من الندرة إلى الاستدامة: مسيرة دول الخليج نحو تحقيق الأمن المائي

المديرة الإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي صفاء الطيب الكوقتلي (البنك الدولي)
المديرة الإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي صفاء الطيب الكوقتلي (البنك الدولي)
TT

من الندرة إلى الاستدامة: مسيرة دول الخليج نحو تحقيق الأمن المائي

المديرة الإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي صفاء الطيب الكوقتلي (البنك الدولي)
المديرة الإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي صفاء الطيب الكوقتلي (البنك الدولي)

يسلط اليوم العالمي للمياه الضوء على مسيرة دول مجلس التعاون الخليجي نحو تحقيق استدامة الأمن المائي، وهذا إنجاز يستحق الإشادة، لا سيما وأن هذه الدول تعاني من شح شديد في المياه.

وتواجه دول مجلس التعاون الخليجي حقيقة قاسية تتمثل في عدم توفر المياه السطحية، والاستخدام غير المستدام لموارد المياه الجوفية، وهذا يجعلها من بين أكثر البلدان التي تعاني من شح المياه على مستوى العالم.

والمعيار المرجعي لشح المياه المطلق هو 500 متر مكعب من المياه العذبة المتجددة للفرد سنوياً، وهو رقم لا يزال بعيد المنال بالنسبة للعديد من هذه البلدان، حيث يقل نصيب الفرد فيها من المياه العذبة المتجددة عن 100 متر مكعب سنوياً.

وعلى الرغم من ندرة مياهها، شهدت دول الخليج زيادة في استهلاك المياه، بسبب النمو الاقتصادي، والزيادة السكانية، والتوسع الحضري والعمراني. وغالباً ما تتجاوز معدلات الاستهلاك 500 لتر للفرد في اليوم، وهذا الرقم كبير للغاية، مقارنة بأرقام البلدان ذات مستويات الدخل المماثلة، مثل ألمانيا، حيث يبلغ الاستهلاك نحو 120 لتراً للفرد في اليوم. ويؤدي هذا الاستهلاك المفرط إلى استنزاف سريع لاحتياطات المياه المحدودة بالفعل في دول مجلس التعاون الخليجي.

واستجابة لذلك، شرعت هذه الدول في اتخاذ تدابير طموحة ومبتكرة لضمان مستقبلها المائي. ومن خلال استغلال مواردها المالية والبشرية الكبيرة، أعطت هذه الدول الغنية بالنفط الأولوية لتطوير تكنولوجيا تحلية المياه. وبفضل الابتكارات التي تقودها، لا سيما التقدم في تقنيات الأغشية وكفاءة استخدام الطاقة، انخفض سعر المياه المحلاة من 5 دولارات للمتر المكعب في ثمانينات القرن العشرين إلى ما بين 40 أو 50 سنتاً في المشاريع الأخيرة. وهذا يجعل تحلية المياه ميسورة التكلفة بشكل متزايد للبلدان في جميع أنحاء العالم.

وإلى جانب تحلية المياه، تنفذ دول مجلس التعاون الخليجي استراتيجيات متنوعة لإدارة المياه والطلب عليها. ويتمثل أحد أهم المجالات في الحد من «المياه التي لا تحقق إيرادات» - أي الهدر المادي والتجاري للمياه. وفي معرض حديثنا، نود الإشادة بالتجربة الفريدة والاستثنائية لهيئة كهرباء ومياه دبي. فقد خفضت الهيئة المياه التي لا تحقق إيرادات من 42 في المائة في عام 1988 إلى 4.6 في المائة في 2023. ويمكن أن تصل مستويات المياه التي لا تحقق إيرادات (الهدر) في بلدان أخرى بالمنطقة إلى 70 في المائة، وحتى في أميركا الشمالية، يبلغ المتوسط نحو 15 في المائة. وتساعد أساليب الاقتصاد الدائري أيضاً على زيادة تجميع مياه الصرف الصحي ومعالجتها وإعادة استخدامها، وقد ثبت أن ذلك يمثل إضافة استراتيجية لسد العجز في الموارد المائية المتناقصة وزيادة القيمة من المياه المحلاة. وعلى الرغم من تردد بعض البلدان في إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة، نجد اتجاهاً متزايداً في قبول هذا الأمر، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد ما إلى حملات التوعية الجماهيرية الناجحة.

وقد بدأ الدور الريادي لدول مجلس التعاون الخليجي في تحلية المياه في سبعينات القرن العشرين، وهي اليوم تقود العالم في هذا المجال. حيث توجد محطات تحلية المياه في 186 دولة، تنتج ما يصل إلى 140 مليون متر مكعب من المياه النظيفة يومياً، نصف هذا الإنتاج تقريباً يأتي من دول الخليج على الرغم من أنها تشكل أقل من 1 في المائة من سكان العالم.

وتنتج المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بالسعودية، وهي أكبر شركة لتحلية المياه على مستوى العالم، نحو 20 في المائة من المياه المحلاة في العالم. وتستفيد المؤسسة من خبرتها الواسعة بتقديم برامج التدريب من خلال أكاديمية المياه التابعة لها، وقامت الأكاديمية السعودية للمياه بتدريب آلاف المتخصصين في المياه في جميع أنحاء العالم. كما تقوم المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بالسعودية بإجراء بحوث لتحسين عملية تحلية المياه، بهدف زيادة الكفاءة وخفض التكاليف وتقليل الهدر.

وبفضل تجربة دول مجلس التعاون الخليجي، بدأت بلدان أخرى في المنطقة في تطوير تحلية المياه في الآونة الأخيرة، مستفيدة من الابتكارات التكنولوجية وخفض التكاليف.

لكن لا تزال هناك العديد من التحديات في هذا المجال المعقَّد الخاص بإدارة المياه، ولا تزال صناعة تحلية المياه بحاجة إلى حلول طويلة الأجل لإدارة المياه المالحة المنتجة من عملية التحلية. فقد تؤدي الزيادة الهائلة في تحلية المياه إلى زيادة كبيرة للغاية في مستويات الملوحة المرتفعة بالفعل بشكل طبيعي في الخليج والبحر الأحمر. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تدهور التنوع البيولوجي البحري، وبقاء الأنواع، وإنتاجية مصائد الأسماك، ناهيك عن التأثير السلبي على المجتمعات الساحلية. ومع تزايد تطوير محطات تحلية المياه، من الضروري للغاية التعاون وتضافر الجهود بين دول مجلس التعاون الخليجي في التخطيط والإدارة لتحديد الآثار التراكمية المحتملة وتعظيم الاستفادة من قرارات الاستثمار بهدف ضمان الاستدامة البيئية للأمن المائي على مستوى المنطقة.

وتشارك دول مجلس التعاون الخليجي البنك الدولي للتصدي للتحديات المتبقية بغية تحقيق استدامة الأمن المائي. وبناءً على أكثر من 50 عاماً من الشراكات، تتضافر المعرفة العالمية للبنك الدولي مع الخبرة المحلية للوصول إلى أساليب جديدة لتقدير قيمة المياه، وتعزيز فرص تعزيز الممارسات المستدامة في مجال تحلية المياه وتشجيع تبادل المعارف وبناء القدرات في البلدان الأخرى. ويستند ذلك إلى الخبرات والابتكارات التي قدمتها شركات مثل المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة بالسعودية وهيئة كهرباء ومياه دبي الإمارات، إلى جانب تحويل تجارب التنمية للبنك الدولي من مجرد أفكار إلى واقع ملموس.

وعلى مدى عشرات السنين من الاستثمارات في ابتكارات تكنولوجيا تحلية المياه والإدارة الجيدة للمرافق في دول مجلس التعاون الخليجي، تحققت ميزة تنافسية لهذه الدول فيما يتعلق بالتكنولوجيا والخبرة البشرية للتغلب على التحدي العالمي لشح المياه الذي يلوح في الأفق. وقد أثمرت جهود البحث والتطوير التي تقودها هذه الدول «منفعة عامة عالمية» على حد قول الاقتصاديين، وهذا يعود بالنفع على كوكب الأرض بأسره بالمعنى الحرفي للكلمة. ويؤكد الدور القادم للسعودية بوصفها البلد المضيف للمنتدى العالمي للمياه في عام 2027 على ريادة دول مجلس التعاون الخليجي في إدارة المياه، وهذا المنتدى يمثل منبراً لعرض إنجازات هذه الدول وتبادل معارفها مع العالم في مجال الأمن المائي.

* المديرة الإقليمية لدول مجلس التعاون الخليجي في البنك الدولي


مقالات ذات صلة

مصر تستعرض خطتها لتعويض «عجز مائي» يقدَّر بـ54 مليار متر مكعب

شمال افريقيا سويلم خلال فعاليات «اليوم المصري - الألماني للتعاون التنموي» (وزارة الموارد المائية)

مصر تستعرض خطتها لتعويض «عجز مائي» يقدَّر بـ54 مليار متر مكعب

قال وزير الموارد المائية المصري هاني سويلم، الاثنين، إن بلاده تطبق خطة شاملة لتعظيم الاستفادة من مواردها المائية المحدودة.

محمد عبده حسنين (القاهرة)
علوم تعاني مناطق غرب تكساس من جفاف شديد

هل يمكن أن تكون مياه الصرف النفطية الحل للجفاف؟

خطط لاستخدام مياه استخراج النفط للزراعة

الاقتصاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يقف مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء الدول الأخرى المشاركين بقمة «مياه واحدة» في الرياض لالتقاط صورة جماعية (أ.ف.ب) play-circle 01:27

ولي العهد: السعودية قدمت 6 مليارات دولار لدعم 200 مشروع إنمائي في 60 دولة

أكد ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، أن السعودية أدرجت موضوعات المياه «للمرة الأولى» ضمن خريطة عمل «مجموعة العشرين» خلال رئاستها في 2020.

الاقتصاد النائب الأول لوزير الموارد المائية والري في كازاخستان بولات بكنياز (الشرق الأوسط)

قمة في الرياض لبحث مستقبل المياه بالعالم

كشف مسؤول كازاخستاني عن ملامح قمة ثلاثية لتنظيم حدث عالمي في إطار «قمة المياه الواحدة»؛ إذ تنعقد برئاسة سعودية - كازاخية - فرنسية، وبدعم من البنك الدولي.

فتح الرحمان یوسف (الرياض)
الاقتصاد جلسات علمية و11 ورقة عمل في اليوم الثاني من مؤتمر الابتكار في استدامة المياه (الشرق الأوسط)

رئيسة «إيرث كابيتال»: السعودية تستثمر في التقنيات لتلبية احتياجاتها المائية

أكدت الرئيسة التنفيذية لـ«إيرث كابيتال» أن السعودية إحدى الدول التي تواجه تحديات مائية ضخمة، إلا أنها تلعب دوراً ريادياً في مواجهة هذه الأزمة.

أسماء الغابري (جدة)

«مورغان ستانلي»: «المركزي التركي» قد يخفض الفائدة إلى 48 %

مقر البنك المركزي التركي (رويترز)
مقر البنك المركزي التركي (رويترز)
TT

«مورغان ستانلي»: «المركزي التركي» قد يخفض الفائدة إلى 48 %

مقر البنك المركزي التركي (رويترز)
مقر البنك المركزي التركي (رويترز)

يسود ترقب واسع لقرار البنك المركزي التركي بشأن سعر الفائدة الذي من المقرر أن يعلنه عقب اجتماع لجنته للسياسة النقدية الأخير للعام الحالي يوم الخميس المقبل.

وتوقعت مؤسسة «مورغان ستانلي» الأميركية أن يبدأ البنك المركزي التركي خفض سعر الفائدة الرئيسي 200 نقطة أساس في اجتماعه، الخميس المقبل، لينخفض من 50 إلى 48 في المائة.

وكشف أحدث تقرير لـ«مورغان ستانلي» نشرته وسائل إعلام تركية السبت، عن أن «المركزي التركي» قد يتبع ذلك بتخفيضات أخرى في أسعار الفائدة، مع توقع خفضين إضافيين بمقدار 200 نقطة أساس بحلول نهاية الربع الأول من عام 2025، وهو ما سيؤدي إلى خفض سعر الفائدة إلى 44 في المائة بحلول مارس (آذار) المقبل.

وقدر تقرير «مورغان ستانلي» أن التضخم الرئيسي سينخفض ​​إلى 39 في المائة بحلول مارس، قائلا: «نرى أن التضخم الرئيسي سينخفض ​​إلى 39 في المائة بحلول مارس، ما يعني متوسط ​​سعر فائدة حقيقيا بعد ذلك بنحو نقطة مئوية في الربع الأول من عام 2025».

وأضاف: «ومع ذلك، فإن مسألة ما إذا كان هذا المستوى من الأسعار الحقيقية ضيقاً بما فيه الكفاية، ستعتمد على البيانات القادمة»، لافتا إلى أن عدم اليقين المحيط بتعديلات الحد الأدنى للأجور لعام 2025 يضيف تعقيداً إلى القرارات النقدية للبنك المركزي التركي.

وتوقع خبراء الاقتصاد في «مورغان ستانلي» أن تكون زيادة الحد الأدنى للأجور في تركيا في نطاق يتراوح ما بين 30 إلى 35 في المائة من الحد الأدنى الحالي، وهو 17 ألف ليرة تركية.

ورجح الخبراء أن تؤثر أي زيادة كبيرة في الحد الأدنى للأجور على التضخم، ما قد يضيق من مساحة الحركة أمام البنك المركزي للتيسير النقدي.

متسوقة تعاين الأسعار في إحدى أسواق السوبر ماركت في إسطنبول (إعلام تركي)

وتقدر «مورغان ستانلي» أن زيادة الأجور بمقدار 10 في المائة قد تضيف 2 إلى 2.5 نقطة مئوية إلى توقعات التضخم.

توقعات التضخم

وعدل البنك المركزي التركي، الجمعة، توقعات التضخم في نهاية العام إلى 45.25 في المائة، وفقاً لنتائج استطلاع المشاركين في السوق لشهر ديسمبر (كانون الأول) الحالي، من 44.81 في المائة في استطلاع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ولحسب نتائج الاستطلاع، الذي شارك فيه 69 من ممثلي القطاعين المالي والحقيقي، انخفضت توقعات التضخم خلال الشهور الـ12 المقبلة إلى 27.07 في المائة، مقابل 27.20 في المائة في الاستطلاع السابق.

وبالنسبة إلى سعر الفائدة، أظهر الاستطلاع انخفاضاً طفيفاً في توقعات الفائدة على القروض إلى 48.59 في المائة، مقابل 50 المائة في استطلاع الشهر الماضي.

وتوقع اقتصاديون أتراك أن يخفض البنك المركزي سعر الفائدة بمقدار 150 نقطة أساس في اجتماع الخميس إلى 48.50 في المائة، بعدما حافظ عليه عند 50 في المائة لثمانية أشهر.

وتراوحت توقعات الاقتصاديين لسعر الفائدة بين 47.50 في المائة و50 في المائة، بمتوسط 48.50 في المائة، وكان متوسط ​​توقعات الاقتصاديين لسعر الفائدة في نهاية عام 2025 هو 29.50 في المائة.

ظروف غير مواتية

بدوره، عد رئيس جامعة «توبكابي» في إسطنبول، الدكتور إيمري ألكين، إعلان البنك المركزي بشأن ضرورة تحديد الحد الأدنى للأجور وفقاً للتضخم المتوقع، بمثابة اعتراف بأننا «نحتاج إلى إجراءات صادمة في الوقت الحالي».

أتراك يتجولون في «السوق المصري» في إسطنبول (إعلام تركي)

وحذر ألكين من أن الوضع حاليا لا يسير على ما يرام، ومسار التضخم ليس جيدا كما كان يعتقد، وفي هذه الحالة لا ينبغي للبنك المركزي أن يخفض أسعار الفائدة في اجتماع الخميس.

وقال: «إذا لم يتمكن الناس من الحصول على قروض أرخص ولم ينته خطر التضخم، باعتراف البنك الكرزي الذي يعترف بأنه لا تزال هناك مشكلة خطيرة تتعلق بالتضخم، فلماذا يتعين عليه خفض أسعار الفائدة؟».

وقال ألكين: «على الأرجح يتعرض البنك المركزي لضغط شديد جدا، من الحكومة لأن هناك دائما شكاوى، والجميع لا يشعرون بارتياح، سواء في عالم السياسة أو الأعمال، والمواطنون منزعجون، وهذا يخلق قدرا هائلا من التوتر، ولذلك يجب على الإدارة الاقتصادية الآن أن تقترب قليلا من المواطنين وعالم الأعمال».