يأتي مساء «آنفيلد» وكأنه يختبر أعصاب أرني سلوت دون رحمة. فبعد ساعات قليلة فقط من تصريحاته الغاضبة التي انتقد فيها «العدد السخيف» من الأهداف التي استقبلها ليفربول هذا الموسم، وجد المدرب الهولندي نفسه يشاهد شيئاً أسوأ بكثير مما تخيّله. 4 أهداف جديدة تهزُّ شباكه أمام آيندهوفن، في ليلة بدت فيها مشاهد الانهيار أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. ما قاله قبل صفارة البداية كان واضحاً وصريحاً: «لسنا سيئين طوال الـ90 دقيقة، لكن عندما نحتاج للدفاع في اللحظة الحاسمة، لا نكون بالتركيز أو الحدة المطلوبَين». وما حدث لاحقاً كان الدليل الأكثر قسوة على صدق كلماته.
لم تظهر أي علامة على عودة تلك الحدة المفقودة. آيندهوفن خرج بفوز ساحق 4 - 1، وليفربول خرج بأسئلة أكبر من التي حملها معه إلى المباراة. الفريق الذي امتلك الموسم الماضي واحداً من أكثر الدفاعات صلابةً في إنجلترا، يجد نفسه اليوم يملك 4 شباك نظيفة فقط من أصل 20 مباراة، بينما توقف عدّاد الأهداف المستقبلة عند 34 هدفاً، وهو رقم لم يصل إليه الفريق في الموسم الماضي إلا في فبراير (شباط). والأدهى أن هذا التراجع لا يأتي من نقص الجودة، بل من غياب التركيز في لحظات تبدو صغيرة، لكنها تعصف بالمنظومة كاملة.
كان موسم التتويج في العام الماضي قائماً على الصلابة، والبنية المتماسكة التي منحت الهجوم حرية الحركة فوق منصة آمنة. لكن هذه المنصة تفكَّكت تدريجياً. شبكة «The Athletic» عادت لمشاهدة كل الأهداف التي تلقاها الفريق هذا الموسم، وكانت الحصيلة كاشفة حد الصدمة. المشهد الأول الذي يقفز أمام المتابع هو عجز الفريق في اللعب المفتوح، حين يشاهد اللاعبون الثنائيات تُخسر بسهولة، والعدوانية تسقط من دون مقاومة. لقطة محمد صلاح في مباراة آيندهوفن كانت نموذجاً فاقعاً: يُراوَغ بسهولة من ماورو جونيور، الذي تقدّم براحة نحو منطقة ليفربول قبل أن تأتي تمريرة حاسمة كشفت خطأ آخر أكثر خطورة، فميلوش كيركيز كان في الموضع الخطأ تماماً، ولم يدرك حتى إنه قادر على وضع منافسه في مصيدة تسلل.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل تكرار لنمط ظهر كثيراً، مثل الهدف الثاني لنوتنغهام في خسارة 0 - 3، حين خسر أليكسيس ماك أليستر التحاماً بسيطاً أمام نيكو ويليامز داخل المنطقة، بينما لم يتابع كودي خاكبو منافسه، لتسكن الكرة الشباك في صورة واضحة لغياب العدوانية وغياب رد الفعل المناسب في لحظات لا تقبل التأخير.
المشهد الثاني يأتي من قلب الملعب، حيث تكشف لقطات آيندهوفن عن مشكلة لاعب الارتكاز التي باتت أكثر وضوحاً مع ريان خرافنبرخ. اللاعب الذي حصل هذا الموسم على «حرية أكبر» ليتقدَّم للأمام ويتحول إلى ثغرة مكشوفة أمام أي هجمة مرتدة. الحرية التي عدّها تطوراً في دوره تحوَّلت إلى عبء على الفريق، لأن غيابه عن موقعه الأساسي يترك ليفربول مفتوحاً في قلب الملعب. الأمر تكرر أمام تشيلسي حين لاحق خاكبو اللاعب إنزو فيرنانديز بطريقة غير ضرورية، وترك ماك أليستر وحده يواجه كايسيدو وغوستو في مساحة خالية كانت كفيلةً بإسقاط أي فريق. المشهد واحد: ضغط غير منسق، تراجع غير متوازن، وفجوات تظهر بمجرد أول تمريرة ناجحة للمنافس.
أما الضغط العالي الذي كان سلاح ليفربول الأخطر، فقد فَقَدَ أنيابه هو الآخر. الفريق لا يعاني من غياب الجري أو الروح، بل من غياب الفاعلية. المسألة ليست في «كم» الضغط الذي يُمارَس، بل في «كيف» يُمارس. مباراة مانشستر سيتي كانت خير مثال، فالفريق امتلك الوقت الكافي لإيقاف هجمة بدأت من ركلة ركنية كان ينفِّذها ليفربول نفسه، لكن سوء التوقيت وعدم استغلال لحظة استعادة الكرة سمحا لسيتي بالخروج من الموقف بسهولة قبل أن يُعاقَب «الريدز» بهدف قاسٍ.
ثم يأتي اللغز الأكثر إزعاجاً لجماهير ليفربول: إبراهيما كوناتي. المدافع الذي كان ركيزةً دفاعيةً بجوار فان دايك الموسم الماضي، بدا وكأنه فقد اتزانه الذهني هذا العام. الخطأ الأول أمام بورنموث كان مؤشراً، حين لم يضغط على سمينيو، قبل أن تزداد الأخطاء وتتراكم حتى جاء مشهد آيندهوفن الأخير، عندما فشل في إبعاد كرة تحوَّلت إلى هدف بعد ارتداد تسديدة بيبي وتابعها دريويش بسهولة. كوناتي يبدأ المباريات بثقة، لكنه ينهار ذهنياً بعد أول خطأ، ما جعل أصوات الجماهير ترتفع للمطالبة بإشراك جو غوميز بدلاً منه. وغوميز نفسه لم يكن مرتاحاً، إذ اضطر للعب ظهيراً أيمن؛ بسبب إصابات أرنولد وبرادلي، وهو ما ظهر في لقطة هدف آيندهوفن حين لم يتابع منافسه. الفريق كله يتداعى عبر سلسلة من تفاصيل صغيرة، لكنها مؤثرة.
وما يزيد الصورة غموضاً هو نزف الكرات الثابتة. ليفربول بدأ الموسم تحت قيادة مختص جديد لهذا الجانب، آرون بريغز، لكن النتائج جاءت عكس المتوقع: هدفان فقط تلقاهما الفريق من كرات ثابتة في مثل هذا التوقيت من الموسم الماضي، مقابل 10 أهداف هذا الموسم، إضافة إلى 4 ركلات جزاء. الأخطر أن غالبية هذه الأهداف جاءت من «الكرة الثانية» أو اللحظة التي تلي الإبعاد مباشرة، حين يعتقد اللاعبون خطأً أن الخطر انتهى. لقطة هدف هاري ماغواير في «آنفيلد» مثال صارخ: خاكبو وكيرتس جونز انطلقا للهجمة المرتدة وظنّا أن اللعبة انتهت، بينما كان 3 لاعبين من يونايتد يهاجمون القائم البعيد دون أي رقابة. الخطأ نفسه تكرر أمام كريستال بالاس، ومانشستر سيتي، وتوتنهام، وأخيراً آيندهوفن. ليفربول لا يدافع، بل يفترض أن الكرة ستُبعد من تلقاء نفسها.
ما الذي يحتاج إليه ليفربول الآن؟ العودة إلى الأساسيات. استعادة الشراسة التي صعد بها الفريق على منصة البطل الموسم الماضي. استعادة الرغبة الدفاعية التي كانت تقاتل على كل كرة، والتي كانت تمنح المهاجمين منصة أمان يتحركون فوقها. من دون ذلك، لا يمكن للريدز سوى أن يستمر في الانهيار... مهما كان مستوى الهجوم. فالأزمات الكبيرة تبدأ دائماً من تفاصيل صغيرة، وهذا الفريق غارق الآن في تفاصيله الضائعة.

