بينما لا يزال البعض يتساءل عما إذا كانت هناك سينما لبنانية فعلاً، متجاهلين أنّ الواقع الملموس يؤكد وجودها كما أكّده في مراحل مختلفة من قبل، يسعى البعض الآخر إلى البحث عن هويّتها، وعمّا إذا كان من الممكن اعتبار الفيلم اللبناني حالة أكثر منه تعبيرا عن سينما واقعة. وعمّا إذا كانت السينما اللبنانية تستطيع مواصلة مسيرتها الأخيرة بالثبات والقوة نفسيها.
في غضون ذلك، وخلال الأعوام العشرة الأخيرة الماضية، لم تتوقّف هذه السينما عن تقديم نماذجها من الأفلام التي تنقسم، كما في كل دول العالم، إلى أفلام فنية تقصد الخروج إلى المهرجانات واستحواذ ما تستطيع من جوائز، وأخرى تطرح نفسها في أسواق الأفلام لبنانياً، أساساً، وفي المحيط العربي إجمالاً إذا ما أتيح لها ذلك.
«كوميرشل»
الحكاية ما زالت كما هي منذ عقود طويلة: الفيلم اللبناني، ليكون لبنانياً بالفعل، عليه أن يحتوي على موضوع لبناني القصّـة والأحداث واللهجة والممثلين والإخراج. هذا ينطبق على الأفلام الفنية كما على تلك التجارية، لكن في حين أن تلك الفنية تعرف أنّ سوقها المحلي يصغر ويكبر حسب قوّة المضمون وأهمية فعل الترويج الذاتي، فإنّ الأفلام التجارية لديها أزمة أكبر من المتوقع لأنّ عروضها العربية خارج لبنان نادرة، ومحلياً بلغ المشاهد اللبناني والمقيم من الرشد بحيث تجاوز الرغبة في التشجيع العاطفي للسينما كما يؤكد المنتج جمال سنان، صاحب «إيغل فيلمز»، واحدة من أقوى شركات التوزيع للأفلام في العالم العربي، والشركة التي أنتجت في الأعوام الثلاث الأخيرة أكثر مما أنتجته باقي الشركات الأخرى العاملة في لبنان من مسلسلات وأفلام سينمائية، مضيفاً: «الجمهور اللبناني يريد الخامة الجيدة والمناسبة والمتميّـزة. لا بد للفيلم المنتج محلياً أن يتميّز عن الأفلام الأخرى وعلى نحو شامل. من أ إلى ي». ويحدد أكثر: «عندما ننوي إنتاج فيلم نقوم بعملنا على نحو مدروس. كل شيء من الورق إلى الشاشة عليه أن يتمتع بالمستوى الجيد. لا يستطيع المنتج اليوم تحقيق أفلامه من دون تأمين النوعية الفنية والإنتاجية الصحيحة».
جمال سنّان، في نظر بعض المنتجين الآخرين في السوق اللبناني، أصبح عنوان السينما اللبنانية الجديدة. «السوق كله له»، كما يقول أحدهم. لذلك ربما من الطبيعي أن يسأله البعض عن سبب عدم رغبته في تحقيق أفلام تنتمي إلى الصنف الآخر من السينما.
«أتلقى الكثير من الأسئلة في هذا الشأن، لكنني لا أحبّذ إنتاج أفلام فنية أو أفلام المهرجانات. أنا منتج أنتمي إلى صناعة الفيلم المطلوب جماهيرياً» ويضيف بصراحة: «بدي أعمل أفلام كوميرشل».
حين أسأله ما المانع في أن يكون الفيلم «كوميرشل» وفي الوقت نفسه جيداً يجيب: «لا مانع على الإطلاق. لكنّ المسألة ليست سهلة. الجمع بين العناصر الجماهيرية والعناصر الفنية بمعنى Art film عمل صعب. وإذا ما وجدت النص الصحيح لذلك، لم لا؟».
إلى «فينسيا»
إنّه ليس موقف جمال سنان الوحيد. منذ عمق التجربة اللبنانية في الإنتاج، ومعظم المنتجين فضّلوا التعامل مع الفيلم التجاري لأنّ الليرة المدفوعة تستطيع أن تعد بليرتين في المقابل في الفيلم الجماهيري. الفيلم الفني قد يكلف (أحياناً) أقل، لكنّ ليرته قد لا تعود وإن عادت فعلى شكل جوائز ونياشين وشهادات تقدير لم تقنع منتجي السينما في لبنان بالإقدام عليها.
الفيلم التجاري اللبناني فيما سبق كان محدود التطلعات والقدرات. هذا جعل المستثمرين في الستينات وما بعدها يجدون في التعاون مع جهات سورية أو مصرية (أو الجهتين معاً أحياناً) البديل المناسب.
فنياً، هي كانت دائماً مثل الفتاة التي عليها الاعتماد على نفسها في هذا العالم المادي المحيط بها. ليس فقط أن الجمهور العربي لم يكن ليأبه لأي سينما باستثناء المصرية، بل كان من الصعب جداً الوصول إلى نيل احترام وإقبال الجمهور اللبناني نفسه.
الوضع في السنوات العشر الأخيرة تغير للأفضل ولو أنّه ما زال بعيداً عن الكمال. صارت للسينما اللبنانية أفلام تدخل المنافسات في معظم المهرجانات الأولى حول العالم. وهذا العام لا يختلف الأمر مطلقاً.
أحد الأفلام اللبنانية المقبلة على دورة مهرجانات واسعة، هو «الإهانة» لزياد الدويري. ذات المخرج الذي انطلق من لبنان قبل نحو 30 سنة بفيلم «بيروت الغربية» سنة 1989، وذات المخرج الذي صوّر «الهجوم» في إسرائيل، ما جعل الرقيب اللبناني يمنع الفيلم في وقت تداعى البعض لاعتبار الدويري «طبّع مع العدو»، ما يستحق معه تقديمه إلى المحاكمة.
«الإهانة» هو أحد الأفلام المتسابقة في مهرجان «فينسيا» المقبل. الفيلم الروائي الطويل الوحيد الذي يحمل اسم مخرج عربي، علماً بأن الإنتاج بالكاد لبناني كون تمويله الأول جاء من شركتي «روج إنترناسيونال» و«تيساليت برودكشنز» الفرنسيّتين. هذه الأخيرة يرأسها ويديرها المنتج والمخرج الجزائري الأصل رشيد بوشارب.
من شاهد الفيلم، مثل كوليت نوفل، رئيسة مهرجان بيروت السينمائي الدولي، أعرب عن إعجابه الكبير. تقول لنا السيدة نوفل: «لم أر شخصياً فيلماً جيداً كهذا بين كل الإنتاجات التي شاهدتها وأنا شاهدت الكثير. فيلم رائع إلى حد مذهل ويستحق التوجه إلى الأوسكار المقبل».
لكن بيننا وبين الأوسكار أكثر من شهرين ولو أنّ التحضير للاشتراك في سباق الأفلام الأجنبية في لبنان يتم الآن.
أحد الأفلام اللبنانية التي تستحق التوجه كذلك إلى هذا الحفل هو «اسمعي» لفيليب عرقتنجي: دراما روائية حول شخصيات هي من نتاج الحرب اللبنانية وإن لم تعشها فعلياً. قصّـة حب فيها منافذ متعددة على الوضع اللبناني الداخلي (على الأخص) حيث يقع الدرزي في حب الفتاة المسيحية. إلى جانب اختلاف الدين هناك الاختلاف الطبقي والفروق في التقاليد في مقابل ما قد يشكل تهديداً لإلغائه. عندما تدخل الفتاة المستشفى في حالة غياب عن الوعي الكامل (كوما)، يؤمن بطل الفيلم أنّ الأصوات التي يسجلها بمهارة من شتى مصادر الطبيعة بالإضافة إلى الموسيقى وصوت الذكريات التي جمعتهما كفيلة بشفائها.
صوب صناعة كاملة
في المضمار الفني ذاته أنهى المخرج اللبناني طوني جعيتاني فيلماً ذا بصريات غير مسبوقة وطرح بصياغة فنية رائعة عنوانه «اختفاء غويا»، ويمزج فيه بين أحداث تُروى وبين وقائع تُسجّـل. بالتالي لا هو فيلم روائي بالكامل ولا فيلم تسجيلي بالكامل ولا حتى عمل بين الاثنين. جهد المخرج المبذول لصياغة هذا الفيلم يتجاوز ذلك بطلاقة.
إلى جانب ما سبق، ومنذ أواخر السنة الماضية وحتى الآن، عرفت السينما اللبنانية أعمالاً أخرى من النوعية الفنية بأساليب مختلفة. «مخدومين» لماهر أبي سمرا، «ميل يا غزيّـل» لإليان الراهب، «يا عمري» لهادي زكّاك، «ربيع» لفاتشي بولغورجيان من بين أخرى.
في الوقت ذاته، لم تتوقف حركة الإنتاج الجماهيري التوجه خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي وحتى اليوم، فشهدنا «يللا عقبالكن شباب» لشادي حنا و«ماكس وعنتر» لعماد الرفاعي و«مرحباً في لبنان» لسيف الشيخ نجيب و«بينغو» و«السيدة الثانية».
هذان الفيلمان الأخيران هما لجمال سنّان الذي تقدّم على منافسيه في أكثر من مجال عمل. فهو يمول عدداً من الأفلام المصرية كل سنة (من بينها هذا العام «حلاوة الدنيا» مع هند صبري وحنان مطاوع وأنوشكا)، وعدد كبير من الأعمال التلفزيونية. كذلك يتوجه خليجياً وفي نيته تقديم ما هو جديد في مضمار الأعمال التلفزيونية.
«الغاية ليست التوسع بقدر السعي لخلق الصناعات المطلوبة لتقدم الحركتين السينمائية والتلفزيونية. والتوفيق حالفنا في هذا السعي على الرغم من المنافسة الشديدة. بعد الثورة المصرية استغلت المسلسلات التركية الفجوة التي تركها غياب المسلسل المصري ودخلت التلفزيونات العربية بقوّة. غايتي كانت، من عام 2014 وحتى الآن هي أن أنتج أفلاماً ومسلسلات على مستوى لا تستطيع المسلسلات التركية منافستها فيه». على الرغم من ذلك، فإن موقفه من السينما ذات التوجه الفني لن يتغيّر في المستقبل القريب: «نريد أولاً تقوية هذه الصناعة. لقد انطلقنا بها، لكنّها تحتاج لدعم وتحتاج لأن تقف بقوة على قدميها أولاً قبل أن نبدأ التفكير في تحقيق أفلام متخصصة. الأولوية الآن هي للأفلام التي تجد الرواج عند جمهور كبير».