لم تكن المسافة كافية بين مدينة العريش المصرية، وتل أبيب عاصمة دولة إسرائيل ليدرك الكاتب المسرحي علي سالم، وهو يقطع بعربته الخاصة الصغيرة الطريق الوعر الملغم بين البلدتين أن ثمة مدارس أخرى للمشاغبين، تخفي خلف أبوابها دوائر أخرى للصراع، لن تفلح خيوط الدراما أو الكوميديا، في الوصول به إلى بر الأمان والسلام تحت راية الإنسانية، هذا الحلم العفوي الساذج الذي خاض سالم من أجله أعنف المعارك وأكثرها صخبا في حياته على المستوى السياسي والثقافي حين زار إسرائيل في 7 أبريل (نيسان) عام 1994، للتعرف عليها من الداخل، والانضواء لشعار «كسر الحاجز النفسي» الذي دشنه الرئيس المصري الأسبق أنور السادات بزيارته الشهيرة للقدس وتوقيع معاهدة كامب ديفيد للصلح مع إسرائيل.
لم ترهق وقائع تلك الزيارة مؤلف «مدرسة المشاغبين»، النص المسرحي المصري الأشهر، الذي أصبح بمثابة خبز الكوميديا اليومي على موائد العالم العربي لسنوات كثيرة من تسعينات القرن الماضي وحتى الآن، وإنما أرهقه ما أثير حولها من غبار، وما جلبته له من اتهامات كان أقساها لقب «المطبع الأول» الذي أطلقه عليه عدد من المثقفين العرب، ثم قرار شطبه من عضوية اتحاد الكتاب المصريين، والتي استردها فيما بعد بحكم قضائي.
هذه الوقائع وغيرها تلقي بظلالها على مشهد رحيل علي سالم، والذي غيبه الموت أمس بمنزله بحي المهندسين بالقاهرة، عن عمر يناهز 79 عاما، ليلحق بقطار راحلين كبار هذا العام من أمثال عبد الرحمن الأبنودي وعمر الشريف ونور الشريف وفاتن حمامة، مخلفًا لدى المصريين والوسط الثقافي المصري والعربي غصة من الألم والحزن، وهم يتأهبون لاستقبال عيد الأضحى المبارك.
في السنوات الأخيرة عانى صاحب «أغنية على الممر» أشهر عرض مسرحي تجول في أقاليم مصر، من أمراض الشيخوخة، كما خاض رحلة قاسية مع مرض السرطان وأدخل بسببها المستشفى أكثر من مرة للعلاج، لكنه كان يتعافى ويعود لمشاغبة قرائه بمقالاته السياسية الجريئة، التي تعكس وجهة نظره الخاصة وآراءه في الكثير من القضايا الحساسة والمصيرية التي تواجه مصر والعالم العربي.
استند علي سالم في مغامرته مع الحياة والأدب والفن على عصاميته وكفاحه مع الفقر وشظف العيش، الذي واجهه منذ نعومة أظافره، وهو بعد طفل صغير، في مدينة دمياط شمال مصر، الذي انتقل إليها وعاش بها سنوات صباه وأصبح منتميا لها، بعد أربع سنوات من مولده في حي شبرا البلد، في مدينة قليوب بمحافظة القليوبية المتاخمة للعاصمة القاهرة.. كان والده شرطيا يكسب بالكاد ما يكفي لإعالة أسرته الكثيرة العدد.
في عامه الحادي والعشرين رحل الأب تاركا الأسرة الكبيرة في مهب الفقر والعوز والحرمان، لكن صورته كرمز للصبر والكفاح ظلت محفورة في ذاكرته، تحفزه على الأمل في حياة كريمة وآمنة لأسرته.
بعد موت والده حظي علي سالم بإعفاء مؤقت من الخدمة العسكرية التي قطع فيها شوطا، نظرا لأنه أكبر إخوته وأصبح هو العائل لهم.. فعمل منذ تلك اللحظة على أن تسير حياته في مسارين لا ينفصل بعضهما عن الآخر؛ أن يسعى لتحسين حياة أسرته، وفي الوقت نفسه يكمل تعليمه ويحقق طموحه في أن يكون مؤلفًا مسرحيًا، خاصة وأنه يهوى التمثيل، وقد اختبر ذلك بالاشتراك في عروض ارتجالية في بعض المدارس بدمياط.
في هذه السن، لم يكن سالم أكمل تعليمه في كلية الحقوق التي التحق بها عام 1957، وتحت الحاجة لإعالة أسرته عمل في عدد من الوظائف والمهن الصغيرة، منها محصل أتوبيس (كمسري)، وسائق «طفطف»، وهي عربة للتنزه في المصايف. كما عمل بقسم الحسابات بوزارة الصحة بالقاهرة. وفي عام 1959 التحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة القاهرة لكنه سرعان ما توقف عن مواصلة الدراسة.
عن سبب توقفه للمرة الثانية عن استكمال دراسته الجامعية، قال سالم في أحد حواراته الصحافية إن «شقيقي عادل كان يدرس هندسة طيران، وكانت الأسرة في حاجة لمن يعمل، فتوقفت عن الدراسة لسنوات، ثم عدت عندما تحسنت أوضاعي المالية نهاية 1962 ودرست الأدب الإنجليزي، وحصلت على دبلوم الترجمة فأنا عاشق للغة الإنجليزية، واعتبر أن إنتاج الأرض مكتوب باللغة الإنجليزية، وفي هذا العام التحقت بمسرح القاهرة للعرائس، وقبلها كنت بدأت الكتابة للمسرح، بعد أن شاهدت عرضا مسرحيا جميلا كان عنوانه (الموت يأخذ إجازة) لألبرت كاستلو، وعند التحاقي بمسرح العرائس كتبت أول مسرحيتين في حياتي، وأعلن بالتلفزيون عن مسابقة لكتّاب المسرح الجدد في عام 1965 وبدأت رحلة المعاناة لحفر اسمي بين المشاهير».
في مسرح العرائس تولى سالم مسؤولية فرقة المدارس ثم فرقة الفلاحين، وحركهما وضخ في دمائهما حالة من الحيوية والنشاط، وطافت الفرقتان بعروضهما الكثير من المدارس والقرى والنجوع في الأقاليم.
لكن قدمه ككاتب مسرحي لافت برزت في أولى مسرحياته «العفاريت الزرق»، ثم مسرحية «حدث في عزبة الورد» والتي قدمها ثلاثي أضواء المسرح جورج وسمير والضيف، بعد بروفات 9 أيام فقط، واستمر العرض 4 أشهر في سابقة هي الأولى من نوعها في وقتها. لكن خطواته الفنية بدأت تتعمق وتتسع مع مسرحيته «الناس اللي في السماء الثامنة»، في عام 1966، وهي مسرحية شبه هجائية، بها لطشة شيقة من أدب العبث واللامعقول، تروي حكاية كوكب يخضع لسيطرة ملك وطاقم من العلماء الذين يؤمنون بأن الحب مرض يجب علاجه بإزالة «غدد الحب» من أجسام الأطفال، ويتمرد الحب على نفسه وعلى الواقعين فيه، فينظمون انقلابًا برئاسة وزير الطب لتلك المملكة.
وفي مسرحياته «الرجل اللي ضحك على الملائكة» (1966)، «أنت اللي قتلت الوحش - كوميديا أوديب» (1970). «بكالوريوس في حكم الشعوب»، لجأ سالم إلى النقد السياسي كسلاح لإيقاظ الوعي والخيال، وتقديم فرجة مسرحية لا تخلو من متعة، تعتمد على خلطة متقنة من الهجاء والسخرية والفانتازيا، تشد المشاهد إلى النص، فيحس بأنه جزء منه، وأن ظلاله قابعة في داخله.
وفوق قمة هذا العطاء المسرحي المتنوع تتربع مسرحية «مدرسة المشاغبين» التي ذاع صيتها في أنحاء العالم العربي، وأصبحت «إفيهاتها» تتردد على ألسنة الصغار والكبار في البيوت والمقاهي والشوارع حتى الآن ومنها: «إنجليزي ده يا مرسي» و«تعرف إيه عن المنطق»، وغيرها.. تروي المسرحية في إطار كوميدي حكاية معلمة للفلسفة تحاول تأديب فصل من التلاميذ المشاغبين. وقام ببطولتها كوكبة من النجوم على رأسهم الفنان عادل إمام والفنانة سهير البابلي والفنانون الراحلون يونس شلبي وسعيد صالح وأحمد زكي وحسن مصطفى.
غاص سالم بدماثة خلقه وحيويته، من خلال هذه الخبرات الحياة في قاع المجتمع المصري، تعايش معه، واحتك به عن قرب، وانعكس كل ذلك على أعماله المسرحية وكتاباته الفكاهية، فاتسمت بواقعية حريفة، قادرة على أن تقدم شهادة موجعة على البكاء في زمن الضحك والعكس صحيح أيضًا.
يفتخر سالم بهذه التجارب ويروي عنها قائلا: «أفتخر بأنني رجل عصامي، والدي الشرطي البسيط المثقف، وتعلمت الانضباط في العمل من سائق الأتوبيس وأنا أعمل (كمسري)، كانت في ذلك الوقت لدي إرادة قوية وطموح كبير، وتعرفت على مثقفين مهمين للغاية بالأتوبيس منهم محمد الدالي وأذكر أن سائقي الأتوبيس في ذلك الوقت كانوا مثقفين ومنضبطين، وتجرى لهم اختبارات دقيقة لمنحهم رخصة القيادة، لأن السائق مسؤول عن حياة البشر وأرواحهم، لذلك كان من يحصل على هذه الرخصة يقيم احتفالا كبيرا في الحي الذي يقطن فيه».
** أبرز أعماله
أثرى علي سالم المكتبة العربية بأكثر من 15 كتابا، تناول فيها قضايا المجتمع على شتى المستويات؛ الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكتب 27 مسرحية جمع فيها بين الكوميديا والهجاء والسخرية، في فضاء فني متنوع، أبرزها:
*«الناس اللي في السماء الثامنة» أولى مسرحياته، وكتبها عام 1963، وتم إصدارها عام 1966.
*«ولا العفاريت الزرق». تعد أولى مسرحياته التي قدمته كاتبا محترفا.
*«الرجل اللي ضحك على الملائكة». مسرحية كتبها عام (1966).
*«حدث في عزبة الورد». مسرحية قدمها ثلاثي أضواء المسرح.
*«طبيخ الملايكة».
*«انت اللي قتلت الوحش - كوميديا أوديب»، مسرحية (1970).
*«مدرسة المشاغبين»، أكثر مسرحياته شهرة في العالم العربي.
*«عفاريت مصر الجديدة»، وتعد من روائع المسرح القومي.
*«الملوك يدخلون القرية».
*«العيال الطيبين»، رواية تم تجسيدها في فيلم سينمائي.
*«أولادنا في لندن».
*«بكالوريوس في حكم الشعوب»، إحدى أشهر رواياته المسرحية.
*«الكلاب وصلت المطار»، رواية مسرحية تم إعدادها عام 1996.
*«خشب الورد».
*«البترول طلع في بيتنا».
*«البوفيه».
*«بير القمح».
*«أغنية على الممر».
*«الكاتب في شهر العسل».
*«الكاتب والشحات».
*«المتفائل».
*«الملاحظ والمهندس».
*«رحلة إلى إسرائيل»، كتاب سرد فيه أحداث رحلته إلى إسرائيل عام 1994 ولقاءاته مع الإسرائيليين بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى.