بعد أكثر من خمسة وعشرين عاماً من المفاوضات المتقطعة، دخلت اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل «ميركوسور» في أميركا الجنوبية مرحلة الحسم، بعدما قدمت المفوضية الأوروبية نص الاتفاق إلى البرلمان الأوروبي وحكومات الدول الأعضاء للمصادقة النهائية.
وتصف بروكسل الاتفاق بأنه الأكبر في تاريخ الاتحاد الأوروبي من حيث حجم التخفيضات الجمركية والفرص التجارية التي يفتحها، لكنه لا يزال يواجه معارضة زراعية وبيئية قوية، في حين بدأت فرنسا – التي كانت رأس حربة الرافضين – تُبدي ليونة حذرة بعد تقديم المفوضية حزمة ضمانات جديدة.
ويتعلق الاتفاق التاريخي بإنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوروبي من جهة، ودول «ميركوسور» – الأرجنتين، والبرازيل، وباراغواي وأوروغواي – من جهة أخرى. وقد تم التوصل إلى مسودة الاتفاق في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بعد ربع قرن من المفاوضات التي تعثرت مراراً بسبب خلافات حول الواردات الزراعية والمعايير البيئية.
وحسب المفوضية الأوروبية، سيُشكل الاتفاق عند دخوله حيز التنفيذ أكبر خفض جمركي في تاريخ الاتحاد الأوروبي، حيث سيغطي نحو 770 مليون مستهلك، ويوفر سوقاً واسعة للسيارات الأوروبية، والآلات والمواد الكيميائية، مقابل فتح السوق الأوروبية أمام منتجات أميركا الجنوبية الزراعية والمواد الخام.
وفي مواجهة الاعتراضات، طرحت المفوضية الأوروبية آلية جديدة لحماية المنتجات الزراعية الحساسة، وفي مقدمتها لحوم البقر. وتنص الآلية على إمكانية تعليق الامتيازات التفضيلية لـ«ميركوسور» إذا ارتفعت الواردات أو انخفضت الأسعار بأكثر من 10 في المائة في أي من الدول الأعضاء. وتتعهد المفوضية باتخاذ إجراءات أولية خلال ثلاثة أسابيع من تلقي شكاوى؛ ما يمنح المزارعين أداة حماية أسرع من الآليات السابقة.
كما أعلنت المفوضية عن صندوق أزمة بقيمة 6.3 مليار يورو (7.38 مليار دولار) لتعويض المزارعين الأوروبيين المتضررين من أي تقلبات ناتجة من تنفيذ الاتفاق.
وقال وزير التجارة الفرنسي لوران سان مارتن إن إدراج هذا البند الوقائي يمثل «خطوة في الاتجاه الصحيح»، مؤكداً أن باريس ستدرس تفاصيل المقترح قبل تحديد موقفها النهائي.
فرنسا تلين وبولندا تصمد
ولطالما عدَّت فرنسا، أكبر منتج للحوم البقر في الاتحاد، أن الاتفاق «غير مقبول»، لكنها بدت هذا الأسبوع أكثر استعداداً للتفاوض، خصوصاً بعد الضمانات المتعلقة بالزراعة. وفي المقابل، لا تزال بولندا متشبثة بموقفها المعارض؛ إذ صرح رئيس الوزراء دونالد توسك بأن بلاده ستواصل رفض الاتفاق، لكنها لم تعد تملك حلفاء كُثراً لتعطيله؛ ما يجعل «الضمانات الدفاعية ضرورية للغاية»، على حد قوله.
أما ألمانيا وإسبانيا، فكانتا من أبرز المؤيدين للاتفاق، عادتين أنه يشكل أداةً لتعويض الخسائر التجارية الناتجة من الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكذلك وسيلة لتقليل الاعتماد على الصين، خصوصاً في المعادن الحيوية مثل الليثيوم المستخدم في صناعة البطاريات.
ويرى مؤيدو الاتفاقية أن «ميركوسور» تمثل سوقاً واعدة للسيارات الأوروبية، والآلات الثقيلة والكيماويات، فضلاً عن كونها مصدراً مستقراً للمعادن الأساسية اللازمة للانتقال الطاقي في أوروبا. كما ستمنح الاتفاقية منتجي الاتحاد الأوروبي مزايا جمركية في صادرات الأجبان، ولحم الخنزير، والنبيذ إلى أميركا الجنوبية.
لكن على الجانب الآخر، يواصل المزارعون الأوروبيون احتجاجاتهم، محذّرين من أن الاتفاق سيفتح الباب أمام واردات رخيصة من لحوم البقر، وفول الصويا والمنتجات الزراعية الأخرى، لا تراعي المعايير البيئية الصارمة التي يطبقها الاتحاد. وتخشى جماعات الضغط الزراعية أن يؤدي ذلك إلى ضغط على الأسعار وهامش الربحية؛ ما قد يضر باستدامة القطاع الزراعي الأوروبي.
وتواجه الاتفاقية أيضاً انتقادات منظمات البيئة؛ إذ وصفتها منظمة «أصدقاء الأرض» بأنها «اتفاقية مدمرة للمناخ»، بحجة أنها ستشجع على إزالة الغابات في الأمازون لزيادة الإنتاج الزراعي المخصص للتصدير. كما يخشى نشطاء أن يؤدي تخفيف القيود إلى تراجع معايير السلامة الغذائية داخل الاتحاد.
ويراهن المعارضون على إمكانية إسقاط الاتفاق في البرلمان الأوروبي، حيث يعارضه كل من حزب الخضر واليمين المتطرف، أو من خلال عدم تمريره في تصويت الحكومات، رغم أن التقديرات الحالية تشير إلى أن كتلة الرافضين لم تعد كافية لتعطيله.
مسار تشريعي معقد
يتطلب تمرير الاتفاق موافقة البرلمان الأوروبي بأغلبية الأصوات، إلى جانب تصويت مؤيد من أغلبية مؤهلة من حكومات الاتحاد (15 دولة على الأقل تمثل 65 في المائة من سكان الاتحاد). ورغم أن المؤشرات تميل إلى احتمالية تمريره، فإن المعركة التشريعية لا تزال غير محسومة.
كما تعتزم المفوضية الأوروبية طرح اتفاقية محدثة مع المكسيك، أُبرمت في يناير (كانون الثاني) الماضي، في الحزمة نفسها، ضمن جهود الاتحاد لتوسيع شبكة تحالفاته التجارية بعد إعادة انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب وتسارع المنافسة العالمية على الأسواق.
ويرى خبراء أن إصرار المفوضية على المضي قدماً في الاتفاقية يعكس حاجة الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تشكيل سياسته التجارية في مواجهة تحديات دولية متزايدة، من بينها السياسات الحمائية الأميركية، والمنافسة الصينية، وضغوط التحول الأخضر.
ويصف محللون اتفاق «ميركوسور» بأنه «رهان استراتيجي»؛ إذ يمنح أوروبا منفذاً إلى واحدة من أكبر أسواق السلع الزراعية والمعادن في العالم، ويعزز حضورها في نصف الكرة الجنوبي في وقت يتزايد فيه التنافس الجيوسياسي.
وبين المكاسب الاقتصادية المتوقعة والمخاطر التي يحذّر منها المعارضون، يظل التصويت المرتقب في البرلمان الأوروبي وحكومات الاتحاد محطة فاصلة، ستحدد ما إذا كان هذا الاتفاق سيدخل التاريخ بصفته أكبر إنجاز تجاري للاتحاد، أم واحداً من أكثر مشاريعه إثارة للجدل.
