«الشرق الأوسط» تجول على القرى الحدودية بجنوب لبنان: القصف المتبادل يُخلِي 90% من النساء والأطفال

أبناء بلدة مسيحية يرفضون إطلاق الصواريخ من محيطها... وشقيق قتيل في قرية سنية يسأل: لماذا لا يستهدفون القرى الشيعية؟

ساحة بلدة كفركلا المقابلة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية (الشرق الأوسط)
ساحة بلدة كفركلا المقابلة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية (الشرق الأوسط)
TT

«الشرق الأوسط» تجول على القرى الحدودية بجنوب لبنان: القصف المتبادل يُخلِي 90% من النساء والأطفال

ساحة بلدة كفركلا المقابلة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية (الشرق الأوسط)
ساحة بلدة كفركلا المقابلة لمستعمرة المطلة الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

نقل بلال، وهو مهندس يعيش في بلدة عيتا الشعب الحدودية في جنوب لبنان، عائلته إلى مدينة صور منذ اليوم الثاني للحرب، ويتنقل يومياً إلى بلدته لاستكمال أعماله. «أتوجه صباحاً من صور إلى عيتا، وأعود في المساء»، يقول لـ«الشرق الأوسط»، مضيفاً أنه «لا مجال للخوف ما دام أن مجريات المعركة لا تزال ضمن قواعد الاشتباك»، لكنه في الوقت نفسه، يقول إنه أنقذ عائلته الصغيرة وطفليه حديثي الولادة من صوت القذائف.

وحال بلال مثل أحوال كثيرين، أجلوا عائلاتهم إلى مناطق آمنة في بيروت وصيدا وصور، ويرتادون قراهم صباحاً؛ ويغادرونها مساءً لاستكمال أعمالهم، وذلك بعد أسبوعين من الحرب واستقرار الأمور على حرب محدودة بتبادل القصف، من دون وجود مؤشرات على توسعها إلى حرب كاملة. يقول سكان المنطقة الحدودية: إن العمال السوريين هم الوحيدون الذين نزحوا بشكل كامل، أما أبناء القرى الحدودية، فقد عاد 20 في المائة منهم، معظمهم يغادر القرى في المساء، لكنهم في الصباح يتابعون أعمالهم في الزراعة وتربية الماشية وغيرها من القطاعات.

 

كفركلا والخيام

أكثرية بيوت كفركلا فارغة تحسباً لتدهور الوضع (الشرق الأوسط)

وجالت «الشرق الأوسط» على عدد من القرى الحدودية في جنوب لبنان. لا تبدو الحركة طبيعية. في كفركلا المقابلة لمستعمرة المطلة، تكاد تكون البلدة شبه خالية من النساء والأطفال، باستثناء ما يقارب العشرين منزلاً الذين لم يستطع سكانها النزوح بسبب الحالة المادية أو لارتباطهم في أعمال في البلدة، «لكن شبان البلدة لم يخلوها تحسباً لأي طارئ، كما أن الوضع لم يصل إلى حد المغادرة نهائياً بعد»، حسب ما يقول محمد الذي يتواجد في البلدة.

على بعد أميال قليلة، ترقّب وحيرة في بلدة الخيام، فبعد نزوح ما يقارب 90 في المائة من أهلها في الأسبوع الماضي نحو القرى المجاورة وبيروت، يعود اليوم إليها 20 في المائة منهم. يقول عباس الذي يملك متجراً لبيع المواد الغذائية: «الموضوع سيطول، ومن الممكن أن يمتد لأكثر من شهر. لا نستطيع البقاء خارج منازلنا في ظل الواقع الاقتصادي خارج الخيام لمدة طويلة. عدنا للعمل ولو بوتيرة أقل، فمن بقي صامداً هنا من الأهالي وغيرهم، يستحق منا تأمين ما يحتاج إليه، ومعنا بعض مَحال الدجاج والملاحم التي يفتقدها سكان البلدات المجاورة، حيث أقفلت جميع المتاجر الكبيرة والملاحم والأفران هناك، واقتصرت على بعض الدكاكين لتأمين حاجيات الناس».

 

القليعة

في القليعة، البلدة المسيحية التي نزح إليها في عام 2006 أهالي المناطق الشيعية التي تعرضت القصف واستقبلهم الأهالي بعد سنوات قليلة من التحرير آنذاك، «لا مجال للنزوح إليها فالوضع مختلف هذه المرة»، كما يقول شربل و«لا يوجد لدينا منازل للإيجار».

تبدو الحياة في القليعة شبه عادية. بعض المزارعين بدأوا موسم قطاف الزيتون، وفتحت أبواب المعاصر لإنتاج زيت الزيتون الذي يطول انتظاره من عام إلى عام.

ولا يخفي شربل أن «هناك نحو أربعين عائلة فقط من أصل عدد سكان البلدة المقيمين بشكل دائم، غادروا نحو بيروت خوفاً من تكرار سيناريو حرب تموز 2006، بانتظار تغيير شروط اللعبة وقوة أو ضعف وتيرتها، فلا أحد يعلم تبعات الأمور، لتبقى أصوات إطلاق النار تسمع، وتخلف الخوف داخل المنازل».

ترفض البلدة التي يتمتع فيها حزب «القوات اللبنانية» بنفوذ واسع، وترفع شعار «زمان أول تحوّل»، إطلاق الصواريخ من ريفها. يرى أهلها «أن أي إطلاق لصاروخ من خراج البلدة تجاه إسرائيل هو زعزعة لاستقرار أهلها الذين يرفضون إدخال بعض القرى الحرب بالقوة».

 

قضاء حاصبيا

شمالاً، نحو مناطق قضاء حاصبيا في القطاع الشرقي، الحال مختلفة تماماً. تتعرض منطقة العرقوب التي تسكنها أغلبية سنية لقصف متواصل منذ اليوم الأول. الحركة شبه مشلولة في قرى العرقوب، حيث يواجه «حزب الله» والجيش الإسرائيلي عمليات كرّ وفرّ، بالقصف والقصف المضاد؛ وهو ما أسفر عن سقوط ضحيتين مدنيتين في شبعا في الأسبوع الماضي.

ويقول يحيى علي هاشم، شقيق خليل هاشم الذي قتل في القصف الإسرائيلي: «لإسرائيل اليوم هدفان، هدف قديم استراتيجي وهو تفريغ المناطق الحدودية من شبعا إلى حاصبيا ومرجعيون حتى الناقورة من أهلها وتهجيرهم ليسهل عليها الزحف داخلياً، والآخر بقصد ضرب العيش المشترك في المنطقة، حيث قامت بالاعتداء على منطقة سنية وهي شبعا، لتقليب أهلها ضد المقاومة وضربها في بيئتها، فلماذا لم يسقط شهداء في مناطق شيعية مواجهة من المدنيين؟».

ويتابع هاشم: «نحن مؤمنون بما قدّر الله لنا، وكان أخي مصمماً على الصمود، وقد استُشهد وهو يتحدث عبر الهاتف مع نجله محمد من بيروت الذي كان يناشد والده إخلاء المكان، ليرد خليل بأنه لن يغادر ويريد البقاء وإن كان الموت مصيره، وهو ما حصل بالفعل، حيث سقطت خمس قذائف ليحترق المنزل، فقضى هو وزوجته رباد».

 

شبعا

داخل شبعا، تجول فلا تسمع سوى صوت آذان الظهر أو طائرات الاستطلاع بعد الظهر، وصوت محرك سيارتك. يصبح المشهد موحشاً بعد العصر؛ وهو ما يؤكده مدير مدرسة شبعا الرسمية حاتم غانم، الذي يقول: «الهدوء حذر، فلا نواحي آمنة في شبعا، البلدة بأكملها مواجهة لمواقع العدو الإسرائيلي. هذا موقع الرادار الإسرائيلي الشهير، الذي يطل على ضهر البيدر في البقاع ايضاً. هو المركز الإسرائيلي في المزارع، وبالمقابل هناك موقع رويسات العلم، وهي المواقع التي تستطيع اصطيادنا في أي لحظة قرر الإسرائيليون استهدافنا».

85 في المائة من أهالي شبعا أصبحوا خارجها، نزحوا باتجاه القرى المجاورة تجاه حاصبيا والفرديس التي تعدّ شبه آمنة؛ كونها خارج عمليات تبادل إطلاق النار، باحثين عن أماكن للإيجاز، تخطت فيها كلفة إيجار بعض البيوت الصغيرة الـ500 دولار شهرياً، وهو مبلغ مبالَغ به في هذه الأزمة التي تعصف بلبنان.

ويتابع: «القصف على شبعا متقطع، هي الواقعة بين جبلين، يصل إليها صوت القذائف مرعباً. ما جعلني أنقل عائلتي نحو صيدا وأعود. لا أستطيع المغادرة نهائياً، خروجي له وقع آخر، لا أستطيع أن احمل مفتاحي وأغادر! أعمل مديراً لمدرسة رسمية بقي من عدد كادرها التعليمي البالغ 70 معلماً ومعلمة، 7 معلمين فقط! أنتظر موسم المدارس وعودة الأهالي والطلاب».

 

كفرشوبا

الأمل عند حاتم يقابله شعور بالخطر عند حسين عبد العال الذي يملك وأهله منزلاً في كفرشوبا، التي تقع على خط النار. يقول حسين: «نسكن وسط هلال المزارع والتلال المحتلة والمواجهة. الخطر حولنا، والقصف المدفعي يطال أطراف البلدة، حيث نسكن بين الحين والآخر؛ فإسرائيل لا يؤمَن لها وهي صاحبة المجازر تاريخياً بضرب المنازل الآمنة والمواطنين والمدنيين العزّل خلال الحروب الأربع الماضية على أطراف البلدة».

وباختصار يصف الحال: «لا نعلم إن كنا فعلاً في حرب! فهل هي مساندة أم مشاركة؟ النزوح يزداد من البلدة وبلغ نحو 90 في المائة نحو حاصبيا وصيدا والبقاع وبيروت. لا مقومات أمان في كفرشوبا، حتى أن التموين ليس بالأمر السهل، فلا أفران للخبز لدينا، وشراء اللحوم لمن استطاع يقتصر على نهارَي الثلاثاء والخميس».

وأثّر التوتر على المحاصيل الزراعية في المنطقة المعروفة بزراعة الزيتون. يقول صاحب معصرة الزيتون نبيه دقماق على مثلث كفرشوبا - كفرحمام - حلتا: إن الموسم انتهى قبل أن يبدأ. يضيف: «الخسائر تبدو كبيرة؛ ففي كفرشوبا نسبة القطاف صفر في المائة حتى اليوم، حيث غادرها عدد كبير من أهلها وبلديتها». أما في كفر حمام فمن استطاعوا البقاء وجني ثمار الزيتون لا يتجاوزون نسبة الـ5 في المائة.

 

انفجارات القبة الحديدية

في قريتي ابل السقي والطيبة في قضاء مرجعيون، ثمة عبارة مشتركة هي «القبة الحديدية». يتناقلها أهالي المنطقتين؛ للتعريف بما يتم رميه فوق ارضهما لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية.

وتقول دانيا من ابل السقي: «لم نستطع النوم منذ يومين بسبب أصوات القذائف ليلاً، وفي اليوم التالي لملمنا شظايا خلّفتها القبة الحديدية التي تطلقها إسرائيل فوق مناطقنا»... وهو ما تؤكده صباح من بلدة الطيبة التي ارتعبت عائلتها من أصوات انفجارات القبة الحديدية، فكان سبب نزوحها وعائلتها نحو بيروت. وتقول: «لقد تعلمنا الدرس إبان حرب تموز 2006 ولن نخاطر بالبقاء، البقاء هنا مجازفة».

 

الماري

وخلافاً للمناطق التي تسكنها أغلبية شيعية، لم ينزح كثيرون من بلدة الماري التي تسكنها أغلبية درزية وتقع تحت تلال كفرشوبا المحتلة مباشرة. يقول رئيس بلديتها يوسف فياض: «نحن مسالمون، ثابتون في أرضنا، لم ينزح منا رغم القصف سوى 10 في المائة من السكان لأسباب صحية»، مضيفاً: «مزارع بلدتنا منتجة وتفيض، ولدينا اكتفاء ذاتي من المواد الطبيعية والتموين»، مشدداً على «أننا لن نغادر أرضنا، وبعض بساتين زيتوننا بعمر 40 سنة يحترق جراء القصف الإسرائيلي، فالمزارع موجوع ينتظر الموسم في هذه الظروف الاقتصادية، ومن زيتوننا نستمد صمودنا».


مقالات ذات صلة

بغداد: المنطقة تحت النار وهناك تهديدات واضحة من إسرائيل لنا

المشرق العربي وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين (الخارجية العراقية)

بغداد: المنطقة تحت النار وهناك تهديدات واضحة من إسرائيل لنا

قال وزير خارجية العراق فؤاد حسين، الجمعة، إن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني وجّه القوات المسلحة باتخاذ إجراءات بحق كل من يشن هجمات باستخدام الأراضي العراقية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان متحدثاً في البرلمان التركي (الخارجية التركية)

أنقرة: الأسد لا يريد عودة السلام في سوريا

أوضح وزير الخارجية التركي فيدان أن الرئيس السوري لا يريد السلام في سوريا، وحذر من أن محاولات إسرائيل لنشر الحرب بدأت تهدد البيئة التي خلقتها «عملية أستانة».

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا: استهداف إسرائيل لـ«حماس» و«حزب الله» غايته إجبار الفلسطينيين على الهجرة

أكدت تركيا أن هدف إسرائيل الرئيسي من ضرب حركة «حماس» في غزة و«حزب الله» في لبنان هو جعل الفلسطينيين غير قادرين على العيش في أرضهم وإجبارهم على الهجرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي مشاهد من حيفا لنظام القبة الحديدية الإسرائيلي خلال اعتراض صواريخ (أرشيفية - رويترز)

إسرائيل: اعتراض صاروخ باليستي من اليمن

قال الجيش الإسرائيلي إن صاروخاً باليستياً أطلق من اليمن «اعترضته دفاعاته الجوية بنجاح».

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
المشرق العربي المرجح أن يختار جوزيب بوريل البالغ من العمر 77 عاماً التقاعد بعد أن تنقّل في مناصب رئيسة (أ.ف.ب)

بوريل: العمليات الإنسانية الأممية في غزة قد تتوقف الاثنين بسبب نفاد الوقود والطعام

قال جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، اليوم الخميس، إن العمليات الإنسانية للأمم المتحدة بقطاع غزة قد تتوقف، يوم الاثنين المقبل.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

مفوضية اللاجئين في لبنان: الأسابيع الماضية الأكثر دموية وفداحة منذ عقود

رجل يحمل كلبه بينما يهرب الناس على الدراجات النارية بجوار المباني المتضررة في أعقاب غارة إسرائيلية على منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت (رويترز)
رجل يحمل كلبه بينما يهرب الناس على الدراجات النارية بجوار المباني المتضررة في أعقاب غارة إسرائيلية على منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت (رويترز)
TT

مفوضية اللاجئين في لبنان: الأسابيع الماضية الأكثر دموية وفداحة منذ عقود

رجل يحمل كلبه بينما يهرب الناس على الدراجات النارية بجوار المباني المتضررة في أعقاب غارة إسرائيلية على منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت (رويترز)
رجل يحمل كلبه بينما يهرب الناس على الدراجات النارية بجوار المباني المتضررة في أعقاب غارة إسرائيلية على منطقة الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت (رويترز)

حذّر ممثل المفوضية السامية للأمم المتحدة للاجئين في لبنان إيفو فرايسن، اليوم (الجمعة)، من أن الأسابيع الماضية هي «الأكثر دموية وفداحة منذ عقود» على لبنان والشعب اللبناني.

وأوضح فرايسن أن إسرائيل كثّفت غاراتها الجوية وتوغلاتها البرية، مما عمّق المأساة الإنسانية التي يعاني منها المدنيون.

وقال: «بعد انقضاء شهرين على تصاعد حدة الهجمات على البلاد، قُتل أكثر من 3500 شخص، وأصيب 15 ألفاً، حيث طالت تأثيراتها المباشرة ما يقدر بنحو 1.3 مليون شخص، وأجبرتهم على النزوح من منازلهم».

وطالب الممثل الأممي بالتوصل إلى وقف عاجل لإطلاق النار، وحث المجتمع الدولي على الوقوف إلى جانب لبنان وتوفير التمويل اللازم بشكل عاجل لمساعدة جميع المتضررين، بما في ذلك الذين اضطروا للفرار إلى سوريا وخارجها.

وفيما يتعلق بسوريا، قال فرايسن إن إسرائيل زادت غاراتها الجوية، ما يشكّل مخاطر جسيمة على المدنيين وموظفي المفوضية وشركائها ومرافقها.

وحذّر ممثل المفوضية الأممية من أن الغارات الإسرائيلية بالقرب من المعابر الحدودية تعرض للخطر قدرة الأشخاص على الفرار من الصراع في لبنان، كما تؤثر في قدرة المفوضية على تقديم الدعم لمن هم بأمس الحاجة للمساعدة.