من المتوقع أن يشهد عام 2025 تحولاً جديداً في سياسات البنك المركزي الأوروبي، مع توجهه نحو مزيد من التيسير النقدي في ظل استمرار ضعف الأداء الاقتصادي بمنطقة اليورو وتراجع معدلات التضخم. وبينما تشير التوقعات إلى خفض محتمل لسعر الفائدة على الودائع إلى 2 في المائة، فإن هذه الخطوة تعكس حرص البنك على تجنب الانزلاق نحو الركود ودعم النشاط الاقتصادي المتباطئ. ومع ذلك، يظل الباب مفتوحاً أمام احتمالات اتخاذ إجراءات أكثر جرأة إذا تصاعدت التحديات الاقتصادية العالمية، خصوصاً في ظل المخاطر التجارية والتوترات الجيوسياسية التي قد تزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي في منطقة اليورو.
التحول نحو التيسير النقدي
أدى تراجع التضخم وضعف الأداء الاقتصادي إلى دفع البنك المركزي الأوروبي لتغيير نهجه نحو سياسات أكثر مرونة. ففي عام 2024، خفّض البنك سعر الفائدة على الودائع إلى 3 في المائة، وهو انخفاض بمقدار نقطة مئوية كاملة. لكن مع تباطؤ التضخم إلى 2.2 في المائة بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إلى جانب تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 0.4 في المائة في الربع الثالث، يتوقع المحللون مزيداً من التخفيضات.
وفي خطاب لها في فيلنيوس، أكدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، أن البنك يقترب من تحقيق هدف التضخم البالغ 2 في المائة بفضل هذه السياسات، مشيرة إلى أنه «بعد فترة طويلة من السياسات التقييدية، نحن واثقون الآن من العودة إلى هدفنا في الوقت المناسب».
من جانبه، قال عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، بوريس فوجسيتش، إن المركزي قد يخفض تكاليف الاقتراض مرة أخرى. وأضاف: «المركزي الأوروبي يعتمد بشكل كبير على البيانات، وإذا كانت البيانات الواردة متوافقة مع توقعاتنا، فمن المؤكد أننا قادرون على الاستمرار في خفض أسعار الفائدة». وأكد أن «اتجاه التوقعات يشير إلى تخفيض آخر في أسعار الفائدة»، وفقاً لما ذكرته «بلومبرغ».
وعندما سُئل عن المدى الذي قد تصل إليه تخفيضات أسعار الفائدة، قال فوجسيتش: «لا أستطيع أن أقول الآن إلى أي مستوى، لكن الأمر سيتضح في العام المقبل».
تغير في نبرة «المركزي»
خلال اجتماع ديسمبر (كانون الأول) 2024، أظهر البنك المركزي تحولاً كبيراً في استراتيجيته، حيث أسقط التزامه السابق بالحفاظ على السياسات التقييدية «طالما كان ذلك ضرورياً». وعلقت لاغارد قائلة: «هذا التغيير يعكس المشهد الاقتصادي المتطور، وتوقعاتنا للتضخم، والمخاطر المحيطة به».
وتشير توقعات البنك الأخيرة إلى انخفاض طفيف في التضخم المتوقع، حيث يُتوقع أن يصل التضخم الرئيسي إلى 2.1 في المائة والتضخم الأساسي إلى 2.3 في المائة في 2025، قبل أن ينخفضا إلى 1.9 في المائة في 2026. كذلك، خُفّضت توقعات النمو الاقتصادي لتصل إلى 1.1 في المائة في 2025، و1.4 في المائة في 2026.
نحو مستوى الحياد: ما هو؟
يشير مصطلح «مستوى الحياد» إلى النقطة التي لا تؤثر عندها أسعار الفائدة بشكل إيجابي أو سلبي على الاقتصاد. حالياً، تتوقع الأسواق أن يخفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة إلى 2 في المائة، وهو ما يعدّ قريباً من هذا المستوى الحيادي. ويقول غيوم ديريين، الخبير الاقتصادي في بنك «بي إن بي باريبا»: «نتوقع خفضاً بمقدار 25 نقطة أساس في كل اجتماع للبنك حتى يصل المعدل إلى 2 في المائة بحلول يونيو (حزيران) 2025».
دور السياسة المالية والتوترات التجارية
رغم أهمية السياسة النقدية، أكد البنك المركزي الأوروبي أن معالجة التحديات الاقتصادية الكبرى تتطلب تكاملاً بين السياسة النقدية والمالية. وفي هذا السياق، قالت لاغارد: «المركزي الأوروبي لا يمكن أن يكون الحل الوحيد لجميع مشاكل الاقتصاد الأوروبي». وقد دعت لاغارد الحكومات إلى اتخاذ خطوات أكثر جرأة في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتعزيز النمو. كما شدد خبراء، مثل إد يارديني، رئيس مؤسسة «يارديني للأبحاث»، على أهمية الإصلاحات الهيكلية في الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى توصيات قدمها سابقاً ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، وإنريكو ليتا، رئيس الوزراء الإيطالي السابق.
وعلى صعيد آخر، تلوح في الأفق تهديدات تجارية كبيرة، خصوصاً مع تعهد الرئيس المنتخب دونالد ترمب، بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المائة على الواردات الصينية، و10 في المائة على جميع الواردات الأخرى. مثل هذه الخطوات قد تؤثر بشكل كبير على الصناعات الأوروبية المعتمدة على التصدير، مثل الأدوية والآلات. وقال فوجسيتش: «إذا نشبت حرب تجارية، فإن ذلك سيكون له تأثير سلبي على النمو في أوروبا وبقية العالم»، مضيفاً أن الحروب التجارية عادة ما تؤدي إلى ارتفاع الأسعار. وتابع: «نأمل ألا نشهد حرباً تجارية، لأن ذلك لن يكون مفيداً لأي طرف».
وعبر لويس دي جيندوس، نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي عن قلقه المزداد بشأن سياسة التجارة والتفتت المحتمل للاقتصاد العالمي. وقال: «إذا تحققت هذه التعريفات، فقد نشهد تحولاً جذرياً في الوضع الاقتصادي، وهو ما يتناقض تماماً مع الدروس المستفادة من ثلاثينات القرن العشرين والمسار الذي اختارته الاقتصادات الكبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».
وأضاف: «المشكلة هذه المرة لا تقتصر على التعريفات الجمركية التي تفرضها الولايات المتحدة على الواردات، بل تشمل أيضاً الردود الانتقامية من الدول الأخرى. إذا اندلعت حرب تجارية، فستكون لها آثار سلبية كبيرة على الاقتصاد العالمي، سواء على النمو أو التضخم. على سبيل المثال، فرض تعريفة بنسبة 60 في المائة على السلع المقبلة من الصين قد يغير تدفقات التجارة ويؤثر على أسعار الصرف. والأهم من ذلك، لا أحد يعرف إلى أين ستؤدي هذه التطورات».
ومع تصاعد التوترات التجارية وضعف البيانات الاقتصادية، يرى بعض المحللين أن البنك المركزي قد يتجه نحو خفض أسعار الفائدة إلى ما دون 2 في المائة. ويقول روبين سيغورا كايويلا، الخبير الاقتصادي في «بنك أوف أميركا»: «نتوقع تخفيضات متتالية إلى 1.5 في المائة بحلول سبتمبر (أيلول) 2025 إذا تفاقمت التحديات الاقتصادية». من جانبه، يتوقع بنك «غولدمان ساكس» تخفيضات تصل إلى 1.75 في المائة بحلول منتصف 2025، لكنه يحذر من إمكانية خفض «أسرع وأعمق» إذا استمرت التوترات التجارية في التأثير على الاقتصاد.
ما الذي ينتظر منطقة اليورو؟
يعتمد مستقبل السياسة النقدية في منطقة اليورو على تطورات عدة، منها أداء الاقتصاد العالمي، وتحركات التضخم، ومدى استجابة الحكومات للسياسات المالية. وفي ظل هذا المشهد المعقد، يبدو أن البنك المركزي الأوروبي مستعد لاتخاذ إجراءات إضافية لدعم الاقتصاد، لكنه يظل حذراً من تجاوز حدود دوره.
وعليه، قد تكون الفترة المقبلة حاسمة للاقتصاد الأوروبي، إذ ستكشف عن مدى قدرة البنك المركزي والحكومات على التنسيق لمواجهة التحديات المزدادة وضمان استقرار المنطقة على المدى الطويل.