حتى ما قبل شهرين ونصف، لم يكن معظم صناع السياسات في «المصرف المركزي الأميركي» يرون أن خفض أسعار الفائدة في اجتماعهم يومي 17 و18 سبتمبر (أيلول) الحالي أمر محتمل. لكن بحلول نهاية الشهر الماضي، عندما قال رئيس «الاحتياطي الفيدرالي»، جيروم باول، إن الوقت حان لبدء خفض تكاليف الاقتراض، كانت أغلبية جميع زملائه يعتقدون ذلك أيضاً.
كان ذلك، إلى حد كبير، بسبب مجموعة واسعة من البيانات التي تحركت في اتجاه واحد، مما دفع بصناع السياسات في «الاحتياطي الفيدرالي» إلى إعادة تقييم المخاطر على توقعاتهم، بما في ذلك ما إذا كان ينبغي أن يكون شاغلهم الرئيسي هو التضخم المستمر، أو ضعف سوق العمل، أو تدهور الأوضاع المالية للشركات أو الأسر، أو خطأً في السياسة النقدية، أو مزيجاً من هذه العوامل، وفق «رويترز».
وقالت أستاذة الاقتصاد بكلية «سلون» للإدارة في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» العضو السابقة في لجنة تحديد السياسة النقدية في «بنك إنجلترا»، كريستين فوربس: «ليس هناك سبب واحد يجعل الجميع يتحركون، فالأشخاص المختلفون يركزون على بيانات مختلفة، ومؤشرات مختلفة، ومخاطر مختلفة، ثم ينتهي بهم الأمر جميعاً في المكان نفسه».
جاء هذا التصريح خلال حديثها على هامش الندوة الاقتصادية السنوية لـ«بنك الاحتياطي الفيدرالي» في كانساس سيتي في «جاكسون هول» بولاية وايومينغ الشهر الماضي، حيث أعلن باول أن الوقت قد حان لخفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة. وأضافت فوربس: «وهنا يظهر دور رئيس (الاحتياطي الفيدرالي) الجيد في جمع الناس معاً لتحقيق النتيجة المطلوبة، ولكن غالباً ما يكون ذلك عبر الاستناد إلى دوافع مختلفة لتحقيق أهداف مختلفة».
يبدو أن هناك على الأقل بعض صناع السياسات في «الاحتياطي الفيدرالي» لا يزالون مترددين، حيث يعتمد دعمهم لتخفيف السياسة النقدية على مزيد من المؤشرات على تباطؤ التضخم أو ضعف سوق العمل.
لكن بالنسبة إلى أغلبية كبيرة من صناع السياسات في «الاحتياطي الفيدرالي»، فإن أول خفض لأسعار الفائدة بعد معركة طويلة مع التضخم يكاد يكون مؤكداً هذا الشهر. وستحدد المعلومات الواردة، مدعومة برؤيتهم للبيانات التي جرى الاطلاع عليها بالفعل، مدى حجم التحرك الذي يفضلونه في الاجتماع خلال أسبوعين: هل سيكون خفضاً تقليدياً بمقدار ربع نقطة مئوية، أم خفضاً أكبر بمقدار نصف نقطة مئوية؟
لم يرفع صناع السياسات في «الاحتياطي الفيدرالي» راية «المهمة أُنجزت» للاحتفال بالنصر على ما كان قبل عامين أعلى معدل تضخم في 40 عاماً. لكنهم يعتقدون أن الضغوط التضخمية، بعد أن زادت في وقت سابق من عام 2024، تتباطأ الآن، حيث تباطأ التضخم من شهر لآخر على مدى الأشهر الثلاثة الماضية إلى معدل سنوي أقل من هدف «الاحتياطي الفيدرالي» البالغ اثنين في المائة.
وقالت رئيسة «الاحتياطي الفيدرالي» في بوسطن، سوزان كولينز، لـ«رويترز» الشهر الماضي، في «جاكسون هول»: «أصبحت أكثر ثقة بأن المسار (التضخمي) موجود».
وفي الوقت نفسه، ترى كولينز أن سوق العمل لا تزال صحية، وتواصل سماع تقارير من جميع أنحاء نيو إنغلاند حول التأثير الذي يتركه التضخم. هذا المزيج، كما قالت، يعني أن «نهجاً تدريجياً ومنهجياً» لخفض أسعار الفائدة هو النهج الصائب.
رأيها، الذي يزداد إيمانها فيه بتباطؤ التضخم مع قليل من القلق بشأن تباطؤ مكاسب الوظائف، يشترك فيه زملاء آخرون؛ بمن فيهم رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» في فيلادلفيا، باتريك هاركر، الذي قال لـ«راديو بلومبرغ» الشهر الماضي إنه يريد «وتيرة منهجية» لخفض الفائدة تبدأ بـ25 نقطة أساس.
نقطة التحول في سوق العمل
تشعر رئيسة «الاحتياطي الفيدرالي» في سان فرنسيسكو، ماري دالي، وهي اقتصادية مختصة في سوق العمل، بالراحة كذلك بسبب تراجع الضغوط السعرية، لكنها ترى أن هناك مخاطر كبيرة تهدد التوظيف.
وقالت دالي، الأسبوع الماضي، إنها لم ترَ أي تدهور في سوق العمل حتى الآن. ومع ذلك، حذرت قبل شهر فقط بأنه «من المهم للغاية» عدم السماح لسوق العمل بالتحول إلى الركود، وقالت إن هناك حاجة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة إذا بدأ ذلك يحدث.
أحد المؤشرات التي تراقبها دالي من كثب هو البيانات التي تُظهر أن التباطؤ في سوق العمل حتى الآن هو نتيجة لتباطؤ التوظيف وليس لزيادة في عمليات التسريح.
من جانبه، يصف رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» في ريتشموند، توماس باركين، ذلك بأنه «وضعٌ قليل التوظيف، قليل التسريح».
وقال في «بودكاست بلومبرغ» الشهر الماضي: «لا يبدو أن هذا سيستمر»، مضيفاً: «لذلك سيتحرك يساراً أو يميناً».
أما عضو مجلس «الاحتياطي الفيدرالي»، أدريانا كوجلر، التي هي أيضاً اقتصادية مختصة في سوق العمل، فقالت في مؤتمر «جاكسون هول» إن نقطة التحول ربما قد تم الوصول إليها بالفعل، حيث انخفض عدد الوظائف المتاحة لكل باحث عن عمل إلى مستوى يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع في البطالة، التي تبلغ حالياً 4.3 في المائة.
وهذه نقطة يراقبها من كثب أيضاً عضو «مجلس الاحتياطي الفيدرالي»، كريستوفر والر، الذي لم يتحدث علناً عن السياسة النقدية منذ الاجتماع الأخير لـ«المصرف المركزي» في نهاية يوليو (تموز) الماضي، لكنه من المقرر أن يعطي تحديثاً يوم الجمعة بعد أن تنشر وزارة العمل الأميركية تقريرها عن التوظيف لشهر أغسطس (آب) الماضي.
أصوات من الميدان
قال رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» في أتلانتا، رافاييل بوستيك، منذ أشهر إنه يعتقد أن «المركزي» سيحتاج إلى خفض أسعار الفائدة مرة واحدة فقط هذا العام، وليس حتى الربع الرابع.
ومثل كثير من زملائه، شهد بوستيك انخفاضاً في التضخم أسرع من المتوقع. في أواخر أغسطس الماضي، قال بوستيك لـ«ياهو فاينانس» إنه يريد الآن خفض أسعار الفائدة في وقت أقرب مما كان يتوقع في السابق لمنع «أضرار غير مبررة» في سوق العمل. وهناك سبب آخر لتغيير رأيه: ما يقوله له قادة الأعمال.
قال بوستيك: «كانت هناك جهات في منطقتي تقول لي إنه يجب أن نفعل شيئاً في يوليو... في يناير (كانون الثاني) الماضي، لم يكن أحد يقول ذلك».
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من جهات الاتصال لم تكن تطالب بالمساعدة قبل الاجتماع الأخير لـ«الاحتياطي الفيدرالي»، فإن بوستيك قال إنه يخطط لمواصلة الحديث مع هذه الجهات عن كيفية تطور الوضع على أرض الواقع، وليس فقط بناءً على بيانات الحكومة.
وتظهر أحدث استطلاعات ثقة المستهلكين تدهوراً في الثقة بشأن الوظائف، وهي تتبع تاريخياً ارتفاع معدلات البطالة.
ويقدم رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» في شيكاغو، أوستان غولسبي، حجة أخرى لخفض أسعار الفائدة: مقياس التضخم المستهدف من قبل «الاحتياطي الفيدرالي» على أساس سنوي قد انخفض إلى 2.5 في المائة خلال يوليو الماضي، من 3.3 في المائة قبل عام، حتى في الوقت الذي حافظ فيه «الاحتياطي الفيدرالي» على سعر سياسته في نطاق بين 5.25 في المائة و5.50 في المائة.
يعتقد غولسبي أن الفجوة المزدادة بين تلك المعدلات تعني أن تكاليف الاقتراض أصبحت أعلى بشكل مستمر من الناحية الحقيقية، وهو ضغط مناسب إذا كان الاقتصاد يتصاعد، لكنه خانق بشكل مفرط إذا لم يكن كذلك. قد يكون هذا أفضل صحةً، إذا كانت سوق العمل، كما قال في أواخر أغسطس، تتباطأ غالباً «وفقاً لجميع المقاييس».