فلسفة الأفكار والمسافة والوقت في الحروب والصراعات

في حرب المدن الأفضلية لصاحب الأرض

جنود إسرائيليون خلال معارك في محيط البريج بوسط غزة يوم الاثنين (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال معارك في محيط البريج بوسط غزة يوم الاثنين (أ.ف.ب)
TT

فلسفة الأفكار والمسافة والوقت في الحروب والصراعات

جنود إسرائيليون خلال معارك في محيط البريج بوسط غزة يوم الاثنين (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون خلال معارك في محيط البريج بوسط غزة يوم الاثنين (أ.ف.ب)

يقول المفكّر والفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه: «إن الأفكار تُسيّر العالم». فكم من فكرة كانت مُكلفة؟ وكم من فكرة حاول الأقوى أن يفرضها على الضعيف؟ وكم من الحروب خيضت تحت مُسميّات وأفكار، وآيديولوجيات متعدّدة؟

المعضلة في الأفكار والآيديولوجيات أنها لا تستمرّ عبر الزمان والمكان، ولها ما يُسمّى بتاريخ انتهاء الصلاحيّة. فهي تُنتج لخدمة الإنسان في وقت وزمان محدّدين. لكن مع الوقت، ومع التغيير في الأجيال، تسقط آيديولوجيات لأن العصر والوقت تقدّما عليها. لكن سقوطها مُكلف ودمويّ، في أغلب الأحيان. فهي، وعبر الممارسة، تخلق أجيالاً خضعت لتنشئة بشكل معيّن، ومُعدّة لخدمات آيديولوجيّة مُحدّدة. ولذلك عند سقوطها تتصادم الأجيال القديمة مع الأجيال الجديدة. تريد الأجيال القديمة الحفاظ على «الستاتيكو» (الوضع الراهن). أما أجيال التغيير فتريد الانتقال إلى أفكار جديدة. وهكذا دواليك. تتكرّر المنظومة وأنماط التغيير.

يُعرّف البعض الجيوسياسية (Geopolitics) على أنها عمليّة تفاعليّة بين الجغرافيا والتكنولوجيا، وعلى أنها الانعكاس المباشر للصراع المستمرّ في العالم بين القوى الفاعلة في أي نظام عالميّ. كلّ ذلك من أجل الهيمنة. لكن الجيوسياسية هي أيضاً من الأفكار التي تحدّد أطر التخطيط للهيمنة على الجغرافيا وعلى ما تحوي من ثروات حيويّة وضروريّة لإنتاج الثروة (النفط، والغاز، والذهب وغيرها). هذا إذا ما تم اعتبار الجغرافيا قدراً لا مفرّ منه.

جنود إسرائيليون وتبدو مدينة غزة أمامهم في 1 يناير الجاري (أ.ف.ب)

«التفرّد التكنولوجيّ»

وهنا يأتي دور التكنولوجيا وتأثيرها على الجيوسياسية.

يقول المفكّر الأميركيّ هال براندز إن التكنولوجيا مترابطة بشكل مباشر مع الفكر والصراعات الجيوسياسيّة. فالتكنولوجيا تساعد على إدراك ووعي المسافة والوقت بشكل مختلف. ومن يملكها يستطيع أن يفرض إرادته السياسيّة على الغير. في القرن التاسع عشر، دخلت سكك الحديد على المسرح الأوروبي، فأدت إلى تقلّص المسافات وتقصير الوقت، وسمحت بتحريك الجيوش وحشدها بطريقة أسرع مما قبل. فكانت أفكار العالم الجغرافيّ الإنجليزي هالفورد ماكندر حول أهميّة احتواء السهل الأوراسيّ، كي تبقى بريطانيا الإمبراطورية الأهم والأعظم على المسرح العالميّ.

كان هذا في القرن التاسع عشر، حيث كانت الهيمنة للثورة الصناعيّة. فماذا ستكون عليه تأثيرات التكنولوجيا على الجيوسياسية في القرن الواحد والعشرين؟ يُطرح هذا السؤال في ضوء سرعة تطوّر الذكاء الاصطناعيّ بشكل هائل، بحيث إنه لم يعد بعيداً عن الوصول إلى ما يُسمّيه الخبراء بنقطة «التفرّد التكنولوجيّ» (AI Singularity). عند هذه النقطة، تصبح الآلة مستقلّة في وعيها عن الإنسان، بل تصبح هي البديل. وإذا كان ديكارت قد قال: «أنا أفكرّ إذن أنا موجود»، فماذا سيُقال عندما تفكّر الآلة؟ وأين موقع الإنسان منها؟

دمار جراء الغارات الإسرائيلية على رفح بجنوب قطاع غزة اليوم الثلاثاء (رويترز)

المسافة والوقت في حرب المدن

الهندسة المدنيّة هي عملية إسقاط المؤسسات الإنسانيّة، التي من المفروض أن تخدم الإنسان، على الجغرافيا والطوبوغرافيا. فهناك الشارع، وهناك المستشفى، وكذلك المدرسة والجامعة والمصنع. تملأ هذه البوتقة من المؤسسات الإنسانيّة المساحة والمسافة وتربطهما بعامل الوقت (Time & Space).

هذا من جهة الهندسة المدنيّة. أما من جهّة الهندسة المعماريّة، فهي توزّع المساحة المعيشيّة للإنسان. فهناك غرفة النوم الخاصة. وهناك غرفة الجلوس المشتركة، وهناك المطبخ، ومدخل البيت. للبيت حرمة وسيادة وقانون يحميه، كما للأماكن العامة.

في حرب المدن، تدور المعارك بين مهاجم ومدافع. الأفضلية لصاحب الأرض. تغيّر حرب المدن إسقاطات الهندسة المعماريّة كما المدنيّة. مع حرب المدن، تتغيّر وظائف المؤسسات الإنسانيّة. في حرب المدن، يحاول المدافع تكبير وتطويل المسافات أمام المهاجم، وبالتالي إطالة الوقت إلى حدّه الأقصى. وفي الوقت الذي يريد فيه المهاجم استعمال كلّ ما يملك من قوّة عبر المناورة، يسعى المدافع إلى منعه من ذلك. وفي الوقت الذي يريد فيه المهاجم فرض الانسيابيّة (Fluidity) على المُدافع، يسعى المدافع، في المقابل، إلى فرض حالة «التعثّر والبطء». وكلّما تعثّر المهاجم، كلما كان هدفاً سهلاً للمُدافع.

في حرب المدن يصبح الشارع مُحرّماً على آليات العدو، ليتغيّر بذلك التوصيف الوظيفيّ له. وبدل أن يكون مرفقاً يؤمّن الانسيابيّة الإنسانيّة والاقتصاديّة والتواصل، يصبح سدّاً ومتراساً لقنص دبابات العدو وآلياته.

في حرب المدن، تتغيّر وظيفة الشبّاك. فإن فُتح خلال المعركة، سيكون هدفاً ظاهراً للقناص. حتى باب المنزل قد يكون مُفخّخاً.

تشكّل حرب المدن، سواء في غزة أو غيرها من الحروب، معضلة كبيرة للمهاجم، خاصة إذا أعدّ المدافع الأرضية وساحة المعركة بشكل صحيح. فكلّما تورّط المهاجم في الحرب، كلّما كبرت خسائره. وكلّما كبرت خسائره، كلما أصبح صعباً الخروج من جحيم حرب المدن. إذا هو كالحشرة التي تعلق في مصيدة بيت العنكبوت. فهي، أي الحشرة، كلّما تحركت للخلاص من الشرك الذي وقعت فيه، كلّما التفّت عليها أكثر خيوط بيت العنكبوت.


مقالات ذات صلة

«حزب الله»: هاجمنا قاعدة أسدود البحرية وقاعدة استخبارات عسكرية قرب تل أبيب

المشرق العربي ضابط شرطة يسير في مكان سقوط المقذوف بعد أن أبلغ الجيش الإسرائيلي عن وابل من المقذوفات التي تعبر إلى إسرائيل من لبنان في معالوت ترشيحا بشمال إسرائيل (رويترز)

«حزب الله»: هاجمنا قاعدة أسدود البحرية وقاعدة استخبارات عسكرية قرب تل أبيب

أعلن «حزب الله» اللبناني، في بيان، الأحد، أنه شن هجوماً بطائرات مسيَّرة على قاعدة أسدود البحرية في جنوب إسرائيل للمرة الأولى.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق مؤسِّسة المبادرة مع فريقها المُساعد للنازحين الصمّ (نائلة الحارس)

«مساعدة الصمّ»... مبادرة تُثلج قلب مجتمع منسيّ في لبنان

إهمال الدولة اللبنانية لمجتمع الصمّ يبرز في محطّات عدّة. إن توجّهوا إلى مستشفى مثلاً، فليس هناك من يستطيع مساعدتهم...

فيفيان حداد (بيروت)
الاقتصاد صائغ يعرض قطعة من الذهب في متجره بمدينة الكويت (أ.ف.ب)

الذهب يواصل مكاسبه مع احتدام الحرب الروسية - الأوكرانية

ارتفعت أسعار الذهب، يوم الخميس، للجلسة الرابعة على التوالي مدعومة بزيادة الطلب على الملاذ الآمن وسط احتدام الحرب الروسية - الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد ناقلة نفط خام في محطة نفط قبالة جزيرة وايدياو في تشوشان بمقاطعة تشجيانغ (رويترز)

النفط يرتفع وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية

ارتفعت أسعار النفط، يوم الخميس، وسط مخاوف بشأن الإمدادات بعد تصاعد التوتر الجيوسياسي المرتبط بالحرب الروسية - الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
شؤون إقليمية آموس هوكستين (أ.ف.ب)

هوكستين يصل إلى تل أبيب قادماً من بيروت: هناك أمل

وصل المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، إلى إسرائيل قادماً من لبنان، في إطار جهود الوساطة لوقف إطلاق النار بين «حزب الله» والدولة العبرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

ميقاتي: استهداف إسرائيل الجيش اللبناني رسالة دموية

جانب من الأضرار التي أصابت مركز الجيش اللبناني في منطقة العامرية في قضاء صور إثر استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر (أ.ف.ب)
جانب من الأضرار التي أصابت مركز الجيش اللبناني في منطقة العامرية في قضاء صور إثر استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر (أ.ف.ب)
TT

ميقاتي: استهداف إسرائيل الجيش اللبناني رسالة دموية

جانب من الأضرار التي أصابت مركز الجيش اللبناني في منطقة العامرية في قضاء صور إثر استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر (أ.ف.ب)
جانب من الأضرار التي أصابت مركز الجيش اللبناني في منطقة العامرية في قضاء صور إثر استهدافه بقصف إسرائيلي مباشر (أ.ف.ب)

رأى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن استهداف إسرائيل مركزاً للجيش اللبناني في الجنوب، يمثل رسالة دموية مباشرة برفض مساعي التوصل إلى وقف إطلاق النار.

وأعلنت قيادة الجيش اللبناني، الأحد، «استشهاد أحد العسكريين وإصابة 18 بينهم مصابون بجروح بليغة نتيجة استهداف العدو الإسرائيلي مركز الجيش في العامرية على طريق القليلة - صور، كما تعرّض المركز لأضرار جسيمة».

وكانت «الوكالة الوطنية للإعلام» (الرسمية) أفادت باستهداف حاجز للجيش في العامرية أدى إلى إصابة أكثر من 8 عسكريين، بينهم حالتان حرجتان، مشيرة إلى أن سيارات الإسعاف و«الصليب الأحمر» وكشافة الرسالة للإسعاف الصحي هُرعت إلى المكان، وعملت على نقل الجرحى إلى المستشفيات في صور.

عدوان مباشر

وفي تعليق منه على ما حدث رأى ميقاتي أن «استهداف العدو الإسرائيلي بشكل مباشر مركزاً للجيش في الجنوب وسقوط شهداء وجرحى يمثل رسالة دموية مباشرة برفض كل المساعي والاتصالات الجارية للتوصل إلى وقف النار، وتعزيز حضور الجيش في الجنوب، وتنفيذ القرار الدولي رقم 1701»، مؤكداً أن «هذا العدوان المباشر يضاف إلى سلسلة الاعتداءات المتكررة للجيش وللمدنيين اللبنانيين، وهو أمر برسم المجتمع الدولي الساكت على ما يجري في حق لبنان».

ورأى أن «رسائل العدو الإسرائيلي الرافض لأي حل مستمرة، وكما انقلب على النداء الأميركي - الفرنسي لوقف إطلاق النار في سبتمبر (أيلول) الفائت، ها هو مجدداً يكتب بالدم اللبناني رفضاً وقحاً للحل الذي يجري التداول بشأنه».

وأضاف قائلاً: «إن الحكومة التي عبّرت عن التزامها تطبيق القرار الدولي رقم 1701 وتعزيز حضور الجيش في الجنوب، تدعو دول العالم والمؤسسات الدولية المعنية إلى تحمّل مسؤولياتها في هذا الصدد».

أدى استهداف الجيش في صور جنوب لبنان إلى أضرار جسيمة في المركز والآليات العسكرية (أ.ف.ب)

ويتعرض الجيش اللبناني منذ بدء الحرب على لبنان لاستهدافات إسرائيلية متواصلة؛ ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوفهم، بحيث وصل عدد القتلى إلى 44 عسكرياً، بينهم 19 قُتلوا في مراكز عملهم و25 في منازلهم مع عائلاتهم.

ويأتي ذلك في ظل الحديث الجدي اليوم حول دور الجيش اللبناني في المرحلة المقبلة والوعود التي يطلقها المسؤولون اللبنانيون لناحية تطبيق القرار 1701، وزيادة عدد الجنود والضباط عند الحدود اللبنانية إلى 10 آلاف.

استهداف متكرر

وتضع مصادر أمنية الاستهدافات المتكررة للجيش اللبناني في خانة الرسائل لمنع وجود العسكريين عند الحدود اللبنانية، وهو ما يقوم به الجيش الإسرائيلي مع قوات الـ«يونيفيل» بحيث يريد فرض منطقة آمنة مهجورة ومحروقة.

وينتشر اليوم نحو 4500 عنصر من الجيش في منطقة جنوب الليطاني، كانت مهمتهم بشكل أساسي مراقبة تطبيق القرار 1701 والخروق التي تحصل، وكان قد أعيد انتشارهم بالتراجع ما بين 3 و4 كيلومترات، عند بدء التصعيد الإسرائيلي عبر إعادة تموضعهم في مراكز خلفية محصنة ومجهزة للدفاع إذا ما حدث أي تقدم للجيش الإسرائيلي»، وفق ما يؤكد مصدر أمني.