي المسافة والوقت بشكل مختلف. ومن يملكها يستطيع أن يفرض إرادته السياسيّة على الغير. في القرن التاسع عشر، دخلت سكك الحديد على المسرح الأوروبي، فأدت إلى تقلّص المسافات وتقصير الوقت، وسمحت بتحريك الجيوش وحشدها بطريقة أسرع مما قبل. فكانت أفكار العالم الجغرافيّ الإنجليزي هالفورد ماكندر حول أهميّة احتواء السهل الأوراسيّ، كي تبقى بريطانيا الإمبراطورية الأهم والأعظم على المسرح العالميّ.
كان هذا في القرن التاسع عشر، حيث كانت الهيمنة للثورة الصناعيّة. فماذا ستكون عليه تأثيرات التكنولوجيا على الجيوسياسية في القرن الواحد والعشرين؟ يُطرح هذا السؤال في ضوء سرعة تطوّر الذكاء الاصطناعيّ بشكل هائل، بحيث إنه لم يعد بعيداً عن الوصول إلى ما يُسمّيه الخبراء بنقطة «التفرّد التكنولوجيّ» (AI Singularity). عند هذه النقطة، تصبح الآلة مستقلّة في وعيها عن الإنسان، بل تصبح هي البديل. وإذا كان ديكارت قد قال: «أنا أفكرّ إذن أنا موجود»، فماذا سيُقال عندما تفكّر الآلة؟ وأين موقع الإنسان منها؟
المسافة والوقت في حرب المدن
الهندسة المدنيّة هي عملية إسقاط المؤسسات الإنسانيّة، التي من المفروض أن تخدم الإنسان، على الجغرافيا والطوبوغرافيا. فهناك الشارع، وهناك المستشفى، وكذلك المدرسة والجامعة والمصنع. تملأ هذه البوتقة من المؤسسات الإنسانيّة المساحة والمسافة وتربطهما بعامل الوقت (Time & Space).
هذا من جهة الهندسة المدنيّة. أما من جهّة الهندسة المعماريّة، فهي توزّع المساحة المعيشيّة للإنسان. فهناك غرفة النوم الخاصة. وهناك غرفة الجلوس المشتركة، وهناك المطبخ، ومدخل البيت. للبيت حرمة وسيادة وقانون يحميه، كما للأماكن العامة.
في حرب المدن، تدور المعارك بين مهاجم ومدافع. الأفضلية لصاحب الأرض. تغيّر حرب المدن إسقاطات الهندسة المعماريّة كما المدنيّة. مع حرب المدن، تتغيّر وظائف المؤسسات الإنسانيّة. في حرب المدن، يحاول المدافع تكبير وتطويل المسافات أمام المهاجم، وبالتالي إطالة الوقت إلى حدّه الأقصى. وفي الوقت الذي يريد فيه المهاجم استعمال كلّ ما يملك من قوّة عبر المناورة، يسعى المدافع إلى منعه من ذلك. وفي الوقت الذي يريد فيه المهاجم فرض الانسيابيّة (Fluidity) على المُدافع، يسعى المدافع، في المقابل، إلى فرض حالة «التعثّر والبطء». وكلّما تعثّر المهاجم، كلما كان هدفاً سهلاً للمُدافع.
في حرب المدن يصبح الشارع مُحرّماً على آليات العدو، ليتغيّر بذلك التوصيف الوظيفيّ له. وبدل أن يكون مرفقاً يؤمّن الانسيابيّة الإنسانيّة والاقتصاديّة والتواصل، يصبح سدّاً ومتراساً لقنص دبابات العدو وآلياته.
في حرب المدن، تتغيّر وظيفة الشبّاك. فإن فُتح خلال المعركة، سيكون هدفاً ظاهراً للقناص. حتى باب المنزل قد يكون مُفخّخاً.
تشكّل حرب المدن، سواء في غزة أو غيرها من الحروب، معضلة كبيرة للمهاجم، خاصة إذا أعدّ المدافع الأرضية وساحة المعركة بشكل صحيح. فكلّما تورّط المهاجم في الحرب، كلّما كبرت خسائره. وكلّما كبرت خسائره، كلما أصبح صعباً الخروج من جحيم حرب المدن. إذا هو كالحشرة التي تعلق في مصيدة بيت العنكبوت. فهي، أي الحشرة، كلّما تحركت للخلاص من الشرك الذي وقعت فيه، كلّما التفّت عليها أكثر خيوط بيت العنكبوت.