بعد عقود من المصاعب التي حالت دون انتشار الأفلام العربية في المهرجانات، باستثناء ما حققه بعض المخرجين أمثال يوسف شاهين ورضا الباهي والناصر خمير وحفنة سواهم، تغير الوضع على نحو إيجابي، وباتت الأفلام العربية، أو تلك التي يمنحها المخرجون العرب الهوية العربية، وإن كانت من تمويل غير عربي، متوقعة الورود بصورة طبيعية في معظم المهرجانات الدولية.
هذا كان شأن عشرات الأفلام مؤخراً، من بينها «آخر أيام المدينة» و«اشتباك» و«بنحبك هادي» و«بركة يقابل بركة» و«آخر واحد فينا» و«جسد غريب» و«عمر». وقبل ذلك «وجدة» و«ذيب» و«هلأ لوين؟»، وفي الموازاة عدد كبير من الأفلام التسجيلية من بينها «آخر رجال في حلب» و«أطفال لبنان» و«هواء مقدس»، وكلها معاً ليست سوى ربع ما تكرر عرضه في المهرجانات الأوروبية (أساساً)، مثل فينيسيا وبرلين وكان ولوكارنو والأميركية (نيويورك، صندانس غالباً) وكندا (تورنتو ومونتريال) وسواها حول العالم.
ثلاثة عوامل
هذا لم يكن ليحدث لولا ثلاثة عوامل أساسية ساعدت السينما العربية في أن تكون حاضرة، كما الحال الآن في مسابقة مهرجان «لوكارنو» الذي انطلق قبل أيام قليلة، وما الحال في المستقبل غير البعيد، عندما يطالعنا فيلم زياد الدويري «إهانة» المشترك في مسابقة مهرجان «فنيسيا».
هذه العوامل هي:
1 - الأحداث السياسية التي تشهدها المنطقة العربية منذ أكثر من عشر سنوات، بدءاً بحروب عربية - أجنبية، ووصولاً إلى حروب عربية - عربية وولادة تنظيم داعش وسواها من المنظمات الإرهابية.
2 - إدراك المخرجين العرب أنّ النغمة السابقة من أن المهرجانات الدولية لا تكترث كثيراً للأفلام العربية لم تكن صحيحة تماماً بل جزئياً ولم تعد صحيحة الآن إلا فيما ندر. المشكلة كانت أنّ يوسف شاهين ويسري نصر الله من مصر، ورضا الباهي من تونس، ومحمد لخضر حامينا من الجزائر (رابح سعفة كان الذهبية الوحيد حتى اليوم)، وسواهم كانوا قريبين جداً من المفهوم الأوروبي في العمل وفي أسلوبية الإخراج كما في التعامل الإنتاجي مع الشركات الأجنبية بحيث لم يكن من المتاح، أساساً، لأي سبب يدعو للامتناع عن عرض هذه الأفلام على شاشات بعض المهرجانات الرئيسية المذكورة.
3 - العامل الثالث هو أنّ المهرجانات الدولية كافة بحاجة لأفلام. دائماً ما كانت بحاجة إلى الأفلام فعلاً، لكنّ عدد المهرجانات الكبيرة لم يكن يوماً كما هو اليوم. تلك الأيام التي شهدت عروض أفلام لكمال الشيخ وصلاح أبو سيف واللبناني جورج نصر في «كان»، كان عدد المهرجانات الدولية الأولى فيها لا يتجاوز الأربعة في أوروبا: برلين، وكان وفينيسيا وسان سابستيان وأقل من ذلك حول العالم. اليوم هناك أكثر من 3 آلاف مهرجان مسجل من بينها نحو 25 مهرجاناً في الصفين الأول والثاني، و50 آخر جاذبة سواء أكانت متخصصة بنوع معين من الأفلام أو غير منفتحة على كل الأنواع.
عرس فلسطيني
موضع مهرجان لوكارنو الذي انطلقت دورته السبعون في الثاني من هذا الشهر وانتهت يوم أمس السبت، بالنسبة للسينما العربية من تلك المواضع التي تزداد إلحاحاً. ليس فقط أنّه بات مقصداً لإنتاجات مصرية وتونسية ولبنانية و - هذا العام - فلسطينية، بل أخذ يشهد حضوراً ذا حجم لا بأس به من قِبل منتجين وأصحاب مؤسسات سينمائية عربية.
هذا الحضور لم يكن منتشراً على هذا النحو (ولا حتى أقل منه بكثير) في الثمانينات عندما بدأ هذا الناقد بالتردد إليه. لكنّه الحضور الذي يؤكد تلك العوامل المشار إليها.
الفيلم المقدّم باسم فلسطين هو «واجب» للمخرجة آن ماري جاسر وبطولة محمد بكري مع ولديه صالح وليلى بكري. ليس فيلماً تسجيلياً عن الممثل، بل يعمد إلى سرده الروائي عبر الحديث حول الأب الذي ما إن تُزف ابنته إلى عريسها (تقع الأحداث في الناصرة في الستينات) حتى يخلو البيت من الجميع ويبقى هو وحيداً. لكن ابنه الذي يعيش في روما يصل للمشاركة في التحضير لذلك العرس وهذا بعد سنوات طويلة من الانقطاع مما يجعل حضور كل للآخر بمثابة استفزاز، غير منطوق أولاً، ثم متفجر بعد ذلك.
تاريخ آن ماري جاسر السينمائي قريب. معظم ما أخرجته من سنة 2001 إلى اليوم، قصير. وهذا ثاني أفلامها الروائية الطويلة، وثالث فيلم طويل لها كون الأول في هذا المجال فيلمها الجيد «ملح هذا البحر» (2008). بعده أقدمت على «لما شفتك» (2012). لكن هذه الأفلام الثلاثة جابت مهرجانات عدة:
«ملح هذا الأرض» عرض أولاً في مهرجان «كان» سنة 2008، ثم انتقل، في نفس العام، إلى هلسنكي وريو دي جانيرو ووارسو ومونتريال وبوسان وساو باولو كما لحق لندن وقرطاج والقاهرة ثم حط في دبي مع آخر تلك السنة.
«لما شفتك» شهد عرضه الأول في تورنتو، 2012، ثم انتقل إلى ساو باولو وأبوظبي وقرطاج والقاهرة وخاض عدداً كبيراً من المهرجانات الدولية في العام التالي من بينها تورنتو وملبون ولوس أنجليس وسراييفو.
مدام هايد
قد لا تنال المخرجة من مهرجان لوكارنو إلّا شرف التسابق والحضور، لكن هذا ليس قدراً ضئيلاً لفيلم فلسطيني الهوية في الوقت الذي شهدت سنواته القريبة السابقة اهتمامه بالسينما الإسرائيلية وصانعيها، ما حدا ببعض السينمائيين العرب والأوروبيين للاحتجاج وبعضهم لعدم حضور الدورة التي أقيمت قبل عامين.
لكن قوّة لوكارنو الذي احتفى بالدورة السبعين هذا العام (وُلد سنة 1946 لكنه توقف مرتين فقط من حينها) كانت دائماً في جمعه المواهب التي ما زال المستقبل أمامها ممتداً. صحيح أنّه بات الآن يدمج الأعمال بعضها ببعض في برمجة يريد منها أن تطرح «لوكارنو» كاختيار أفضل من ذي قبل، إلا أن أقسامه ما زالت تشهد اهتمامه بالسينما التي يقدم عليها مخرجون جدد أو في مراحل أولى.
هذه دوما تحمل تجارب جديدة. منها هذا العام، وإلى جانب «واجب»، فيلكس راندو في ثاني عمل له من بعد «لعبة النداء» قبل عشر سنوات. الفيلم الجديد هو «رجل الثلج» الذي تقع أحداثه قبل 5300 سنة مضت في مرتفعات جبال الألب. حسب أسطورة أو سواها، اكتشف كيلاب (الألماني يورغن فوغل في الدور)، أن أفراد عشيرته القلائل قتلوا جميعاً بمن فيهم زوجته ولم ينج سوى طفل صغير. بطبيعة الحال فإنّ الخيار الجاهز أمامه هو البحث عن القتلة وإعدامهم، لكنّ المهمّة شاقة، من جهة عليه حمل طفله من موقع لآخر، ومن أخرى هناك عناصر الطبيعة من برد وثلج وعواصف، ومن جهة ثالثة، يجد نفسه وقد أصبح مطارداً من الذين انطلق لمطاردتهم.
وفي مكان آخر لا يمكن أن يكون نقيضاً لما يرد في «رجل الثلج»، قدّم المهرجان، في مطلع دورته الحالية، فيلماً عنوانه «مغنية الجمل» مع الإيرانية (المنشقة) غولشفته فرحاني والهندي المعروف عرفان خان للمخرج الهندي الأصل، البريطاني الجنسية والمهاجر إلى سويسرا، منذ بضع سنوات، أنوب سينغ. أحداثه تقع في الهند وذلك وحده يخلق ذلك البعد الجغرافي، كما الثقافي عن الفيلم الآخر. على عكسه أيضاً يعمد الفيلم إلى الحوار كما لو كان لزاماً حتى حين كان ينفع الصمت. بينما يميل «رجل الثلج» بمعظمه إلى الصمت.