لم تصمد مقولة زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم بشأن هوية كركوك طويلاً؛ حيث وصفها مؤخراً في أحد التجمعات الجماهيرية بأنها «كركوكية» لا عربية ولا كردية ولا تركمانية. ففي ظل تزاحم المتصارعين على كركوك هوية وجغرافية وعائدية يستمر الصراع حول هذه المحافظة الغنية بالنفط وأولها، من حيث بدء الإنتاج والتصدير منذ 96 عاماً بعد اكتشاف أول حقل فيها عام 1927. ومع أن جميع العراقيين يعدون «النار الأزلية» التي تخرج من حقل بابا كركر في كركوك منذ 4000 سنة قبل اكتشاف النفط فيه في النصف الأول من القرن العشرين بمثابة فأل حسن على ما تملكه البلاد من ثروات كبيرة، فإن هذه الشعلة تحولت إلى مصدر للمشكلات والقلاقل والتحديات والمواجهات منذ بدء الثورة الكردية في ستينات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن هوية كركوك العرقية والدينية والطائفية وعائديتها الجغرافية اختبرت طويلاً في غضون 6 عقود من الزمن بين الكرد والأنظمة العراقية المختلفة لا سيما الجمهورية (منذ عام 1958) وحتى اليوم فإن التعبير الأكثر إفصاحاً عنها جرى بعد عام 2003 وبالذات عام 2005، حين أُقِرَّ الدستور العراقي الدائم والتصويت عليه؛ فالتصويت على الدستور عكس منذ البداية علاقات القوة التي سرعان ما انعكست سلباً بين الفاعلين السياسيين الرئيسيين (الشيعة والكرد) الذين كان لتحالفهم مع الأميركيين الدور الأبرز في إسقاط نظام صدام حسين في غياب شبه تام للدور السني نتيجة عدم وجود معارضة سُنية كبيرة ضد النظام السابق.
المادة ـ القنبلة
جاء التصويت على الدستور بنسبة 82 بالمائة من أصوات العراقيين، لكن النسبة الكبرى كانت للشيعة والكرد؛ حيث لم يصوت العرب السُنة إلا بنسبة قليلة جداً؛ من منطلق أن الشيعة والكرد كانوا عماد المعارضة ضد نظام صدام حسين وهم كتبوا الدستور بإرادة متقابلة سرعان ما كشفت الأيام هشاشتها عند بدء الاختبارات لها. كان الاختبار الأول، ومع بقاء ما كان يسمى التحالف التاريخي الشيعي ـ الكردي قائماً، عند بدء إجراءات تطبيق المادة 140 من الدستور الخاصة بما سمي المناطق المتنازع عليها بين المركز والإقليم ومن ضمنها كركوك؛ فهذه المادة التي كُتبت بتوافق تام كردي ـ شيعي تحولت في ما بعد إلى قنبلة موقوتة بعد أن تجاوزت المدة المحددة لتطبيقها طبقاً للدستور وهي عام 2007؛ فالحكومات التي تشكلت منذ ذلك التاريخ لم تتمكن من تطبيق هذه المادة بعد أن اكتشفت تلك الحكومات منذ حكومة إبراهيم الجعفري فنوري المالكي صعوداً إلى حيدر العبادي ومن تلاه من رؤساء وزراء إلى اليوم؛ لأن التطبيق الحرفي لها يعني عودة كركوك إلى إقليم كردستان. ومع أن الكرد يسمون كركوك «قدس الأقداس»، لكن الأحداث والتطورات وتغير شكل ومحتوى التحالفات السياسية في ما بعد وصولاً إلى لحظة 2017 بعد الاستفتاء الكردي الشهير ولحظة 2018 عندما بدأت التحالفات السياسية تأخذ شكلاً آخر، تحولت المدينة إلى مجرد قضية خلافية حتى بين الأكراد أنفسهم.
سقوط التحالفات
على مدى العقد الأول من عمر العملية السياسية في العراق بعد 2003 كان التحالف الشيعي ـ الكردي يوصف بالتاريخي في مقابل وجود شبه هامشي للقوى السُنية سواء كان على مستوى الشراكة في القرار السياسي، أو مجرد المشاركة في السلطة حسب الأوزان البرلمانية. المحاولة الأولى والأخيرة للعرب السُنة التي شكلت تحولاً لافتاً لم تكن محسوبة لكبار المتحالفين، بل كانت عندما اختار العرب السُنة زعيماً شيعياً علمانياً لترؤس قائمتهم الانتخابية «القائمة العراقية» التي جاءت في انتخابات 2010 بالمرتبة الأولى «91 مقعداً مقابل قائمة المالكي 89 مقعداً». ففي تلك الفترة كان إياد علاوي في أشد قوته ومجده، لكن التفاف المحكمة الاتحادية العليا على الدستور حال دون تمكين العرب السُنة من تشكيل حكومة هم غالبيتها، وإن كان رئيسها شيعياً. وبعد هذه المحاولة اليتيمة بدأت التحالفات السياسية الأخرى تنهار، لكن طبقاً لمستويات أخرى. التحالف الكردستاني سقط في اختبار الاستفتاء عام 2017، وما جرى بعده من تداعيات وصلت إلى حد تبادل التهم بالخيانة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني)، الأمر الذي سهل على بغداد على عهد رئيس الوزراء العبادي فرض سلطة المركز على كركوك وما بدا أنه هزيمة للحزب «الديمقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني.
في عام 2018 عندما جرت الانتخابات البرلمانية، حدثت انقسامات طولية وعرضية لدى القوى السياسية أدت إلى انقسام الشيعة أنفسهم بعد خروج التيار الصدري من التحالف الوطني الشيعي وهو ما انسحب على التحالفات الأخرى بما فيها السُنية والكردية. وفي المراحل التالية استمر التشظي بين مختلف القوى السياسية حتى أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019 حين اشتعلت انتفاضة جماهيرية كبرى ضد كل الطبقة السياسية. ومع كل ما قدمته من تضحيات لكن تلك الانتفاضة لم تتمكن من تغيير المعادلة السياسية إلا جزئياً في البلاد. وكان من بين نتائجها إلغاء مجالس المحافظات. وحيث إن كركوك وبسبب الإشكاليات الإثنية والطائفية فيها لم تحدث فيها حتى قبل تاريخ الانتفاضة انتخابات محلية، فإن عودة مجالس المحافظات طبقاً لقرار من المحكمة الاتحادية أعاد الأمل لكل القوى السياسية التي تتنافس في كركوك بأن تحصل على المراكز الأولى في أية انتخابات مقبلة بدءاً من المحلية «نهاية هذا العام»، والبرلمانية التي لم يحدد موعد إجرائها بعد.
أبعد من مقر حزبي
حين اندلعت الأحداث الأخيرة في كركوك والتي ذهب ضحيتها كالعادة قتلى وجرحى بدت كأنها بشأن مقر يعود للحزب «الديمقراطي الكردستاني» كان يستخدمه قبل دخول القوات الاتحادية إلى المدينة عام 2017 وإخراج البيشمركة من محافظة كركوك. صحيح أن القرار الذي اتخذه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بإعادة المقر إلى «الحزب الديمقراطي» جاء تطبيقاً لورقة الاتفاق السياسي التي تشكلت حكومته بموجبها، لكن الغاطس كان يختلف عن الظاهر تماماً. ففي اللحظة التي اتُخذ فيها هذا القرار الذي كان متوقعاً بدأت تظهر مواقف مختلف الأطراف التي تريد تقاسم النفوذ في كركوك وفقاً لموازين قوى جديدة اختلفت عن الماضي، وبالذات ما بعد مرحلة 2017 التي بدأ يفقد فيها «الحزب الديمقراطي» بريقه في كركوك. فالصراع بينه وبين غريمه «الاتحاد الوطني» جرد كركوك من رمزيتها بل قدسيتها لدى الأكراد؛ حيث تحولت إلى منطقة نفوذ حزبي، لا سيما أن الانتخابات المحلية باتت قريبة وهي التي يمكن أن تمهد للهيمنة عليها حزبياً وسياسياً حتى على صعيد الانتخابات البرلمانية المقبلة. العرب والتركمان في كركوك ليسوا في وارد التنازل عن ما كسبوه بعد دخول القوات الاتحادية إلى كركوك وهو ما جعلهم يشعرون بالانتصار بعكس «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي لم يتمكن حتى الآن من انتزاع مقره لا بالقوة لأن علاقات القوة تغيرت، ولا بالحكومة لأنها محكومة باتفاقات مسبقة، ولكل شيء ثمنه، وربما تداعياته في قابل الأيام.