المخاوف من توسع الحرب تفرغ البلدات الحدودية في جنوب لبنان

السكان يفتقدون الأمان... والحركة التجارية في حدودها الدنيا

جنود إسرائيليون من سلاح المدفعية في موقع قريب من الحدود مع لبنان (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون من سلاح المدفعية في موقع قريب من الحدود مع لبنان (أ.ف.ب)
TT

المخاوف من توسع الحرب تفرغ البلدات الحدودية في جنوب لبنان

جنود إسرائيليون من سلاح المدفعية في موقع قريب من الحدود مع لبنان (أ.ف.ب)
جنود إسرائيليون من سلاح المدفعية في موقع قريب من الحدود مع لبنان (أ.ف.ب)

غادر أحمد (38 عاماً) منزله في الخيام بجنوب لبنان في 8 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولم يعد إلى منزله منذ ذلك الوقت. «لا أفق للعودة ما دامت الحرب قائمة»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، ذلك أن مخاطر الاستهداف «لا تزال مرتفعة جداً بعد ضربة مساء السبت لمنزل مدني في ساحة البلدة»، فضلاً عن أن متطلبات العيش في البلدة «لم تعد متوفرة كما السابق»، في إشارة إلى نقص في البضائع، وإحجام الشركات عن إيصال بضائعها إلى المنطقة.

وتبدو المنطقة الحدودية في جنوب لبنان، حسب زائريها في الأسبوع الأخير، شبه فارغة. يتجدد القصف بشكل يومي ويطال مختلف بلدات المنطقة الحدودية الممتدة على أكثر من 110 كيلومترات، بعمق يتراوح بين 5 و8 كيلومترات. «فجأة تندلع الاشتباكات ويعلو دويّ القذائف»، يقول زائروها، فيما لا تفارق المسيّرات الإسرائيلية أجواء المنطقة.

وغادر معظم سكان منطقة الجنوب في الأسبوع الأول من الحرب منازلهم. من يمتلك منزلاً في بيروت انتقل إليه، ومن استطاع أن يستأجر منزلاً في بيروت أو النبطية أو صيدا، انتقل إليه أيضاً، ولم يبقَ هناك إلا «من لم يخرج من بيته طوال حياته، أو من اضطره عمله للبقاء، مثل المزارعين ومربي الماشية»، حسبما يقول السكان الذين يتوجسون أن تطول الأزمة، ما يحرمهم من العودة إلى منازلهم.

وأثار امتداد القصف على مدى 40 يوماً، مخاوف من أن تتحول المناطق في الجنوب إلى قرى مواجهة تعيش التوتر على إيقاع أي توتر آخر في غزة. ويفتقد سكان المنطقة الآن لـ«الأمان» الذي اختبروه على مدى 17 عاماً. أحجم أهالي المنطقة الذين يقيمون في بيروت، عن ارتياد قراهم ومنازلهم في عطلة نهاية الأسبوع. كما لم يجرؤ كثيرون على زيارة قراهم لجمع محصول الزيتون في الموسم الحالي. وقد نزح آلاف السكان المقيمين في الأسبوع الأول، خوفاً من توسع رقعة المعركة إلى حرب كبيرة.

ونزح السكان من نحو 38 بلدة وقرية ممتدة على طول الحدود من شبعا شرقاً، إلى الناقورة غرباً، وقد خلت بعض القرى المواجهة التي تشهد توتراً دائماً من نحو 90% من سكانها الذين عادة كانوا يقيمون فيها في الشتاء. وتشير تقديرات «الدولية للمعلومات» إلى أكثر من 40 ألف نازح من جنوب لبنان باتوا يتوزعون على عشرات المناطق، منها صور وصيدا والضاحية الجنوبية لبيروت وقضاءا الشوف وعاليه في جبل لبنان الجنوبي، بينهم نحو 10 آلاف يقيمون في مراكز إيواء.

خطط المستقبل

على مدى 40 يوماً من القصف المتبادل بين «حزب الله» والقوات الإسرائيلية، بدأت تتبلور صورة مختلفة للمنطقة الحدودية التي شهدت طوال 23 عاماً، حيوية كبيرة لجهة إقامة السكان فيها، خصوصاً في فترة الصيف، وشهدت حركة عمرانية كبيرة، وارتفعت إثرها أسعار العقارات والأراضي، فضلاً عن الحركة السياحية صيفاً، والمشاريع التي افتُتحت مدفوعة بـ«أمان وفرته قواعد الاشتباك»، كما كان يقول السكان.

اليوم تبدّل الواقع. تصف منى (55 عاماً) الطريق إلى قريتها بـ«المغامرة». وتشير إلى «طرقات مقفرة، ونادراً ما يلتقي زائر المنطقة بسيارة متوجهة إلى المكان أو خارجة منه». تسيطر على الطرقات آليات الجيش وقوات «اليونيفيل» وسيارات الإسعاف. «لا نعرف إلى متى سنبقى على هذه الحالة»، تقول منى، مشيرة إلى أنه إذا استمر الوضع على هذا النحو لأشهر «سأضطر لمغادرة البلاد كلياً».

وينعكس هذا الواقع على خطط الحياة في المنطقة. يعرب كثيرون عن قلقهم مما حدث، وهو أمر يدفعهم للتريث في استئناف أعمال البناء أو الاستثمار في المنطقة. ويقول عباس، وهو من سكان بيروت، إنه دفع نحو 80 ألف دولار لبناء منزله في قريته بالمنطقة الحدودية لقاء قضاء الصيف فيه، مضيفاً: «ما حدث الآن يمكن أن يقوّض أي خطة في المستقبل لدفع أي تكاليف لتحسين المنزل أو إتمام بنائه، لأن هذا التوتر يمكن أن يتكرر في المستقبل، وقد لا تنتهي الأمور بتبادل للقصف».

تبدّل بالنشاط الاقتصادي

وقلصت حركة النزوح إضافة إلى التوتر، إلى حد كبير، الحركة التجارية في المنطقة، حيث أحجمت شركات كثيرة عن إرسال شاحناتها المحملة بالبضائع إلى المناطق الجنوبية، وذلك خوفاً من أي تطور أمني، ما اضطر أصحاب متاجر البقالة والمهن الصغيرة إلى ارتياد المدن مثل النبطية وصور وغيرهما من البلدات الكبيرة التي تتضمن مستودعات غذائية، بغرض التبضع لمتاجرهم.

وفي الوقت نفسه، تقلص النشاط التجاري، كما توقف القسم الأكبر من مشاريع البناء، علماً أن المنطقة كانت، حتى الشهر الماضي، تشهد ازدهاراً بحركة العمران الضخمة، وذلك إثر مغادرة السكان وتوقف الورش خوفاً من حرب كبيرة أو استهداف إسرائيلي لمنازل المدنيين، يقضي على استثمارات بعشرات آلاف الدولارات.



أطفال لبنان عرضة للقتل والصدمات النفسية

طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
TT

أطفال لبنان عرضة للقتل والصدمات النفسية

طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)

أصبح خبر مقتل أطفال في لبنان بشكل يومي في غارات تنفذها إسرائيل بحجة أنها تستهدف عناصر ومقرات وأماكن وجود «حزب الله»، خبراً عادياً يمر مرور الكرام، حتى بعد تحذير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن أكثر من ثلاثة أطفال يقتلون يومياً، ومن أن أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان، في غضون شهرين نتيجة الحرب المستمرة منذ شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.

وتتعاطى إسرائيل مع مقتل الأطفال والمدنيين على أنه «خسائر جانبية»، فتراها في حال حصلت على معلومات عن وجود شخصية معينة من «حزب الله»، في مبنى معين، تُقدم على نسف المبنى كله، غير آبهة بالمدنيين والأطفال الموجودين فيه.

اضطرابات نفسية

وفي مواقف أدلى بها مؤخراً، استهجن المتحدث باسم «اليونيسف»، جيمس إلدر، من أنه «رغم مقتل أكثر من 200 طفل في لبنان في أقل من شهرين، فإن اتجاهاً مقلقاً يبرز ويظهر أنه يجري التعامل دون مبالاة مع هذه الوفيات من جانب هؤلاء القادرين على وقف هذا العنف».

وبحسب المنظمة الدولية فإن «مئات الآلاف من الأطفال أصبحوا بلا مأوى في لبنان، كما أن علامات الاضطراب النفسي أصبحت مقلقة وواضحة بشكل متزايد».

وتشير الدكتورة باسكال مراد، اختصاصية علم النفس والاجتماع، إلى أن «مغادرة مئات الآلاف من الأطفال منازلهم، وتهجير وتشريد قسم كبير منهم؛ يجعلهم يفتقدون للأمان. كما أن فقدانهم أفراداً من عائلاتهم أمام أعينهم، ومعايشتهم الخطر والدمار والقتل اليومي؛ يترك لا شك تداعيات نفسية كبيرة عليهم يفترض الالتفات لمعالجتها بأقرب وقت».

رجل يخلي طفله من مكان قريب من موقع استهداف إسرائيلي لمنطقة رأس النبع في بيروت (رويترز)

وتشدد باسكال مراد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» على أن «من أبرز التحديات عند الأطفال راهناً هي تعليمهم كيفية إدارة انفعالاتهم الصعبة، مثل الخوف والقلق والغضب. فهذه الإدارة إذا لم تتحقق، فسيعاني الأطفال في المستقبل من مشاكل نفسية إذا لم تعالج الصدمات التي يعايشونها»، لافتة إلى أنه «لا يجب أن ننسى أيضاً الآثار الصحية للحرب على الأطفال، خصوصاً التلوث الناتج عن التفجيرات والأسلحة المستعملة، إضافة إلى أنهم سيكونون أكثر عرضة للأمراض والفيروسات في مراكز الإيواء».

ويعاني آلاف النازحين الموجودون في مراكز الإيواء، والعدد الأكبر منهم من الأطفال، من البرد وغياب مستلزمات التدفئة مع حلول فصل الشتاء، كما يفتقرون للملابس الملائمة بعد هربهم من منازلهم من دون التمكن من جمع أغراضهم.

التعليم بطعم الحرب

كما أنه رغم الخطة التي وضعتها وزارة التربية بدعم من «اليونيسف» لإعادة نحو 387 ألف طفل في لبنان تدريجياً إلى 326 مدرسة رسمية، لم يتم استخدامها لإيواء النازحين ابتداء من مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فإن العام الدراسي لا يسير بشكل طبيعي عند كل طلاب لبنان، بحيث يدرس قسم كبير منهم على وقع الغارات وخرق الطيران الإسرائيلي لجدار الصوت في كل المحافظات كما يجري التدريس على وقع هدير الطائرات المسيرة التي تملأ الأجواء اللبنانية.

وتقول إحدى معلمات صفوف الروضة في مدرسة تقع بمنطقة الحازمية المتاخمة للضاحية الجنوبية لبيروت، التي تتعرض لقصف دائم: «نقول للأطفال إن دوي الانفجارات هو صوت رعد نتيجة حلول فصل الشتاء، ونعمد لوضع أغانٍ تهدئ من روعهم. القسم الأكبر منهم اعتاد الوضع، في حين بعضهم الآخر يجهش بالبكاء كل مرة».

وتشير المعلمة الأربعينية في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «المشكلة الأكبر نواجهها مع الأهالي الذين يتهافتون عند كل غارة لسحب أبنائهم من الصفوف، ما يجعل الوضع التعليمي غير طبيعي على الإطلاق».

وتشدد الناشطة السياسية والدكتورة في علم النفس بالجامعة اللبنانية في بيروت، منى فياض، على أنه «أياً كانت الظروف، لا يمكن وقف التعليم ويفترض على وزارة التربية أن تؤمن التعليم للجميع حتى ولو في خيم».

وعدّت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «بعض التلاميذ الذين لا يستطيعون التوجه إلى المدرسة نتيجة الحرب لا شك سيتأثرون نفسياً إذا رأوا تلاميذ آخرين يداومون بشكل يومي، لكن هذه التأثيرات محصورة بأعمار كبيرة معينة بحيث سيشعر هؤلاء بعقدة نقص وإهمال، وانعدام العناية، لكن الخطورة الحقيقية هي على مستقبل الأجيال، ففي العالم العربي نحو 75 مليون أمّي نتيجة الحروب واللجوء، وكل حرب جديدة ترفع الأعداد مئات الآلاف. من هنا الخطورة على مستقبل العالم العربي ومستقبل لبنان الذي كانت لديه نسبة كبيرة من المتعلمين منتشرة في كل أنحاء العالم بمستويات وخبرات ممتازة».

أطفال فروا من القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان يحضرون ورشة رسم داخل أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)

وتتحدث منى فياض عن «خشية حقيقية من أن يؤدي التسرب المدرسي إلى الانحراف»، مشددة على وجوب القيام بـ«حملات على المؤثرين للضغط والتصدي لسيناريو مثل هذا، وتأمين التعليم للجميع أياً كانت الظروف القائمة».